الإنباء التاريخي في القصص القرآني والغاية الكبرى في ذكر أخبار السابقين
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
يقدم لنا القرآن الكريم معلوماتٍ مهمة عن طريق القصص القرآني عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة، كل التأييد، فيقدم لنا – عن طريق قصة موسى عليه السلام- كثيراً من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية، وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها . والأمر كذلك لقصة إبراهيم حيث تقدم لنا الكثير عن العراق القديم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنَّ أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم إنما هما قصتا إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهما قصتان مسهبتان في أجزائه، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعراق أمم الحضارة الإنسانية، وهما أمة وادي النهرين، وأمة وادي النيل، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم.
وأما عن بني إسرائيل فليس هناك من شكٍّ في أنه ليس هناك كتاب سماوي – حتى التوراة نفسها- قد فصل الحديث عن بني إسرائيل وأفاض في وصف اليهود وأحوالهم وأخلاقهم، وأبان مواقفهم من الأنبياء، كما فعل القرآن الكريم، وصدق الله العظيم، حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النمل: 76).
وأما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب الله الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأعني بها “سورة سبأ”، هذا إلا أنَّ القرآن الكريم قد انفرد دون غيره من الكتب المقدسة بذكر أقوام عربية بادت كقوم عاد وثمود، فضلاً عن قضية أصحاب الكهف، وسيل العرم، وقضية أصحاب الأخدود، إلى جانب قصة أصحاب الفيل، وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك .
- وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (هود: 49) .
- ويقول: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران: 44).
- ويقول: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص: 44- 46) .
- ويقول: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 120).
- ويقول: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ (الكهف: 13).
- ويقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111).
- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في وصف القرآن: “كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع من العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم” .
هدف القرآن من قصصه ومصداقيته الفريدة:
إنَّ هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ فقط لهذا القصص، وإنما عبراً تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين، وزجراً لخصوم الإسلام من قريش، ثم تثبيتاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم أمام أذى الكافرين، حيث شاءت رحمة الله بالمصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، أن تخفف عنه الشدائد والآلام، عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين، حيث يذكره الله جل وعلا بما لاقاه أخوة كرام له من عنت الظالمين، وبغي الكافرين، فما وهنوا وما استكانوا، وما ضعفوا وما تخاذلوا، ولكنهم صبروا، وصابروا، ومن هنا يخاطب الله رسوله الكريم في كتابه العزيز: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 120)، كما أن في هذا القصص بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط.
ومع ذلك يجب ألا يغيب عن بالنا – دائماً وأبداً- أنَّ هذا القصص إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله حيث يقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ (النساء: 87)، ويقول: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ (آل عمران: 62)، ويقول: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (البقرة: 252)، ويقول: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (آل عمران: 3)، ويقول: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ )فاطر: 31)، ويقول: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (الزمر: 2)، ويقول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (الجاثية: 6)، ويقول: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (محمد: 2).
ولذلك إنك إذا قرأت ما ورد في القرآن الكريم من قصص، فإنك لن تجد شيئاً من المبالغات التي وصلت إلينا من كتب التاريخ، أو في توراة اليهود المتداولة اليوم، فضلاً عن أنَّ ما ذكره القرآن الكريم صحيحاً تؤيده الاكتشافات الحديثة .
كقصة عاد وثمود اللتين تبين أنهما مذكورتان في جغرافية بطليموس، وأن هناك الكثير من النصوص التاريخية التي تتحدث عن ثمود، فضلاً عن أنَّ الكتَّاب اليونان والرومان، إنما ذكروا اسم عاد مقروناً باسم إرم كما جاء في القرآن الكريم.
وصدق الله العظيم، حيث يقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 42)، وحيث يقول: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (الأنعام: 92)، وحيث يقول: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (فاطر: 31).
وليس صحيحاً كذلك ما ذهب إليه البعض من أنه لا شك أنَّ إشارات القرآن الكريم إلى كثير من القصص، إنما هو دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائد الذي كان يتداوله الناس من بلاد العرب ؛ ذلك لأن العرب ما كانوا يعرفون شيئاً عن كثير من قصص القرآن، وعلى سبيل المثال، فإنَّ القرآن الكريم يختم قصة نوح بقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ﴾ (هود: 49).
فلو كان العرب يعرفون هذه القصة مثلاً، وأنها كانت من قصصهم الشعبي الذي يتداولونه في أسمارهم، أفكان العرب – وفيهم أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم- من يسكت على قوله تعالى: “مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ”، أليس من المنطق أنَّ أعداء المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد كانوا دائماً على يقظة يتمنون أقل ثغرة، ليوجهوا من خلالها ضرباتهم، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء، سوف يجيبونه أنهم يعرفون القصة، بل إنها من أساطيرهم التي تفيض بها مجالسهم ونواديهم، ولكن التاريخ لم يحدثنا عمن أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، مما يدل على أن ما جاء به القرآن الكريم من أخبار الأمم البائدة، كان شيئاً يكاد يجهله العرب جهلاً تاماً، وإن كان يعلم بعضاً منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل .
__________________________________________________________________
المصادر والمراجع:
- علي محمد الصلابي، نوح عليه السَّلام والطوفان العظيم، ص 60-65.
- جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1974م.
- محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 15.
- عباس محمود العقاد، مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، دار نهضة مصر، القاهرة، 1955م، ص 61.
- محمد بيومي مهران، دراسات تاريخية في القرآن الكريم، 1/47.