الإعلام بين الهوية والعلمانية
د. ياسر عبد التواب
صورة مهمة يجب استحضارها لكل من يعمل في مجال الفكر وفي التخطيط الإعلامي وصياغة رسالته من واقع المسؤولية وإدارك أبعاد وأهمية ما يفعلونه ..
إنه الحديث عن ارتباط الإعلام والحرية والمسؤولية بمفهوم الهوية
بمعنى: يجب أن ننظر إلى الإعلام وقضاياه المختلفة والتي منها بالطبع قضيتي الحرية والمسؤولية باعتبار أن الإعلام جزء من كل هذا الكل يتمثل في كون الإعلام وسيلة من وسائل التأثير في المجتمع ولا يجب أن يخرج عن الإطار الشرعي الذي حدده الشرع لذلك التأثير في المجتمع
لا أقصد أن يكون الشعور بالحرية أو استحضار المسؤولية منضبطا بالشريعة وكفى.. بل أقصد ما هو أكبر من ذلك بأن ننظر إلى الإعلام كممارسة حياتية جزئية بين نظام إسلامي قائم كله على الإسلام
الإعلام حلقة في نظام الإسلام ؛ وداخل تلك الحلقة حلقات متنوعة تمثل المنظومة الإعلامية بكافة جوانبها (مدخلات ومخرجات) وكلها منضبطة بشمولية الشريعة المطهرة وضبطها لجوانب الحياة
ولكن المشكلة التي نواجهها دائما سواء في موضوع الإعلام من ناحية الفكر والتخطيط أو من ناحية الممارسة والتطبيق هو تسلط الفكر العلماني على كافة أركان العملية الإعلامية كجزء من التسلط العلماني على كافة مناحي الفكر والثقافة نتيجة لأسباب كثيرة منها الغزو الفكري لديارنا..
إن علمنة النظم والمناهج والسياسة والاقتصاد ومناحي الحياة كلها في بلادنا العربية والإسلامية حقيقة واقعة ..علمها من علمها وجهلها من جهلها..
وهذا بالطبع ما أفرز إعلاما غير منضبط ..حدثني مثلا عن حجم البرامج الدينية في أي جريدة أو قناة ( حكومية أو استثمارية ) في الوقت الذي يتعطش فيه الجمهور لهذه النوعية من البرامج لتتضح الصورة إلى حد ما
فضلا عن التزام البرامج الأخرى بالمنهج الإسلامي حيث لا ربا في الاقتصاد ؛ ولا انفلات عن أحكام الشرع في القانون والسياسة أو في الترفيه ولا ترويج لمفاهيم غربية وشرقية في برامج المجتمع والأسرة والثقافة
فكلها بلا استثناء تعتمد مناهج الغرب في التفكير والتقنين والتنظير والتناول..
ونحن لا نعارض الاستفادة من الثقافات والنظم فالحكمة ضالة المؤمن؛ لكنا نعارض ترقيع حياتنا ونظامنا الإسلامي الشامخ بما لا يتناسب معه
نحن نريد أن نذيب ما لدى الآخرين من فوائد لتنصهر في بوتقتنا وتندمج في فكرنا فنكون كيانا مستقلا له شخصيته وهويته التي تميزه عن غيره في كافة مجالات الفكر والثقافة والعلم والتطبيق؛ لا أن نكون كيانا أهوج يرتدي ملابس كالمهرجين لا تناسبه.
ونظرة إلى أغلب وسائل الإعلام الحكومية أو غير الحكومية نجدها تسير وفق مناهج العلمانية التي تتجاهل الدين في طريقة تفكيرها وتنظيمها لحياتها
قل لي أين الدين – بقيمه وعقيدته وأخلاقه وأحكامه – من كل تلك الآلة الإعلامية بكل أشكالها المقروؤة والمسموعة والمرئية ..
سوى في مساحة تافهة تكرس فكرة أن الدين لا تحكم له بالحياة وإنما جرعة دواء يتناولها المرء أحيانا وربما مكرها ..ثم ينطلق بعد هذا يعب من الشهوات أو يتقلب في الشبهات والفلسفات دون بصيرة ولا قيد..
إشكالية كبيرة تتطلب وعيا وحكمة لعلاجها في الإعلام وفي غيره من أنشطة الحياة كالحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم
أين الانطلاق من المسؤولية الدينية في النظر للعملية الإعلامية التي تواجه هجوما ثقافيا وترويجا حضاريا لغيرنا على حساب هويتنا ووجودنا
وكما يعبر أحد المفكرين الإعلاميين: وقد لا يكون غريبًا ولا مستغربًا أن تربو مساحة المواد الإعلامية للدولة التي تحكم العالم اليوم على 90% من الضخ الإعلامي العام على مستوى العالم كله، الذي بات يشكل القرية الإعلامية المسكونة بإعلام الدولة القوية والمتحكمة، وأن عصر الهيمنة على الأثير قد بدأ عقب عصر الهيمنة على الأرض والهيمنة على البحار.
فالخطورة تتمثل في أن القضية الإعلامية تملك من الطاقات والإمكانات والإغراءات وقوة التأثير الثقافية ما كانت تفتقده المستوردات السابقة، إنها لم تعد تقتصر على توجيه الرأي العام والتحكم به وتشكيله حسب أهدافها ومقاصدها، وإنما تحولت من توجيه الاهتمامات إلى زراعتها وصناعتها ومن ثم قيادتها..
إنها بدأت تحتل اليوم العقول والعواطف والهوايات والأوقات جميعها، فقد تقود الإنسان من عقله، وقد تقوده من هواياته، وقد تقوده من شهواته وغرائزه، لأن بعض تلك المحطات الفضائية أصبح أقرب ما يكون إلى المواخير والأندية الليلية، وإشاعة الانحلال الخلقي، مثل هذا الانحلال الذي يدخل على الناس باسم الحرية الشخصية أو الحرية الفكرية، التي تسوق المنكر والفساد، والاعتداء على القيم، وتعدي حدود الله، هو الذي سوف يؤدي إلى الذوبان وانعدام روح المقاومة، وافتقاد الذات، وتحضير القابلية والتمكين لامتداد (الآخر ).
أ د محي الدين عبدالحليم – إشكاليات العمل الإعلامي بين الثوابت والمعطيات العصرية مجلة الأمة العدد : 64 ربيع الأول 1419هـ السنة السابعة عشرة ص 7.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)