مقالاتمقالات مختارة

الإمام الأوزاعي .. دوره الاجتماعي والسياسي

الإمام الأوزاعي .. دوره الاجتماعي والسياسي

بقلم د. عبد القادر بوعقادة

يعتبر الإمام الأوزاعي من فقهاء ومجتهدي عصر النهضة الفقهية() ببلاد الإسلام، حيث أسس مدرسة بالشام حاولت أن تتخذ لنفسها موقعا مميزا حينما انتقدت فقه العراق وناقشت مسائل أهل الحديث نشأت في عهد الأوزاعي لكن لم يُكتب لها النجاح بفعل الظرف الزماني وميل الناس إلى التخندق مع إحدى المدرستين المعروفتين آنذاك: مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي. وما يبعث على هذا الطرح هو ميل أهل الشام فيما بعد زوال الأوزاعية إلى الفقه الشافعي الذي أسس أصول الفقه وأوجد طريقا ثالثا، وإن عدّ البعض مذهبيهما (الأوزاعي والشافعي) من مدرسة الحديث إلا أن مميزات المنحى الثالث هذا قد اختلف في ملامحه عن المدرستين السالفتي الذكر وانتقدهما، وهو موضوع يحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء عليه والبحث فيه .
لقد صاغ الأوزاعي إضافات مهمة في تاريخ التشريع الإسلامي، إذ هو المعتمد بصفة واضحة في قضية التعامل مع غير المسلمين، سواء في السلم أو الحرب بحكم المكان والزمان، ولم يكن الأوزاعي يهتم بهذا الشأن فحسب بل كانت له اهتمامات في ميادين اجتماعية وسياسية، ولم يُكتب لأفكاره واجتهاداته أن تبرز لعوامل عديدة، ولكن ولحسن الحظ وجدنا فقهه منثورا لدى أصحاب المذاهب الباقية، مثل مؤلفات المذهب الشافعي.
والموضوع يسلط الضوء على دور الإمام الأوزاعي في الشأنين الاجتماعي والسياسي وتعاطيه مع واقعه، إذ كان للفقهاء سلطة في هذا العهد الذي عاشه الأوزاعي، ونظرا لهذه السلطة الروحية التي كانت مخالفة في المبنى والمعنى لسلطة الكنيسة، فإن جميع أفراد المجتمع من مسلميهم إلى ذميهم وجدناهم في بلاد الشام يلتفون حول الأوزاعي ويعتبرونه الشخصية المميزة التي يُعتمد عليها في قضاء شؤونهم إذا ما جابهتهم صعوبة أو استعصى عليهم أمر تجاه الأمير أو حتى الخليفة، وفي هذا يظهر دور الإمام الأوزاعي تجاه مجتمعه بمختلف شرائحه، كما لم تمنعه صلاته بالخلفاء والأمراء وموقعه عندهم من توجيه النصيحة أحيانا واللوم أحايين أخرى، وسنتطرق في هذه الورقة إلى هذا المعنى لإبراز بعض ملامح شخصيته ومواقفه من قضايا المجتمع وعلاقاته مع السلطان، وذلك بالاعتماد على ما وجدنا في مناقبه من خلال الكتابات المعاصرة له واجتهادات علماء عصرنا الذين كان لهم السبق في التنقيب عن فتاويه ومناقبه، وقد قدموا عملا جليلا لم يقدمه تلامذته في عصره أو بعده.
التعريف بالإمام الأوزاعي :
هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد والأصل محمد()، وكان اسمه عبد العزيز(). أجمع العلماء على إمامته ومقدرته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وزهده وعبادته، وقيامه بالحق، وكثرة حديثه، وغزارة فقهه وشدّة تمسكه بالسنة وبراعة فصاحته، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم به.
اختلف في أصله بين النسب العربي والأعجمي، فقيل الأوزاع بطن من حمير()، وقيل هو
من همدان() من سبي السند(). ولكن من المؤكد أنّ أصله ليس من بلاد الشام بل قدم إليها أجداده وفيها مسقط رأس أبيه. أما كلمة الأوزاع فهي في اللغة الفرق، وهي إسم لموضع مشهور بربض دمشق سكنه بقايا من قبائل شتى(). وقيل الأوزاع بطن من بطون العرب يجمعها هذا الاسم(). والقول أنّه من همدان وسبي السند ضعيف الحجّة، ونرجح بأنّ الأوزاع قرية() من جهة باب الفراديس سميت بقبيلة من اليمن نزلت بها واستوطنتها.
والقبيلة التي نزلت المنطقة هي بنو مرثد بن زيد بن سدد، وقيل شدد بن زرمة بن سبأ الأصغر، وقيل زرعة بن كعب بن زيد بن عريب بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير ()، سكنت القبيلة ظاهر باب الفراديس فسمي المكان أوزاع. وقد ولد الإمام سنة 88ه/ 707م() ببعلبك ()، ونشأ بالكرك()– قرية البقاع – ثم نقلته أمه إلى بيروت. ()
نشأته ومكانته: عاش الأوزاعي في ظل العهدين الأموي والعباسي، وعاصر تسعة خلفاء أمويين() وخليفتين عباسيين(). وقد تميزت هذه الفترة بالعلم والعلماء في مختلف الميادين والفنون الشرعية منها: علوم القرآن والحديث والفقه، والكلام والأدب والإدارة والتنمية، وفيها عرّبت الدواوين، وانتشرت الترجمة وازدهرت حركة العمران ببلاد الشام()، وقد كانت بلاد الشام تضم جبل لبنان وساحله، كما تضم سوريا في الداخل وفلسطين والأردن جنوبا، كما اشتهرت هذه المنطقة بالتسامح الديني مع أهل الكتاب منذ أيام مؤسسها معاوية ()..
ولعل العصر الذي عاش في خلاله الأوزاعي، ثمّ البيئة التي ترعرع وشبّ فيها، واليتم الذي رسم طفولته، والرحلات التي تعود عليها منذ صباه -حيث نشأ في البقاع في حجر أمه بعد مولده ببعلبك وكانت فتوته وعيشته في بيروت()- كل هذا جعل شخصيته تتميز بالجدية والاهتمام بالأمور أكثر من غيره، إذ تقلد مسؤولية نفسه وأمّه، فشبّ على تحمل الصعاب.
لقد تأدب الأوزاعي بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء أعقل ولا أورع ولا أعلم ولا أنصح منه، قال العباس بن الوليد بن مزيد العذري البيروتي وهو من كبار المحدثين: «ما رأيت أبي يتعجب من شيء تعجبه من الأوزاعي فيقول: يا بني عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدبه». ()
كما استطاع أن يتبوأ درجة رفيعة في العلم بالرغم من يتمه وفقره فصار إماما يقتدى به وفقيها يفد إليه الناس، ونال فصاحة اللسان وبلاغة البيان وحلاوة المنطق، ما جعل المنصور يتمنى لو كان الأوزاعي يكتب له رسائله وخطاباته(). كان رحمه الله فوق الرّبعة خفيف اللحية، به سمرة وكان يخضّب بالحناء، ويلبس الطيلسان الأخضر، والعمامة ويحض عليها، وكانت عمّته مدورة بلا عذبه. ()
تتلمذ الأوزاعي عن كبار التابعين الذين يعتد بهم، وأبرزهم عطاء بن أبي رباح() والقاسم بن مخيمر()، ومحمد بن المنكدر()، وخلق كثير، وأبرز من تأثر بهم هو شيخ اليمامة() يحي بن أبي كثير() الذي روى عنه العديد من التابعين رغم أنه من تابعي التابعين(). ولعل تتلمذ الأوزعي وروايته عن جمع من العلماء تظهر لنا أمرين اثنين:
أ- مدى كدّ الإمام ومثابرته في البحث عن العلم والعلماء والتلقي عنهم .
ب- تنوع علمه وغزارته حيث تلقاه من مصادر متنوعة شامية وعراقية وحجازية، إذ كان يبحث دوما عن السند العالي، وهذا ما أدى إلى تكوين شخصيته العلمية الفذة رغم فقره ويتمه.
كما كان الأوزاعي يعيش في كنف أسرة تحب العلم وتسعى إليه بكل وسيلة، فله أخ أكبر منه اسمه عبد الله، وابن عم واحد وهو يحي الشيباني أبو زرعة()، وكان له من زوجاته ثلاث بنات وصبي().
اعتنى الأوزاعي بنفسه منذ صغره، واتّبع درب العلم وسيلة لذلك، فكان أن نال مجد العلم، وأثّر فيمن حوله، وقد كان له نبوغ منذ صغره إذ أفتى في المسائل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وفي الحدود وهو ابن سبع عشرة سنة وكان مهتما بالحديث().
تفرّس فيه العلم والنبوغ أحد أعلام تلك الفترة وهو يحي بن أبي كثير حينما خرج الأوزاعي مع البعثة إلى اليمامة وأتى مسجدها وصلى، وكان يحي بن كثير قريبا منه فجعل ينظر صلاته فأعجبته()، ثمّ جلس إليه وسأله عن بلده وغير ذلك فأعجبته شخصيته وعلمه، ونصحه بالبقاء لأخذ العلم، فأقام الأوزاعي عنده مدّة يكتب عنه()، ونظرا لرغبة يحيى بن أبي كثير في أن يزداد الأوزاعي علما نصحه أن يرحل إلى مواطن أخرى يأخذ العلم، وأرشده إلى الرحلة نحو البصرة ليسمع من الحسن البصري()، ومحمد بن سيرين() فسار إليهما ولكنه وجد الحسن قد مات منذ شهرين، وابن سيرين مريضا، فبقي يتردد عليه إلى أن مات ولم يسمع منه شيئا().
قام الأوزاعي منذ صباه بعدة رحلات زادت من علمه وحلمه وصبره، فسافر إلى اليمامة ثم البصرة، فالكوفة وبذلك العراق عامة ثمّ إلى الحجاز حيث الحج ومقابلة العلماء أمثال الثوري ومالك، وعاد إلى دمشق بعد هذه الجولة للدرس، فحدّث بها وصار يزار من قبل طالبي العلم. ومن المعلوم أن رحلة العلماء في طلب العلم كان تهدف إلى تحقيق عدة أغراض أهمها طلب العلم، وتوثيق الحديث وتحصيله والتثبت منه وطلب العلو في السند والبحث عن أحوال الرواة ومذاكرة العلماء في نقد الحديث.()
علمه وفقهه: أما علمه وريادته للحديث فكان ممن تزعم الأمة في هذا الباب، قال عنه صاحب الطبقات ابن سعد: «كان ثقة مأمونا، صدوقا خيرا كثير الحديث والعلم والفقه»()، وصنفه عبد الرحمن بن مهدي من أئمة العصر() فقال: «إنّما النّاس في زمانهم أربعة حماد بن زيد() بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام»، وأنّه ما كان بالشام أحد أعلم بالسنة من الأوزاعي، إذ أجاب في سبعين ألف مسألة”()، ومما يستدل به على علمه ما كان من أصحاب المذاهب في اعترافهم بذلك، «يقول الإمام مالك: الأوزاعي إمام يقتدى به، ويقول الشافعي: ما رأيت رجلا أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي»()، وحكم عليه الإمام أحمد بن حنبل بأنّه «ثقة وإمام» ().
إنّ هذه الشهادات لا تكمن قيمتها في تلك الأحكام التي صدرت في حقه من حيث مكانته وعلمه، بل أهميتها تكمن في قائليها وهم أئمة، ورجل يحكم في علمه وحديثه الشافعي صاحب الأصول وجامع العلم والذي تتلمذ على الإمام مالك وعلى تلاميذ أبي حنيفة رجل فريد زمانه، قوى فكره وفقهه، والأقوال في علمه كثيرة وفي حديثه وفقهه جمّة لا يمكن حصرها. ولم يكن الأوزاعي بارعا في العلم فقط بل كانت له كتابة أكثر روعة، وذلك ما يظهر على مستوى الترسل الذي أتقن فنه وحسُن فيه أداؤه().
أما طريقته في التعلم فقد “حرص على السّماع من الشيوخ ومارس العرض قبل الإجازة، ووضع قواعد للحديث ارتضاها الخلف الأخيار ولا تزال قائمة إلى اليوم، وكان حجة ثقة حافظا يحرص على الأخذ عن الثقات ويرى في الذهاب للإسناد ذهابا للدين، ودعا لإصلاح الخطأ واللحن في الحديث الذي يقع فيه الرّواة”(). وكان يحبذ الطريقة التقليدية في تلقي العلم مشافهة رجلا عن رجل حتى لا يقع الخطأ، والمقصود بذلك أن يحفظ الرجل العلم عن ظهر قلب فيقول: “كان العلم كريما يتلقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله” ().
إنّ السماع عن الرجال يقتضي السؤال والمناقشة، فتتفتق الأذهان، وتبرز الحجة، أما إن صار العلم يؤخذ من الكتب فربما تقع كلمة غير مفهومة عن صاحبها فينحرف القول، خصوصا وأنّ النقط والشكل لم يكونا إلاّ جزئيا. وهكذا يؤخذ العلم معاناة وصبرا، ورحلات إلى بلاده، أما إن كان العلم هو الذي يرحل إلى الرجل، فعاقبة ذلك الدعة والكسل.
انتشار مذهب الإمام الأوزاعي:
كان الأوزاعي إماما فذّا عارفا مهتما بالحديث له مواقف وآثار، وفرض فتواه على الناس لما تحمل من قوة طرح ومصادر استنباط ورجحان عقل، فكان لابد أن يحوز المكانة التي وصل إليها ابتداء من منطقته التي ترعرع فيها ونبغ ثم إلى المناطق الأخرى التي سار إليها تلامذته وأخذت فتواه إليها.
ذاع صيت الأوزاعي وانتشر فكره واعترف له العلماء بالفضل في الفتيا والعلم، مما جعل الإمام الشافعي يقدمه على الإمام مالك، واحترمه الأحناف واعتبروه حينما وصلهم فقهه وردوده في مجال السير.
كان الأوزاعي إمام أهل الشام بإجماع المؤرخين، وقد لبث أهل الشام إلى أواسط القرن الرابع الهجري يعملون بمذهبه()، فكان لا يلي القضاء ولا الخطابة بجامع بني أمية إلاّ من كان على مذهبه()، وكان آخر من عمل بالمذهب الأوزاعي القاضي أحمد بن سليمان بن حذلم المتوفى سنة 347ه/958م().
ويروى أنّ مذهبه بقي منتشرا في بلاد الشام، ولم يُقض عليه إلاّ بعد أن تطور مذهب الإمام الشافعي وانتشر في العراق والحجاز ومصر ووصل إلى الشام، وصار قضاء الشام شافعيا، وتولى أبو زرعة محمد بن عثمان() وهو من أتباع الشافعي فعمل على نشره. وأنّ هذا القاضي الشافعي عمل على نشره “إذ كان يهب لمن يحفظ مختصر المزني() مائة دينار، وكثرت الدعوة للمذهب الشافعي فانقرض مذهب الأوزاعي هناك بالشام” ().
كما انتشر المذهب الأوزاعي في أماكن أخرى أهمها بلاد المغرب والأندلس، إذ دخل المسلمون بلاد الأندلس أيام موسى بن نصير()، وكان معه نفر من الصحابة والتابعين، وبدخول الإسلام إليها برزت العلوم الإسلامية حيث صار روادها هؤلاء الفاتحون، وافتخر أهل الأندلس بهؤلاء الرواد ومنهم حنش الصنعاني()، وعلي بن رباح()، والمنيدر الإفريقي(). ثم كان دخول مذهب الأوزاعي إلى هذه البلاد في أعقاب الأمويين الذين فروا إليها من الشام بعد ذهاب دولتهم” ().
ويذكر أنّ انتقال المذهب إلى الأندلس كان بمجيء صعصعة بن سلام الدمشقي () الذي انتقل من دمشق إلى قرطبة()، والذي تقلد منصب الإفتاء بها وبقي هذا المذهب غالبا فيها أربعين سنة ساد خلالها الفتيا والقضاء حتى نهاية القرن الثاني للهجرة، وذلك زمن الأمير الأموي الثالث الحكم بن هشام() حيث غلب مذهب الإمام مالك() أي أنّه ساد الأندلس منذ زمن الأمير الأموي الأول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام (172.113ه/788.731م) إلى زمن ثالث أمرائهم الحكم بن هشام (180-206 ه/796 -822 م)().
انقرض مذهب الأوزاعي بالأندلس بعد دخول مذهب الإمام مالك إليها، وكان أول من أدخله زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشبطون المتوفى سنة (193ه/808م)، وذلك بأن جلب إليها موطأ مالك ثم تلاه يحي بن يحي()، وقد انتشر علم مالك بنصرة الأمير في قرطبة وسائر بلاد الأندلس() وباجتهاد تلامذته الذين أسسوا لهذه المدرسة بالغرب الإسلامي عموما والأندلس خاصة.
تأثر الناس بفقه الأوزاعي وسيرته ومضوا على طريقته، ومنهم ابنه محمد الذي عاش بعده بعشرين سنة، وصهره زوج ابنته عبد الغفار بن عثمان، وكاتباه عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين()، ومحمد بن زياد المكنى بعبد الله والملقب بهقل (ت179ه/ 795م)، ومنهم أمير الساحل أرسلان بن مالك اللخمي جد العائلة الأرسلانية (ت181ه)، وقاضي دمشق محمد بن حرب الخولاني (ت194ه/809م)، وعالم دمشق الوليد بن مسلم (ت195ه/م810م)، وقاضي بيروت الوليد بن مزيد العذري (ت203ه/818م)، وعمرو بن أبي سلمة (ت213ه/828م). وقيل إن الخيزران زوجة المهدي وأم هارون الرشيد كانت قد أخذت عن الأوزاعي العلم.
كما اشتهر من أتباعه المحدث عبد الرحمن بن إبراهيم (المعروف بدحيم) الذي ولي قضاء فلسطين والأردن وتوفي بالرملة سنة 245ه/ 859م، ومن أتباعه عبد الله بن إسماعيل، ومحمد بن عبد السلام البيروتي، وأبو الفضل العباس بن الوليد البيروتي المتوفى سنة 270ه.
وأما من تأثر به في الأندلس وأدخل علمه إلى هذه البلاد فهم: صعصعة بن سلام الدمشقي، وساشاطو بن سلمة، ومحمد بن أحمد العتبي (ت255ه/ 868م) الذي انتقل فيما بعد إلى المذهب المالكي .
ودُونت في المذهب الأوزاعي العديد من المدونات لا نعثر عليها الآن لاندثارها، إلاّ أن الأبحاث لا تزال جارية فيما يخص فتاويه وبعض الكتب التي كُتبت في فقهه وآرائه.
آثار الإمام الأوزاعي:
لم يصل إلينا من آثار الأوزاعي الفقهية والعلمية إلا الشيء القليل مقارنة مع باقي الأئمة، وذلك لأسباب، إلاّ أنّ بعضا منها ذكر في كتب الطبقات وأهم آثاره ما يلي:
– كتاب السنن في الفقه، وكتاب المسائل كذلك في الفقه()، وهي فتاوى يقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة أجاب عنها كلّها().
– كتاب في السير، في علاقة المسلمين بغير المسلمين زمن الحرب، والذي هو عبارة عن رد على الأحناف، حيث أن الإمام أبا حنيفة هو أقدم من ألّف في السير، وأملى كتابه هذا على تلامذته فرووه عنه وهذبوه حتى نسب إليهم، نحو كتاب “السير الصغير” للإمام محمد بن الحسن (). وقيل لما وقع “السير الصغير” في يد الأوزاعي نظر فيه وقال: لمن هذا الكتاب؟ فقيل له: لمحمد العراقي، فقال الأوزاعي: ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب! فإنّهم لا علم لهم بسير ومغازي الرسول وأصحابه، كانوا من جانب الشام والحجاز دون العراق، فصنف الأوزاعي كتابا في السير ردّا على ذلك، فأثار محمدا بن الحسن، فألف كتابه المعروف بكتاب “السير الكبير”، وألف أبو يوسف كتابا في الرد على سير الأوزاعي، وكتاب أبي يوسف نادر جدا لا توجد منه إلاّ نسخة واحدة في الهند(). وقد روى ذلك الإمام الشافعي في كتاب الأم، وعقب على كل مسألة برأيه، فكان ينتصر للأوزاعي، وكانت أكثر الإجابات عمدتها السنة ().
– كما أنّ هناك بعض الرسائل كتبها الإمام الأوزاعي إلى وزراء وخلفاء وولاة تتضمن آراءه الفقهية، وبعض القضايا، منها توسطاته لأهل بلده ().
– ومن أوسع ما كتب في موضوع فقه الأوزاعي رسالة صغيرة هي “محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي”، وهي لابن عباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يزيد الحنبلي (ت 870ه/1465) وكان الذي حققها هو العلامة شكيب أرسلان. وكتاب آخر بعنوان “مقام الأوزاعي عند الملوك” في كتاب مكارم الأخلاق، لمؤلف مجهول في القرن الرابع الهجري، وهو موجود في البنغال ().
– كما كانت للإمام الأوزاعي دار ببيروت يدرّس فيها الفقه. وأثناء الحروب الصليبية دمّرت كلّ المساجد والزوايا ببيروت إلاّ هذا البيت، ربما نظرا لوساطته لنصارى جبل لبنان، ووفاء لحرمة الأوزاعي الذي كان يشفع لهم لدى الحاكم صالح بن علي العباسي()، إلاّ أنّ المكان دمّر أثناء الحملة الفرنسية إليها وأقيم فيه حوانيت ولم يبق سوى غرفة كبيرة بنيت مؤخرا فوق حوانيت يصعد إليها بالسلم للصلاة كتب عليها اسم جامع الأوزاعي ().
– وتوجد آراؤه وفتاويه في كتب الطبقات والتراجم واختلاف الفقهاء والفقه المقارن وكتب الحديث، يقول الأستاذ مكلوش موراني: «ليس واضحا إلى حد بعيد إلى أي مدى فقد المذهب الأوزاعي استمراريته وتأثيره في الغرب الإسلامي، ولكن تمكننا بعض الفتاوى التي اعتمدها المالكية في كتبهم من التعرف على تأثيره بوضوح، وبالأخص رواية كتابين له في حلقة المالكية في قضية الجهاد والسير، وهما: كتاب السير لإبراهيم بن محمد بن إسحاق الفزاري (ت. حوالي 190ه)، وهو كتاب أسس إلى حد بعيد على دروس الأوزاعي، وقد قرأه في الأندلس المالكي محمد بن وضاح (ت286ه/899م)، وكتاب السير الثاني هو سير الوليد بن مسلم عن الأوزاعي رواه في بادئ الأمر ابن وضاح ثم انتشر في حلق العلم المالكية في قرطبة وطليطلة»().
كما اجتهد علماء عصرنا في إبراز شخصية الإمام الأوزاعي وفقهه وآثاره من خلال مؤلفات غاية في الدقة والحرص على إخراج مكنونات الإمام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
•  كتاب “الرد على سير الأوزاعي”، عمل على تحقيقه أبو الوفا الأفغاني، وهو مخطوط وجد بالهند. وهو مطبوع.
•  كتاب “الإمام الأوزاعي” للمرحوم أنيس زكريا وقد ألفه سنة 1950م.
•  كتاب “الإمام الأوزاعي” سيرته الشخصية وتعاليمه وآراؤه للأستاذ شفيق طبارة مؤلف سنة 1965م.
•  كتاب “عبد الرحمن الأوزاعي شيخ الإسلام وإمام أهل الشام” لطه المتولي ويوجد على شكل مقالات في مجلة الفكر الإسلامي .
•  كتاب جامع لفقه وآراء الأوزاعي لمروان الشعار عنوانه “سنن الأوزاعي”.
•  كتاب “الأوزاعي وتعاليمه الإنسانية والقانونية” لصبحي المحمصاني.
•  كتاب محمد رواس قلعة جي الموسوم بــــــ”موسوعة فقه الإمام الأوزاعي”.
•  كما قدمنا دراسة حول المذاهب الفقهية المندثرة لأجل نيل شهادة الماجستير على مستوى جامعة الجزائر تتضمن المنحى الفقهي للإمام الأوزاعي.()
الدور الاجتماعي لمذهب الإمام الأوزاعي :
كان الأوزاعي ممن يهمه أمر الأمة ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وإراحة عباد الله، ولذا حكم له الإمام مالك بأنّه يصلح للإمامة، وأكد ذلك أبو إسحاق الفزاري بقوله: “الأوزاعي رجل عامة، ولو خُيِّرت لهذه الأمة لاخترت الأوزاعي”().
ولا شك أن هذه الأحكام إنما صدرت لميزات في شخصية الإمام الأوزاعي أهمها سمة التواضع، إذ كان السائل يوقفه في الطريق ليقضي في مسألته فلا يترفع عنه، قال الفزاري أبو إسحاق: «ما رأيت أحدا أشد تواضعا من الأوزاعي ولا أرحم بالناس منه، كان الرجل يناديه فيقول له: لبيك، وكان أفضل أهل زمانه”()، وسر ذلك يكمن في أنه تأدب في حجر أمه يتيما فقيرا، فعرف بذلك معاناة الآخرين، واستأنسوا هم بوجوده().
لقد تسايرت مواقف الأوزاعي الاجتماعية وفق ما كان يتسم به الشام من اختلاط في الأجناس والأديان وتداخل المسلمين مع النصارى، فقام فقهه على أساس مراعاة هذا التنوع واعتباره، وصار الفقهاء لا يتحدثون عن عنصر أهل الذمة في المجتمع الإسلامي إلا بالاستناد إلى رؤى الإمام الأوزاعي واجتهاداته في هذا الشأن. ووصف فقهه بالرحمة تجاه شريحة اجتماعية مهمة في بلاد الشام، وكان يؤصل لفتاويه من خلال الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين الذين تفرقوا في الأمصار وخالطوا غير المسلمين.
نجد ذلك في عرضه لسيرة عمر بن الخطاب في تطبيق الجزية إذ يقول: «كتب عمر بن الخطاب في أهل الذمة أنه من لم يطق منهم فخففوا عنه ومن عجز فأعينوه، فإناّ لا نريدهم لعام أو عامين()، وكان يُنصف من يشكو إليه من نصارى ويهود، ومثال ذلك أنه حينما علم أن الوليد بن عقبة قد توعد النصارى وخشي أن يوقع بهم شرا عزله وولى غيره(). ومرّ عمر برجل يهودي يسأل عند الأبواب فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال اليهودي: الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجد عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت مال المسلمين قائلا: «انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم»، ووضع عنه الجزية(). وهذا تأسيس لما يُعرف اليوم بالضمان الاجتماعي تجاه ذوي الحاجة وكبار السن ومن لا يقدرون على العمل لعاهة مهنية أو مستدامة، ومن هنا فهو يعتبر -عمل عمر بن الخطاب- أنموذجا حيّا في سياسته الاجتماعية .
والحقيقة أن سياسة الإسلام في فرض الجزية تهدف إلى التأكيد على المسالمة والحرص عليها، فإعطاؤها للحاكم المسلم برهنة على عدم حربهم للإسلام، وأنها بعض ما يجب عليهم مقابل الحماية والدفاع عنهم، فهي من باب قاعدة الغرم بالغنم والخراج بالضمان، وفي إعطائهم إياها عن يد وهم صاغرون مجال للتفكير في الدخول الحر في الإسلام، سواء بالنظر إلى ما قد يُدركونه من عدل الإسلام ورحمته وسماحته، أو بالنظر إلـــــى العمل علــــــى التخلص من ذلــــــها وصغارها.()
ومن دلائل الرحمة التي يتسم بها فقه الأوزاعي والنابع من روح الإسلام ومدى فهمه لمقاصده ما أقره في مسألة الرهائن الذين يكونون بيد المسلمين هل يقتلون بغدرهم، أجاب فيها بعدم قتل الرهن ولو غدروا()، وهو يتجه في هذا الشأن إلى تفسير الحديث النبوي الشريف المروي عن طريق الإمام علي كرم الله وجهه: “لا يقتل المؤمن بكافر”() بأنه يخص الكافر الحربي وليس أهل الذمة، ويؤيد ذلك بما أُثر عن الإمام علي أيضا أنه حكم بقتل المسلم الذي قتل ذميا قائلا: «من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا”().
لقد كانت صفة الرحمة في شخص الأوزاعي أصيلة اصطبغ بها منهجه الفقهي وهو ما أوضحه صاحب الحلية بقوله: بلغني أن نصرانيا أهدى إلى الأوزاعي جرّة عسل وقال له: يا أبا عمرو تكتب لي إلى الوالي ببعلبك؟ فقال الأوزاعي: إن شئت رددت لك الجرة وكتبت لك وإلاّ قبلت الجرة ولم أكتب لك، فرد الجرة وكتب له، فوضع الوالي عن النصراني ثلاثين دينارا().
لقد كان لموقع أهل الذمة في التشريع الإسلامي وفي فتاوى الأوزاعي وفق فهمه للشريعة الموقع اللائق، فمن فُتياه القول بجواز شهادة غير المسلم ولاسيما الذمي للضرورة في وصية المسلم أثناء سفره وفق الآية الكريمة: ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكـم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إذا أنتم ضربتم في الارض﴾()”().
عرف أهل الذمة قدر الإمام وموقعه وتلمسوا ذلك بفقدانه، إذ حينما سُمعت الصيحة بوفاته شوهد أحد النصارى يذرّ الرماد على رأسه حزنا على فراقه، واجتمع على جنازته كما يذكر عبد الحق الإشبيلي (ت510ه) دفين بجاية عددا لا يُحصى منهم، بل ويُذكر أن الكثيرين قد أسلموا في ذلك اليوم لما رأوا من كثرة الخلق عند دفنه()، مع الملاحظة على ضرورة التحرز من المبالغات التي قد يقع فيها البعض بفعل عدّة ميولات أو ضغوطات في هذا الشأن، وهي كثيرة في الكتابة التاريخية .
ومن المسائل التي اهتم بها الأوزاعي وعمل على التحذير منها الخوض في الأمور المشتبهة والأغلوطات، وافتراض المسائل، خشية أن يختلف الناس ويميلوا إلى سفاسف الأشياء ويبتعدوا عن المسائل الجادة، باعتبار أن الأغاليط تذهب الجهد وتفرق المجتمع وتؤدي إلى الهاوية، وقد رُوي عنه أن النبي  نهى عن الأغلوطات، وقد فسرها بـصعاب المسائل، فهو يذهب مذهب ابن سيرين الذي كان إذا سُئل عن مسألة فيها أغلوطة قال لصاحبها: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس().
ويظهر اعتداله ورأفته في المسائل الحربية في الموقف الشرعي للمجاهد المسلم تجاه من لم يحاربوا – الأطفال والنساء- حيث قال بوجوب حماية هؤلاء الضعفاء، وهو عكس ما ذهب إليه بعض الفقهاء حينما أفتوا بجواز رميهم ورمي حصونهم إذا تترس العدو بهم، في حين رأى الأوزاعي عدم جواز ذلك لأنهم يرمون ما لا يرون وقد يكون هؤلاء من أبناء المسلمين، مثلما أفتى كذلك بتجنب رمي الحصون بالمنجنيق، وأقر بأن حصانة هؤلاء الأطفال والنساء تسقط إذا ثبت وتُيقن من مساهمتهم ومحاربتهم إلى جانب العدو، والأمر ينسحب كذلك على العجزة ورجال الدين والفلاحين والعمال().
كما بين الأوزاعي حدود الإسلام تجاه شريحة أخرى مهمة في المجتمع الإسلامي في تلك العصور وهي فئة الرقيق، حيث وافق الجمهور في صحة إمامة العبد اعترافا بإنسانيته وإلحاحا على حسن معاملته والسعي لتدبير حريته، وحرّم الضرب المبرح في حقه أو حرقه أو قطع أحد أعضائه، وأفتى أنه من مُثل به من هؤلاء فقد وجب عتقه. وفي باب العتق أيضا أفتى بأن العبد إذا ملكه سيدان وأعتقه أحدهما يصير حرا معتقا، وحصة الثاني يدفعها المُعتق إن كان موسرا وإلا دبّر المال ولا يرجع بشيء على العبد. وأن الوصية بعتق العبد بعد الوفاة تقع وهذا ما يُعرف بالتدبير، واعتمد قول عمر بن الخطاب في قضية أمهات الأولاد (أبناء السيد من جاريته)، حيث نهى عمر بن الخطاب عن بيعهن بقوله “قد خالطت دماؤنا دماؤهن”، وجمهور العلماء على هذا، إلاّ أن الأوزاعي أضاف على ذلك “إن كان السيد قد أعطى لأم ولده شيئا في حياته فهو لها إن مات، ولا يُعد من ثلث ماله على غرار الوصية().
وفي فقه الأوزاعي أحكام عديدة تدل على فهمه العميق لروح الإسلام وأبعاده الرامية إلى إرساء معالم التسامح والعدالة وقيمة الحريات، وهي أحكام تبرز مدى التدبير الذي يتسم به الأوزاعي ومعرفته بواقع الحال والمجتمع، وترمي إلى دفع المجتمع بكل اختلافاته إلى الانطلاق والتحرك وأن لا يبقى حبيس قضايا يمكن تجاوزها، ومن ذلك فتاوى أوردها الباحثون منها مسألة الحكم على الغائب والهارب من العدالة، إذ أقر الأوزاعي بوقوع الحكم رغم الغياب وذلك بعد سماع البينة واكتمال شروط الحكم، وطرحت مسألة الغائب الذي انقطع خبره ولا يُعرف مكانه ولا حياته من موته، وهي المسألة المعروفة اليوم بمصطلح المفقودين ببلادنا الجزائر وما يترتب عنها كبقاء الزوجة على عصمته أم يبطل ذاك الزواج، وقد مال الأوزاعي في رأيه بأن الزوجة تبقى على العصمة لمدة أربعة سنوات متربصة ثم -إن لم يظهر الزوج- تعتد عدّة الوفاة(). وهذه المسألة من أعقد المسائل التي تسيطر على الواقع الإسلامي في الآونة الأخيرة خصوصا في بلادنا الجزائر التي مرت بمرحلة عصيبة، حيث غاب الكثير من الأزواج فلا تُعرف حياتهم من وفاتهم ولا مكانهم أهم في داخل البلد أم خارجه.
كما نبه الأوزاعي في فتاويه وتوجيهاته إلى ضرورة التآزر الاجتماعي والتماسك وتجسيد معاني التعاون والتآخي بتحذير المجتمع من بعض الأمور التي قد تعصف بهذه المثل السامية، كحثه على الصدقة وتحذيره من الرجوع فيها، وهذا بإيراد أحاديث شريفة منها روايته لحديث عن عبد الله بن عباس عن النبي  يقول: «مثل الراجع في صدقته كالكلب يأكل ثم يقيئ فيرجع في قيئه فيأكله»().
لأجل ذلك اعترف علماء عصره بحاجة الناس إلى أمثاله، يقول أبو إسحاق الفزاري: «ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي وسفيان الثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي لأنه كان أكثر توسعا، وكان والله إماما إذ لا نصيب اليوم إماما ولو أن الأمة أصابتها شدة والأوزاعي فيها لرأيت لهم أن يفزعوا إليه». وقال ابن المبارك: «لو قيل لي اختر لهذه الأمة لاخترت الثوري والأوزاعي، ثم لاخترت الأوزاعي لأنه أرفق الرجلين» ().
ويبرز دوره الاجتماعي أيضا في العمل على صيانة العقيدة والاهتمام بتماسك المجتمع، إذ اشتهر عصره بظهور البدع والزندقة والمروق عن الدين والانقسام في صف الأمة الإسلامية، فكان موقفه الدفاع عن المبادئ الاجتماعية وصيانة المجتمع في عقيدته.
ففي العلاقة بين المسلمين: رأى الأوزاعي وعايش الاقتتال بين المسلمين منذ نعومة أظافره، وكانت نفسه تشمئز من هذا التناحر خصوصا عند انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس، وكذلك في عهد بني أمية ومتابعاتهم لآل البيت، ومتابعة بني العباس لآل البيت، وقد كان يورد عدّة أحاديث في هذا الشأن حتى يحد من الخلاف والاقتتال إذ يروي أن رسول الله خرج إلى الصحابة فقال: تزعمون أنّي من آخركم وفاة ألا وإنّي أوّلكم وفاة، وتتبعوني أفناء يهلك بعضكم بعضا – أو يضرب بعضكم رقاب بعض-“()، وفي هذا تحذير لبني جلدته من سوء العاقبة ممن يتعدى على حرمة المسلم.
كما كان يدافع عن الصحابة ويحث جلساءه على احترامهم وأن لا يذكروا هؤلاء إلا بخير، ويحث على اجتناب الخوض في أحاديث الفتن في هذا الشأن، ويدعو إلى نبذ الخلاف بين بني أمية وآل البيت، يقول: “لا يجتمع حب علي وعثمان رضي الله عنهما إلا في قلب مؤمن” ().
وبرز في عهده خلاف في مجال العقيدة يخص مسألة الصفات، وهي صفات الله عز وجل، إذ صارت الناس تقول فيها بغير قول أهل السنّة، فمنهم المشبه لهذه الصفات بالبشر ومنهم المعطل لها ومنهم المؤول، فكان الأوزاعي ينهج نهج السنة في الكفّ عن الكلام في هذا المجال، لأنّ التابعين والصحابة لم ينظروا فيها بل وقفوا عند النصوص كما جاءت، يقول الأوزاعي: «كنّا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى فوق العرش ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته».()
كما اتّبع أهل السنة في قضية الإيمان والعمل، يظهر ذلك من خلال توجيهاته وأقواله: «اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل ما قالوا، وكفّ عمّا كفّوا واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنّه يسعك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلاّ بالقول، ولا يستقيم القول إلاّ بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلاّ بالنية الموافقة للسنة، وكان من مضى من سلفنا لا يفرق بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنّما الإيمان اسم جامع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدّق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدق بعمله لم يقبل منه وكان في الآخرة من الخاسرين(). لقد رأى الأوزاعي أنّ المخالفة للسنة النبوية هو اتباع للرأي الهوى، وحذّر من الاغترار بالكثرة كمقياس لمعرفة الحق يقول: “عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإنّ الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم”.()
كان الإمام من أشدّ المدافعين عن السنة والناكرين للبدعة، بذل كل ما في وسعه حتى يحدّ من انتشار البدع في الدين فيكون لها الغلبة على الناس، وقد ظهرت بوادرها على المجتمع آنذاك بظهور الزنادقة، والفرق الكلامية، وتطرف المذاهب السياسية، إذ وصلت حد التكفير كما فعلت الخوارج، بل ومرقت عن الدين فرق كثيرة كان مبدؤها التشيع فوصلت إلى تأليه الأشخاص، وكان يغلّظ القول في وجه المخالفين للسنة كفتواه بقتل غيلان القدري() في حضرة الخليفة هشام بن عبد المالك حيث أمر هذا الأخير بتنفيذ الحكم مباشرة. ()
والقصة أوردها شكيب، يقول صاحب المخطوط: “كان على عهد هشام بن عبد الملك رجل قدري، فبعث إليه هشام وقال له: قد كثر كلام الناس فيك: قال نعم يا أمير المؤمنين، ادع من شئت فيجادلني، فإن أدركت بسبب فقد أمنتك من علاوتي (يعني رأسه)، فقال هشام: قد أنصفت، فبعث هشام إلى الأوزاعي، فلما حضر قال له هشام: يا أبا عمرو، ناظر لنا هذا القدري، فقال له الأوزاعي: اختر إن شئت ثلاث كلمات، وإن شئت أربع كلمات وإن شئت واحدة، فقال القدري بل ثلاث كلمات. قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل قضى على ما نهى؟ قال القدري: ليس عندي في هذا شيء، قال الأوزاعي: هذه واحدة، ثم قال أخبرني عن الله عز وجل، هل حال دون ما أمر؟ قال القدري: هذه أشد من الأولى ما عندي شيء، فقال هذه اثنتان. وقال أخبرني عن الله عز وجل هل أعان على ما حرم؟ فقال القدري: هذه أشد من الأولى والثانية ما عندي من هذا شيء. فقال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين هذه ثلاث كلمات، فأمر هشام فضرب عنقه”.()
لقد كان الأوزاعي يرى أن لا إيمان لصاحب بدعة، ذلك أنّ البدع تؤدي إلى الحيدة عن الدين قال: “ما ابتدع رجل بدعة إلاّ سلب ورعه” (). بل كان حكمه على أهل البدع أن لا توبة لهم ولذلك نجده يقضي بقتل غيلان ويصرح قائلا: «أبى الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة، ذلك أنّه ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضيا، ولا تركت سنة إلاّ ازدادت هربا” (). أخذ الأوزاعي هذا الحكم من قول النبي (): “إنّ مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ” ().
كما كان للأوزاعي مواقف كثيرة تجاه الفرق آنذاك، يبيّن رأي الدين لكي لا يكون على الناس التباس في شأنها، ومن ذلك موقفه من المرجئة ()، إذ يقول فيهم: “ليس من الأهواء شيء أهلك بالأمة ولا أفتك بها من المرجئة”. ()
ولعلّ قوله في المرجئة لا يختلف كثيرا عن رأيه في الخوارج () الذين عدّهم من الملل الخارجة عن الإسلام، ويورد فيهم أحاديث ووقائع تعود إلى عهد النبوة التي كانت تنذر ببروز هذه الطائفة وانتشار فكرها وخطرها على الأمة، ورأيه فيهم القتال والقتل()، حيث إنّه يروي حديثا عن رسول الله يقول فيه: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرّمية، لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قاتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، قالوا يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق”. ()
لقد كان للأوزاعي في كل مسألة رأي وقول، يرد البدع ويحارب الطوائف والفرق، ويظهر السنة ويرشد الناس إلى اتباع السلف، يفتي الناس بما تعلمه عن التابعين الذين أخذوا عن الصحابة، وهؤلاء كانوا مبلغين عن الرسول، يقول الأوزاعي: «إذا بلغك عن رسول الله فإياك أن تقول بغيره فإنّه كان مبلغا عن الله”.()
الدور السياسي للإمام الأوزاعي :
ولد الأوزاعي في العهد الأموي وعايش العصر العباسي، وكان في خلافة عمر بن عبد العزيز في مقتبل الشباب، فعاصر بذلك الخلافتين الأموية والعباسية، ومع هذا نجده في مسألة الصراع بين العباسيين والأمويين حول الإمامة قد التزم الحياد مثلما التزمه أيضا في الصراع العلوي الأموي سابقا، ويظهر ذلك في تصريحه: “لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب رجل مؤمن” ()، وهذه السابقة لا تزال خصلة طيبة عند اللبنانيين، مفروض عليهم الالتزام بها مثلما يحتاجها العالم الإسلامي اليوم في صراعه ضد قوى الشر العالمية بالابتعاد عن التناحر الطائفي والمذهبي.
فللأوزاعي قصب السبق في عدم الخوض في هذه المسألة رغم حداثتها وجدّتها، مثلما له السبق في التقريب بين المذاهب والفرق بتأصيله هذا المنحى المهم في حياة المسلمين السياسية والاجتماعية، إذ كان يعلم مدى الفتنة التي ستنجر وراء انحيازه لفئة دون أخرى في قضية الإمامة والحكم على اختلاف الصحابة فيها وهو العالم الذائع الصيت المسموع القول المتبوع من قبل شريحة لا بأس بها في بلاد الشام المحسوبة على بني أمية في السياسة وعلى السنة في التوجه، في مقابل أهل العراق الذين تشيعوا للعباسيين سياسة وللأحناف مذهبية. وربما كان هذا الموقف منه هو من أسباب اندثار مذهبه ، فإذا كان المغرب الإسلامي قد اختار التوجه المالكي منذ استقرار الوضع لبني أمية، واختار أهل المشرق بزعامة العباسيين المذهب الحنفي توجها في الفتيا فإن الأوزاعية رغم معاصرتها للمذهبين لم تدم فلسفتها الفقهية لنفس السبب، وهو عدم اختيار الخلفاء لها كمذهب مشرع، وهي ضريبة الوقوف على الحياد.
أما مواقفه تجاه السلطة فتختلف عن مواقفه تجاه الأفكار الهدامة المارقة عن الدين، إذ كان حازما صارما تجاه النحل الفاسدة، وأما تجاه السلطان فكان منهج السماحة والليونة التي لا تخدش كرامته أو تنزل من مكانته، والقاسم بينهما في منهجه الصدع بالحق والبيان بالحجة والدليل .
إنّ ما يلاحظ في منهج العلماء في هذه الفترة والتي تليها مباشرة، هو سلوكهم مسلكين تجاه السلطة آنذاك، فمن العلماء من سلك الطريقة الإيجابية في التعامل معهم بحيث احتكّ بهم ووصلهم حينما طلبوه، وراسلهم حينما استشاروه، وعرض عليهم أفكاره بطريقة أكثر لطافة تجعل الحاكم يلجأ إلى هذا العالم أثناء حدوث الحوادث أو انشغاله بمسائل معينة، ومن هؤلاء العلماء إمامنا الأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم.
ومنهم من سلك مسلكا سلبيا، وهو التنكر لهم ومحاربتهم قولا وحتى فعلا، فطلبوه وفرّ منهم، ومن هؤلاء الإمام الثوري الذي تدارك نفسه وحاول اتخاذ الطريقة الإيجابية في أواخر أيامه. ولذلك نجد الأوزاعي يتصل بالحكام والأمراء، ويستعمل حنكته العلمية ليحقق للحاكم والناس أجمعين الخير في اتباع الحق.
“لقد كان الأوزاعي من بطانة الخير والمعروف، يرى من واجب العلماء أن يشيروا على الخلفاء والولاة بإقامة العدل بين الناس، ويشفع لديهم لرفع الظلم عن المظلومين، وكان مقداما في المجاهدة بهذه المبادئ”(). وتلك هي إيجابية العلماء في الذّود عن الحق بالموعظة الحسنة، ولا يصدر ذلك إلا عن فهم عميق لمعاني الدين السمحة وتعاليمه التي تصب في إطار مصالح العباد.
كانت تدخلات الأوزاعي وعلاقته مع الحكام تصب في ثلاث قنوات وتحقق ثلاثة أهداف:
الأولى: أنّه كان ينصح لهم أيّما نصح لتحقيق العدل وإشاعة شريعة الإسلام السمحة بين جميع الفئات (المسلمين وغير المسلمين)، ومثال ذلك قصته مع أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور الذي كتب إلى الأوزاعي أن يبعث إليه بما يرى فيه المصلحة، فكتب إليه الأوزاعي يقول: «أما بعد، فعليك بتقوى الله، وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أنّ قرابتك من رسول الله لن تزيد حق الله عليك إلاّ عظما، ولا طاعته إلا وجوبا”() وفي لقائه مع المنصور أيضا نصحه بقوله: “إنّ أشدّ الشدّة القيام لله بحقه، وإنّ أكرم الكرم عند الله التقوى، وإنّه من طلب العزّة بطاعة الله رفعه الله، ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه»()، وعند الانصراف طلب من المنصور إعفاءه من لبس السواد (وهي راية العباسيين وشعارهم) فقبل منه الخليفة ذلك() لمكانته وعلمه .
الثانية: أنّه كان يراسل الخلفاء والأمراء حتى يقضوا حوائج الناس وييسروا عليهم، حيث كان الأوزاعي بفضل علمه وورعه وأدبه ومكانته الاجتماعية يلجأ إليه الناس لطلب الشفاعة لدى الأمراء والخلفاء، فكان لا يتراجع عن التشفع لهم وإصلاح حالهم سواء كانوا مسلمين أو أهل ذمة.
ومثال ذلك أنّ ملك الروم أسر بعض أهل الثغور وطلب الفدية فأبى أبو جعفر، فتدخل الأوزاعي بحكمة وجرأة وأرسل إليه برسالة هي موعظة ارتدع بها المنصور ودفع الفدية، جاء فيها: «إنّ الله استرعاك أمر هذه الأمة لتكون فيها بالقسط قائما، وبنبيّه في خفض الجناح والرأفة مشتبها… فإنّ المشركين استنزلوا العوائق والذراري من المعاقل والحصون، ولا يلقون لهم نصيرا ولا عنهم مدافعا، فليتق الله أمير المؤمنين وليبتغ بالفدية بهم من الله سبيلا»(). فلما وصله كتاب الخليفة أمر بدفع الفدية. ولم تكن تلك الرسالة الوحيدة التي بعث بها الأوزاعي إلى المنصور بل كان يكاتبه دوما ويذكره بمسؤولياته أمام الله عن كل رجل وامرأة وطفل، ويروي له صورا ومواقف من حياة الرسول، ليتخذ منها الأسوة والقدوة ().
وقد أورد أصحاب الطبقات عدّة رسائل من قبل الأوزاعي إلى الخلفاء والأمراء يتوسط فيها للناس، منها رسالة إلى أبي عبيد الله وزير الخليفة() في موعظة وحاجة، ورسالة إليه في تخلية محبوس، ورسالة إلى المهدي في الشفاعة لقوم، ورسالة أخرى في الشفاعة لأهل مكة وتقويتهم، ورسالة أخرى إلى أبي أبلج يحي بن سليمان، وإلى سليمان بن مخلد في التعطف بمكتوب عند الخليفة والتماس الفدية لأهل قاليقلا، ورسالة في زيادة أرزاق أهل الساحل..  وهي رسائل عديدة إلى أولياء الأمور تذكرهم بحال الرعية وواجبات الراعي.()
الثالثة: الصدع بالحق أمام الخلفاء والأمراء، وعدم مداراتهم رغم الهالة التي كان يضفيها بعض الولاة على أنفسهم خصوصا في أمور الشرع، فقصته مع عبد الله بن علي() عم السفاح في دمشق معروفة، إذ لما قدم عبد الله الشام جالس الأوزاعي وسأله: ما تقول في دماء بني أمية؟ قال الأوزاعي: قد كانت بينك وبينهم عهود وكان ينبغي أن تفي بها، قال: ويحك. قال الأوزاعي: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت أوداجه وعيناه، ثم قال ويحك ولم؟ قال الأوزاعي: قال رسول الله : «لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى الثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه»()، فقال الأمير، ويحك، أو ليس الأمر لنا ديانة (يعني الخلافة)؟ قال الأوزاعي: كيف ذلك؟ قال عبد الله بن علي: أو لم يكن رسول الله قد أوصى لعلي؟ قال الأوزاعي: لو أوصى إليه ما حكم الحكمان، فسكت وقد أجمع غضبا وجعلتُ (يقول الأوزاعي) أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا، وأومأ أن أخرجوه، فخرجت. ()
والحادثة قد تظهر انتصار الأوزاعي وميله إلى بني أمية في وقت كان بنو أمية قد اتخذوا مذهبه على قضاء الشام أواخر عهدهم، ولعلّ هذا الذي يشفع لانتشار مذهبه بالأندلس حينما هاجر إليها بقايا بنو أمية، كما تبيّن الحادثة هذه بوضوح صلابة موقف الأوزاعي ودفاعه عن كليات المسلمين الخمس، مثلما تدلّ كذلك على مكانة الأوزاعي لدى الجماهير والقبول الذي حازه عندهم، فقد هدد أحد الولاة الأوزاعي فقال له مستشاره: «دعه عنك، والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك» ()، فكان بذلك أمره أعزّ من السلطان. ومما نسب في هذا الشأن إلى أمير كان بالساحل (بيروت وهو جد الأرسلانيين) عندما دُفِن الأوزاعي والناس عند قبره أنه قال: «رحمك الله أبا عمرو، فقد كنت أخافك أكثر ممّن ولاّني» ().
إنّ هذه المواقف جعلت من الأوزاعي مهاب الجانب من قبل الولاة، عالي القدر عند الخليفة يسمع منه ويعزل إذا كتب في واحد من الولاة، مثلما تدل هذه المواقف على مدى الصلة فيما بينه وجمهور المسلمين الذي كان من بين الوسائل الداعمة لمواقفه فلا يصل إليه الخليفة ولا الوالي بالإساءة. وقد أُعجب الخلفاء بموقعه وحسن أدائه وسداد رأيه وحلاوة أسلوبه في التواصل حتى أمر المنصور كاتبه بأن يجيب الأوزاعي تجاه كل كتبه ().
ومن أعماله التي تصب في الإطار السياسي دفاعه عن أهل الذمة، حيث يُعد الأوزاعي ممن مارس وقنن للعلاقة بين المسلمين وغيرهم بحكم معاشرته لهم وتعامله معهم واستئناسهم به، فكثيرا ما كان أهل الذمة يفرون إليه لدفع مظلمة أو تخفيف جزية والاحتماء به عند كل نازلة. ومما يدل على هذا رسائله إلى أبي بلج التي ينصحه فيها بحسن السيرة في الرعية وينبهه إلى حديث النبي  الوارد في هذا الشأن: «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه».()
كما دافع عن أهالي جبل لبنان النصارى، وقد رُويت قصتهم وتناقلها المؤرخون أمثال أبو عبيدة القاسم بن سلام (ت224ه/838م) والبلاذري في فتوحه (ت270ه/892م) والتي وقعت زمن حكم صالح بن علي العباسي (96-151ه) وهو عم الخليفة أبو العباس السفاح وقد جاء فيها: «وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة ؟ حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى: ﴿أن لا تزر وازرة وزر أخرى﴾ () ، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تُحفظ وتُرعى وصية رسول الله في أهل الذمة، فإنه من كانت له حرمة في دمه فله حرمة في ماله، والعدل عليه مثله، فإنهم ليسوا بعبيد فتكون في تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرار أهل ذمة يُرجم محصنهم على الفاحشة ويُحاص نساؤهم نساءنا من تزوجهن منا، القسم والطلاق والعدة سواء… ثم ذكر الرسالة طويلة ().
فهو بذلك يجعل حماية أهل الذمة على رقبة الحاكم المسلم، ووجوب حماية شخصيتهم واحترام حرياتهم ومنها حرية العقيدة وضرورة الوفاء بعهد الرسول  وأن المسؤولية تكون فردية في الجرائم وتُحرم العقوبة الجماعية. وهذه القاعدة لا نجدها في أي معاملات حربية ولا سياسية في الوقت الحالي من قبل أعتى الدول التي تدعي الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان في العالم، فالغزو على العراق ثم تدمير جنوب لبنان والحرب على غزة والحصار الذي يعانيه المسلمون هنا وهناك هي من المؤشرات الدّالة على خراب عقول القائمين على هذه الدول وأن هدفهم هو المزيد من إهلاك الحرث والنسل وإغراق العالم الإسلامي في دوامة الخلاف والصراع.
لقد حرص فقهاء الإسلام على العناية بأهل الذمة وكتبوا في هذا الشأن الشيء الكثير، ومن أوائل الذين اعتنوا بالكتابة في هذه القضايا أبو يوسف صاحب الخراج الذي بعث إلى هارون الرشيد ينصحه: «وينبغي يا أمير المؤمنين أيدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد (ﷺ) والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يُؤذوا ولا يُكلفوا فوق طاقتهم ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم»(). كما وضع الإمام الشافعي -تأثرا بالأوزاعي-ـ في كتاب الأم مجموعة من الأسس تقوم عليها العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين خلاصتها:
1- المسلمون مقتدون في صلتهم بالذميين بأحكام الإسلام فلا مجال للهوى والتعسف.
2- تُبرأ ذمة المسلمين في عهدهم لأهل الذمة إن خان الذميون العهد، أو تعرضوا للقرآن أو النبي  بالطعن..  أو ردوا مسلما عن دينه، أو ساعدوا عدوا للمسلمين بالمال أو التجسس أو الإيواء .
3- إذا كان بين ذمي وذمي آخر شنآن فلا دخل للمسلم سواء وافق الإسلام أو خالفه، إلا إذا اختصم أحدهما إلى الحاكم المسلم، فإنّ الشرع الإسلامي سيكون هو الفيصل بينهما .
4- يعاقب أهل الذمة على القتل كما يعاقب المسلم في الدية، والقصاص، والسرقة، والقذف، والتعزير، لأنهم جزء من المجتمع .
5- أداء الجزية وهي ضريبة مخففة على الذمي لقاء الزكاة للمسلم، وعليهم العشر في التجارة، وذلك على حسب الظرف والحال التي يكون عليها الذمي .
6- الدولة الإسلامية مكلفة بحماية من تحت يدها من المسلمين والذميين، والذميون مكلفون بأن يظهروا واجب العهد ().
إن قضية أهل الذمة من صميم الشريعة الإسلامية، وإن كان البعض يدرسها من قبيل التاريخ فإنها ليست كذلك، بل إن دراستنا للتاريخ وعلاقة المسلمين مع أهل الذمة إنما هي لأجل توطيد علاقة دائمة قائمة على أساس التعاون وتحمل المسؤوليات تجاه القضايا المشتركة، وطرح هموم المجتمع لكي يُوفر لها الحل في إطار حسن الجوار والعدالة الاجتماعية والحوار الحضاري، ولا نتفق مع هؤلاء القائلين بأن المسألة لم يعد لها وجود في الواقع المعاصر على وجهها الشرعي لما عرفه هذا الواقع من التغيرات الجذرية وتطور السياسة العالمية وتراجع المد الإسلامي تراجعا لا مثيل له بفعل التخلي عن الجهاد().
ويمكننا الجزم بأن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين إنما هي مكرسة زمن القوة وأوقات الضعف، ومع ما هو عليه العالم الإسلامي من ضعف وتخلف فإنه وجب ضبط العلاقة مع غير المسلمين بحكم مجاورة المسلمين لغيرهم من شعوب العالم غير المسلمة مثل الدول المسيحية النصرانية، ولوجود أقليات غير مسلمة سواء كانت مستقرة استقرارا أبديا أو لمدة وجيزة كالعمال والباحثين والقناصل والسواح وغيرهم.
بل وينطبق الأمر على طالبي الأمان أو ما يُعرف باللجوء السياسي، إذ الأمان عقد لازم من جانب المسلمين، فمتى بذلوه للمستأمنين لم يكن لهم نبذه إلا لتهمة أو مخالفة، فإن وجدتا كان نبذ العهد من الإمام، وينسحب الأمر كذلك على المعاهدات، فإنه من المسلمين واجب احترام العهود والمواثيق، قال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلاّ أن يكون فيه فتنة نقض العهد أو أمان فلا يجوز، والمعاهدات أصل مشروع في الإسلام حتى مع المشركين تنظيما للعلاقة مع غير المسلمين().
ونظرا للاهتمام الذي أولاه المشرع من خلال الوحي أو اجتهاد الصحابة وفقهاء المذاهب، وصل الأمر بالذميين في العهود الأولى للإسلام إلى أن يقفوا إلى جانب المسلمين في نزاعهم وحروبهم ضد المسيحيين الروم، إذ يذكر صاحب فتوح البلدان أن مسيحيي الشام كتبوا إلى أبي عبيدة يقولون: “يا معشر المسلمين أنتم والله أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى إلينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا …”، وذهب سكان حمص إلى غلق أبواب مدينتهم حتى لا يدخلها جيش هرقل، وأعلموا المسلمين أن ولايتهم وعهدهم أحب إليهم من ظلم الرومان وتعسفهم (). وقد ذكر صاحب محاسن المساعي أن معاوية بن أبي سفيان صالح الروم وارتهن منهم رهائن ووضعهم في بعلبك، لكن الروم غدرت، فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل الرهائن وخلوا سبيلهم وقالوا: “وفاء بغدر خير من غدر بغدر”، وهو قول الأوزاعي ومذهبه في هذا الشأن ().
وصفوة القول أن الأوزاعي كان إمام أهل الشام إذ ترعرع ببيروت وذاع صيته في الشام كله، كما وصلت آراؤه وفتاويه إلى أرجاء الخلافة. وقد استفاد الإمام الأوزاعي من عدة عوامل عملت على إظهار شخصيته العلمية، كوجود عاصمة الخلافة الأموية بالشام قبل انتقالها إلى العراق. وكذلك تقريب الولاة والخلفاء له، والاعتبار بفكره والأخذ بآرائه. ثم إن رحلاته منذ صغره وتعلمه على التابعين والالتقاء ببعضهم أثر في علمه وتوجهه الفقهي.
لقد ظهر فقه الأوزاعي في مناقشته للأحناف وأثناء ردهم عليه في موضوع السير، وكانت الغلبة في صفه وهو ما أدى بالإمام الشافعي إلى الانتصار له والأخذ بآرائه. كما برز لنا فقه الأوزاعي في تعامله مع السلطان، ومع أهل الذمّة، وكذلك مع الفرق الدينية. وفي أثناء ذلك ظهرت طرق استنباطه التي اعتمدت الكتاب والسنة، ولم يهمل الاجتهاد بالرأي وفق ضوابط شرعية متينة. ونخلص إلى أن فقه الأوزاعي الذي يجتهد العديد من الناس اليوم فيه لبعثه، لم يكن أقل تأثيرا من المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، بل نافسهم وغلبهم ومال إليه الكثير من الناس فصاروا له أتباعا، ولكن عوامل كثيرة جعلته ينقرض ويزول .
إن الالتفات إلى فقه المذاهب البائدة -كمذهب الأوزاعي- من شأنه أن يقدم الكثير من الرؤى التي قد تفرض نفسها كحلول لمشكلات بات العالم الإسلامي في حاجة إليها في خضم التغيرات المتعددة المجالات التي تطرأ من حين لآخر، حيث تأتي فتاويهم كمخرج لنوازل وجب الاستجابة إليها بحكم يزيل اللبس ويحفظ للدين مكانته وللمجتمع حيويته وشخصيته.

(المصدر: مجلة “الواضحة” العلمية المحكّمة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى