مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد العربي المعاصر التأسيس الابستمولوجي

الإلحاد العربي المعاصر التأسيس الابستمولوجي

بقلم د. محمد القطاونة

إن موضوع الإلحاد في البلاد العربية والإسلامية يُعدُّ شيئاً مستغرباً ودخيلاً غريبا، بالرغم من وجوده بندرة في القرون الماضية الممتدة على طول التاريخ الإسلامي ؛ لذا لم تكن الحاجة للكتابة فيه كما هي اليوم وذلك لخلو الساحة الفكرية من الملحدين، وهذا ما يذهب إلية المفكر الإسلامي عبدالرحمن بدوي الذي يرى الإلحاد بمفهومه المعاصر بعيد عن الروح العربية التي كأنت تتبنى فكرة الواسطة أو النبوة فنشاء الإلحاد حول هذه المفاهيم لا غيرها .ولا نستطيع وصف الإلحاد العربي المعاصر في مجتمعاتنا بأنه ظاهرة ، فهذا وصف غير دقيق في الوقت الراهن، لكنه ظاهرة عالمية بلا شك، فالمتأمل في كثير من الأطروحات الفكرية العالمية يجدها تنحو منحى الإلحاد، والمتابع للواقع الغربي المعاصر وما يحوي من مذاهب مادية ورأس مالية وشيوعية، يستشعر مدى خطورة الواقع الغربي المعاصر، وما البلاد العربية الإسلامية من هذه التغيرات ببعيدة في ضوء النظام العالمي الجديد كما لا يخفى تأثيرات الصراع الديني الكنسي والعلمي في أوروبا وإطلالته على العالم العربي، وكذلك ظهور التيارات المادية والإلحادية المعاصرة وانتشارها كردة فعل على ممارسات الكنيسة .

تبدأ قضية الإلحاد ابتداء من المناداة بحرية الاعتقاد أو حرية الضمير وحرية الإعلان عنها في المجتمع العربي الحديث مع قصة الشاعر اللبناني “أسعد الشدياق “. الذي ولد على المذهب الكاثوليكي، لكنه تحول إلى المذهب البروتستانتي بعد تعرفه على الإرساليات والمبشرين البروتستانت وعمله معهم. والمعروف أن هؤلاء المبشرين قد استقروا في سوريا ( 1836 ) وأقاموا في بيروت قاعدة لنشاطهم التبشيري في المنطقة العربية، عبر تأسيس المدارس، وخصوصاً ” الكلية السورية الإنجيلية ” عام 1866 التي صار اسمها ” الجامعة الأمريكية ” فيما بعد 1920م .وأدىّ ميل أسعد الشدياق إلى المذهب البروتستانتي ، واعتناقه له فيما بعد ، إلى سجنه في ” دير قنوين ” من قبل البطريك الماروني ( يوسف حبيش ) ، وبقي الشدياق سجين الدير قرابة عامين توفي مقتولاً على أثرهما ، فكسبت بذلك قضية “حرية الاعتقاد” حضوراً في المجتمع العربي الحديث ، وقد قام المبشرون البروتستانت مستغلين القضية بنشر ” قصة أسعد الشدياق عام 1835 م ، ثم أعاد روايتها ونشرها المعلم “بطرس البستاني” في كتابه ” قصة أسعد الشدياق “. هذه القصة زادت – وهو الأهم – من احتدام نيران المعركة المستعرة بين الكاثوليك والبروتستانت ” المبشرين ” منذ وصولهم البلاد السورية آتين من قاعدتهم الأولى في ” مالطة”، فبذرت بذلك في المجتمع العربي أولى بذور مناقشات موضوع حرية الاعتقاد، أو حرية الضمير. وفي هذا السياق كتب “ميخائيل مشاقة” (1800 – 1888) كتاب أسماه(البراهين الإنجيلية ضد أباطيل البابوية ” وهذا ما يعتبر إلحاداً في الفكر المسيحي).

ولم يقف الأمر عند ذلك فكان خطاب لويس وما أحدثه من تأثير على د. شبلي شميل (1850 – 1917) خريج الكلية الانجيلية السورية، عام 1817م المتفتح أصلاً على مذهب داروين ودفعه إلى تبنيه ونشره والتبشير به في البلاد العربية من قاعدته المتحررة آنذاك في مصر ومن موقعه كطبيب مستقل. وهكذا قام شبلي شميل بترجمة كتاب شارح لمذهب داروين ومبشر به وهو كتاب ” شرح: بخنز على مذهب داروين ” 1884 م. مما أستدعى ردوداً منها كتاب إبراهيم الحوراني 1844 – 1916) في كتاب ” منهج العلماء في نفي النشوء والارتقاء ” (1884). ولم تكن مجريات هذه الأحداث بعيده عن الساحة الإسلامية فلقد انتقلت هذه الأفكار من داخل الدائرة المسيحة إلى داخل الدائرة الإسلامية بحكم المكان واللغة، فوجدت أفكار شبلي شميل حضوراً عند إسماعيل مظهر (1891 – 1962 ) واعتناقه المذهب الدارويني ولكن الأخطر عند مظهر ومن خلال مجلته” العصور ” ( 1927 – 1931م ) فيما بعد ، إنه كان أول من تجاوز مسألة حرية الاعتقاد الديني ومسألة علاقة العلم بالدين أو الإيمان ليطرح قضية جديدة في الساحة العربية الإسلامية وبطريقة مباشرة وهي: “الإلحاد”

وبدأ هذا التيار، أسلوباً جديداً في النشاط، ألا وهو أسلوب إصدار المجلات بُغية إيصال صوت هذا التيار إلى المجتمع العربي بقوة، ومن هذه المجلات وحسب التاريخ:

بداية المجلات العلمانية والإلحادية في الوطن العربي

إسم المجلة السنة مكان الصدور المؤلف
الحديث 1927 حلب سامي الكيالي
العُصور 1927 القاهرة اسماعيل مظهر
الرابطة الشرقية 1928 القاهرة مصطفى عبدالرزاق
المجلة الجديدة 1929 القاهرة سلامه موسى
الدُهور 1931 بيروت إبراهيم حداد
الطليعة 1935 دمشق فؤاد الشايب ، ميشيل عفلق – كامل عياد – صلاح الدين المحايري .

ولا شك أن اتشار المذاهب والمناهج الفلسفية الغربية في البلاد الإسلامية تحت مسمى الحداثة أو العصرنة أو التنوير أو الاشتراكية، وغيرها على مستوى المذاهب، كل ذلك له دور بارز وأصيل في نشوء الإلحاد ومن الأمثلة على ذلك،  وقد انتشرت هذا المذهب في البلاد العربية والإسلامية ردحاً من الزمن في غياب المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ومحاولة إغراق المنتسبين إلى الإسلام بالشعارات المضللة  كالجدلية “الديالكتيكية” والمادية، ونظرية  التطور،والتفسير المادي للتاريخ، والاشتراكية، وغيرها من المفاهيم التي فعلت فعلها في الساحة العقلية العربية والإسلامية، وكان لها دور بارز في مناهضة الدين والأخلاق والثقافات، وإشاعة الفواحش وسائر المفاسد والشرور على أيدي الملاحدة المتأثرين بأفكارها في كل الدول والبلاد العربية. يقول أحد الكتاب في جريدة ( سوفييت كرجيزا ) : “إن الدين ألعوبة بأيدي الرأسماليين، ،إنها فكرة تسعى لإقناع الطبقة العاملة بحب الذين يستغلونهم استغلالاً لا رحمة فيه . ومن المشروعات التلفيقية التي ظهرت في عصرنا متأثرة بـالشيوعية “مشروع اليسار الإسلامي” الذي حاول التوفيق بين الإسلام والماركسية. إذ اراد هذا المولود المشوّه أن يتبنى قضايا الاشتراكية والعدل الاجتماعي وغيرها من القضايا.

وأما على مستوى النظريات المعرفية، فقد ظهرت في البلاد العربية المناهج الفكرية والرؤية المعرفية القائمة على عدم مصدرية الوحي ، وبالتالي عدم قدسية النص القرآني ، ومن ثم التطاول على نصوص الوحي الإلهي، وتحمل هذه الدعاوى تأثراً واضحاً ببعض الدعوات الفلسفية الغربية الحديثة، التي تتبنى  قواعد المنهج الهارمنطيقي التأويلي والتي تسعى إلى الاعتماد عليها من أجل فهم النص الديني ، وتحديد مدلولات القرآن والسنة على الخصوص، وهي تمهيد إلى نبذ الوحي والتخلي عنه، وغيرها من المناهج التي أرادت إنزال النص القرآني إلى النقد البشري ، فكان لها سبب بالغ في شيوع فكرة الإلحاد العربي المعاصر من خلال الأدب والشعر والنقد والفكر والفلسفة وغيرها من المجالات العلمية. فشاع الانتقاص من الوحي ومن موثوقية القرآن منذ أن طعن طه حسين في خبر القرآن الكريم حول قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقال: ” للتوراة أن تتحدثا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…” وهذا نصر حامد أبو زيد يقول” لا نغالي إذا قلنا إن تثبيت النص الذي نزل متعددا في قراءة قريش كان جزءا من التوجيه الأيدلوجي لتحقيق السيادة القرشية” فقد قضى بنظره  على تعددية النص بإلغاء القراءات وتسويد قراءة قريش، وذلك أن قريش استولت على الإسلام ذاته وحولته لأيدولوجيتها الخاصة. ولو قارنت بين هذه الأفكار وبين أفكار رموز الفكر الغربي والمستشرقين لوجدتها ذاتها ومن دون تغيير، فهم يرددون كلام (سبينوزا) و(كانت) و(هيجل) و(أوجست كونت) وآراء الوضعيين والماركسيين والوجوديين والاجتماعيين الملحدين.

من خلال هذه الأسس المعرفية استطاع الإلحاد أن يكون حاضرا على الساحة العربية بشكل  غير أصيل وتقليدي وتبعي انطلاقا من الأسس التي نشأ عنها وتشكل في هيئتها، لذلك كان الإلحاد العربي وبالرغم من ازدياد أعداد منتسبيه إلا أنه ضعيف في البيئة العربية الذي لا يناسب روحها وطبيعتها، وكذلك لما للإسلام من دور في تشكيل العقل المسلم الذي ينطلق في طروحاته من الدين القائم على الدليل اليقيني والذي يتبنى المسائل العلمية ومن غير احداث فجوة في الفهم أو التفسير، بل أن الإسلام كرس العقلية الناقدة وعدم الركون للتقليد والتبعية قال تعالى مُعيباً على منهج التفكير التبعي ” بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ”، وبذلك بنى الإسلام العقيدة والدين على أسس معرفية رصينة لا صراع فيها بين ثنائية الدين والعالم.

  • د/محمد القطاونة دكتور العقيدة والفلسفة جامعة UM/ كوالالمبور

[email protected]

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى