مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد كبديل

الإلحاد كبديل

بقلم رياض صدقي

الناس في هذه الحياة على صنفين، صنفٌ يطلب الحقيقة باعتبارها مطلبا عقليا وفطريا، وصنفٌ ثانٍ ليس هَمُّه معرفةَ الحقيقةِ، وهو الذي أطلق عليه القرآن لفظ “الجاحد” كما في قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ} [النمل: 14]. ولذا فإن كمال الإنسان بما هو إنسان كرمه الله بالعقل يكون بكونه طالباً للحقيقة ساعيا إلى اليقين والاطمئنان.

لهذا كان الجدالُ والنقاشُ مع أهل الصنف الثاني ضرباً من إهدار الوقت والجهد، فعادة أهل السفسطة أنهم لا يُقِرُّون بحقيقةٍ ولا يَثبتون على رأي.

إن مِن أهم الأسس التي تقوم عليها الظاهرة الإلحادية هو اعتمادها على الدليل السلبي، وهو النفي والإنكار، أي أن هذا الملحد لا يملك أي دليلٍ إثباتِيٍّ مستقل بذاته لما يدعيه، فهي منظومة قائمة على مهاجمة الآخرين واستهداف أدلتهم بالنفي والتشكيك والاستهزاء، فإذا كان الإيمان موجبا ويكتسب أصالته من تعلقه بواجب الوجود، فالإلحاد سالب ومحتكم إلى النقص لتعلقه بعالم الإمكان والفقر وإنكار الواجب، إذا فلا نسبة وجودية للإلحاد إلا بصفة كونه نفيا للإيمان [1].

إن الإلحاد حرمان من البحث بالمطلقات، فهو يؤدي الى حجز العقل وعدم السماح له بالوعي، وقمة غرضه إعاقة العقل عن الانتقال من مجرد أداة للبقاء والالتفاف بالذكاء، إلى وعي المطلقات، وبالتالي الاقتراب منها، فهو باختصار يحرمنا من الوعي [2] وحقيقة تصور الملحدين لفكرة الإلحاد لا تخلو من هوس عقيم لا يقبله العقل، فترجمة تبنّي الإلحاد عندهم هي: أنه هناك لا شيء ! ولا شيء حدث للاشيء ! وبعد ذلك وفجأة انفجر اللاشيء ! ومن دون سبب أوجد شيئا! ومن ثم ترتبت أشياء بطريقة (سحرية) لا يملكون لها أي تفسير، وتشكلت خلية حية تطورت لتصبح ديناصورات [3].

العقل الملحد لا يمكنه أن يثبت إلحاده بدليل صحيح من عقل ولا من علم، فهو يفتقد تماما المنهج الاستدلالي الصحيح الذي يمكنه من أن يثبت عقائده بطريقة علمية صحيحة [4] لذلك نجد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك -مؤسس المنهج التجريبي- يقول: “لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين يُنكرون وجود الله … فالوعد والعهد والقسَم من حيث هي روابط المجتمع البشري: ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد! فإنكار الله حتى لو كان بالفكر فقط: يُفكك جميع الأشياء” [5].

وفي هذا الصدد يرى الرياضي المخضرم بليز باسكال أن الملحدين والمترددين يعيشون في حالة يرثى لها، فيقول: “يجب أن يرثى لحال الملحدين، لأن في حالتهم من الشقاء ما به الكفاية، يجب أن يرثى لحال الكفرة الباحثين ألا يكفيهم ما هم عليه من شقاء! ويجب تجريح من يتباهون بالكفر، يجب تجريحهم لأنهم لم يتعمقوا فيما يزعمون دحضه، حتى وإن صاحوا بأعلى صوتهم أنهم بذلوا جهدهم للبحث عن الدين الحق في كل مكان، دون جدوى لكنهم في حقيقة الأمر، مغرورون، ذلك لأنهم يعتقدون أنهم بذلوا جهودا عظيمة إذا صرفوا بعض ساعات في قراءة الكتاب المقدس أو سألوا رجال البيعة عن حقائق الإيمان، إن هذا تهاون، والتهاون لا يطاق لأن الأمر لا يتعلق بمصلحة بسيطة شخصية، بل هو متعلق بنا نحن وبذاتنا الكلية” [6].

إن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يجيء من أديان المخالفين، وإنما يجيء من الإلحاد ومن المذاهب التي تقدس المادة وتعبدها، وتستهين بتعاليم الأديان وتعدها هزؤا ولعبا [7]، وذلك أن الإلحاد يمثل بكل ألوانه التيار الانفلاتي الجاحد لكل القيم الإنسانية النبيلة، لذلك يصعب جدا أن نبني معه أرضية مشتركة، فهو يعكس شذوذا فكريا طرأ على العقل الإنساني.

حال الإنسانية داخل المنظومة الإلحادية:

“إذا لم يكن الله موجوداً : فكل شيءٍ مباح!”

حكمة وردت على لسان (إيفان) الملحد .. أحد الإخوة الثلاثة في قصة: (الإخوة كارامازوف) أشهر رواية لعميد الأدب الروسي فيودور دوستويفسكي، ولا شك في ذلك، لأنك إن أردت أن تكون ملحدا، فلا شيء يمكن أن يمنعك من أن تقترف أبشع الأفعال اللاأخلاقية، وهذا ما سنراه من خلال الأفكار التي يبثها دعاة الإلحاد الجديد في عصرنا الحاضر.

من عجائب عصابات الإلحاد الجديد أن الكاهن الأكبر ريتشارد دوكينز لما سئل: لو أنك مت ثم قدمت أبواب الجنة، ماذا ستقول لله لكي تبرر إلحادك الذي لازمك مدى الحياة؟ فكان جوابه سوف أستشهد ببرتراند راسل، لم يكن هناك أدلة كافية! لم يكن هناك أدلة كافية [8]، فهو يعترف إذا أن هناك أدلة لوجود إله خالق لكنها ليست كافية، مما يعني أن الإلحاد ليس قطعيا، بل هو منظومة مبنية على الظن والأوهام والهوى، واعتراف دوكينز هذا ينقض زعمه بأن الإله مجرد وهم في عقول البشر، ويذهب الفيلسوف الإيطالي جاني فاتيمو Vattimo في كتابه “الاعتقاد في الاعتقاد” بأنه ليس هناك اليوم من حجج فلسفية متينة لكي يغدو المرء ملحدا، أو على أية حال لكي يرفض الدين.

ومن مظاهر إفساد الإلحاد لسلوكيات الملاحدة أنه حوَّل كثيرا منهم إلى مجرمين طغاة قتلة غلاظ وحوش ربما لم يشهد لهم التاريخ مثيلا، فهذا الرئيس الصيني الملحد ماوتسي تونغ، قتل في الصين نحو 50 مليوناً من شعبه، وكان يقول: “المقابر الجماعية توفر سمادا جيدا للأرض”، وقال شي غيفارا: “يجب أن نتعلم كيفية قتل الطوابير من البشر في وقت أقصر”. وقال الملحد لينين: “لا رحمة لأعداء الشعب، بل اقتلوا واشنقوا وصادروا”، وقال الملحد ديفيد أتنبرة ” أوقفوا إطعام أمم العالم الثالث، لتقليل عدد سكان العالم”، وقد قتل الملحد بول بور نحو مليونين من الكمبوديين، فكان مجموع مجازر الملاحدة في القرن العشرين 250 مليون قتيل [9].

فتخيل أيها الإنسان وأنك وفق التصور الإلحادي، يمكن للظالم الذي لا طاقة لك به في الدنيا أن يمارس عليك شتى صنوف الظلم من سرقة لأموالك وغصب لحقوقك، وقتل لأقاربك ثم بعد ذلك يذهب هذا الظالم بعد موته كأن شيئا لم يفعله دون حساب و لا عقاب، فأي عدل يمكن تصوره داخل المعتقد الإلحادي؟

وفي إطار البرهنة على لاأخلاقية الإلحاد المعاصر سُئل الفيزيائي الشهير الملحد لورنس كراوس في مناظرته الشهيرة مع الداعية حمزة تزورتيس: “لماذا يُعتبر زنا المحارم خطأ؟” فردّ قائلا: “ليس من الواضح بالنسبة إليّ أنه خطأ!” [10] وفي نفس الإطار يرى الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية بيتر سِنجر أن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: “فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان” [11].

هل يحقق الإلحاد السعادة للإنسان؟

ذكر الملحد المصري إسماعيل أدهم أنه عندما أصبح ملحدا وجد نفسه أسعد حالا وأكثر اطمئنانا مما كان عليه قبل إلحاده، لكن حاله هذا تغير وأصبح جحيما بعد سنوات، حتى انتهى به الأمر إلى الانتحار سنة 1940م ووُجد في معطفه خطاب موجه للنيابة، ذكر فيه أنه انتحر لزهده في الحياة وتركه لها [12].

وفي السياق نفسه ذكر أستاذ تاريخ علم الأجنة الأمريكي ويل بروفاين أنه عندما أصبح ملحدا صارت الحياة بالنسبة له بلا معنى، ولم تعد هناك أية قيمة أخلاقية، ولم يعد يشعر بأنه إنسان حر لديه إرادة مستقلة، فهو مجرد كائن أنتجته سلسلة من الصدف العبثية، وذكر عن نفسه بأنه قرر لو أن سرطان المخ عاد للظهور لديه، فسيطلق النار على رأسه بلا تردد ليتخلص من معاناته التي لا معنى لها حسب عقيدته الإلحادية [13].

وفي دراسة ميدانية أجريت سنة 2004م حول دور التدين والإلحاد في ضبط النفس وإبعاد الإنسان عن الانتحار، تبين منها أن الانتحار مرتفع جدا بين الملاحدة، وأنهم أكثر عدوانية من غيرهم، وأنهم أكثر الناس تفككا اجتماعيا، وليس لديهم أي ارتباط اجتماعي، لذلك كان الانتحار سهلا بالنسبة إليهم [14].

وتأكيدا لما قاله باسكال في القرن 16م عن حال الملاحدة، تبين لنا هذه الأمثلة أن النسق الإلحادي لا يحقق سعادة شاملة بل يدخل صاحبه في دوامة من الحيرة والأسئلة، فيبقى الملحد شقيا وقلقا مهما حاول إخفاء مشاعره، لأنه يدرك في قرارة نفسه أن الإلحاد مخالف للعقل والعلم، ولا يمكن أن ينجيه من العذاب الأبدي عندما يموت ويقف على الحقيقة الكبرى، وبالتالي لا يستطيع الكائن الملحد أن يصل إلى اليقين، وهذا يؤدي به إلى عذاب نفسي، بحيث يسكن آلامه بالتطرف في الشهوات المادية.

ختاما:

لقد عجز الإلحاد بمختلف أطيافه عن تقديم بديل للدين، فهو ينظر للإنسان نظرة اختزالية ضيقة الأفق، مما يهدر حاجاته الروحية التي تعد جانبا أساسيا في تكوين الإنسان، كما أن المنظومة الإلحادية بتياراتها المختلفة لم تقدم لنا أي حل للمسائل الفلسفية الكبرى التي شغلت الإنسان منذ الأزل، لذا نجد أن عدد الفلاسفة المؤمنين بصرف النظر عن اختلاف مضمون الإيمان يفوق بمراحل عدد الفلاسفة الملحدين مجتمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1] : مجلة الاستغراب، الإلحاد في تهافته، العدد السابع، ص 9.
[2] : نقض الإلحاد، هاني يحيى نصري، ص 166.
[3] : مدونة ضد الإلحاد Anti atheism.
[4] : نقد العقل الملحد، خالد علال، ص 15.
[5] : رسالة في التسامح، جون لوك ص 55.
[6] : خواطر، بليز باسكال ترجمة ادوار البستاني، ص 68.
[7] : رسالة في الزمالة الإنسانية، مصطفى المراغي، ص 8.
[8] : هل الإلحاد لا عقلاني، جاري جيتنج و ألفن بلانتنجا، مجلة براهين ، هدية العدد، ص 1-2.
[9] : مجلة براهين، العدد 4،  2015، ص 43.
[10] : انظر المقطع من المناظرة هنا.
[11] : انظر كلامه في المقطع هنا.
[12] : خرافة الإلحاد، عمرو شريف، ص387.
[13] : خرافة داروين، محمد حمدي غانم، ص 10.
[14] : مجلة براهين، العدد الأول، فبراير،2014، ص 44.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى