مقالاتمقالات مختارة

الإسلام والمسلمون في فرنسا: صور من المعاناة

الإسلام والمسلمون في فرنسا: صور من المعاناة

بقلم أ. د. عبد الرزاق قسوم

عجبت للعقل الفرنسي، الذي كان يزعم أنه العقل الذي أحدث عصر الأنوار، وأنه أنجب المفكرين الذين نظروا لفكر الأحرار، والذائدين عن حقوق المظلومين من الثوار، من أمثال فيكتور هيغو، ومنتسكيو، وميرابو، وفولتير، ولافونتين، وموليير وديكارت.
عجبت لهذا العقل الفرنسي الغريب، فهو الذي أنجب أيضا بيجو، وروفيقو، ولاموليير وأحفادهم، صالان، وماسو وبيجار، ولوبين وغودار، وغيرهم من السفاحين الأشرار.

فقد ترجم هؤلاء القتلة، مبادئ الثورة الفرنسية، القائمة على الحرية، والأخوة، والمساواة ترجموها إلى قوانين، للتنكيل بالأخيار، وقتل الثوار، وهدم المداشر والقرى، على النساء والصبية الصغار..
وتمادى العقل الفرنسي في التدهور والتدحرج إلى أن آل إلى ما هو عليه اليوم، من لائكية معكوسة، وإجراءات سياسية منحوسة، فبعد الاحتلال، والإذلال، والاستغلال، ها هو يمارس قوانين الانفصالية، والإقصائية، والطائفية والعنصرية، باسم مبادئ الجمهورية.
فهذه القيم المقلوبة، هي التي تمارسها الجمهورية الفرنسية اللائكية، على الطبقة الإسلامية المغلوبة، وها هي باسم المفاهيم المظلومة، تحرم المسلمة من حقها في الحجاب والنقاب، وتضيق على الإمام المسلم في المحراب، وتوصد، أمام المواطنين المسلمين، كل الأبواب، واتهامهم ظلما بالإرهاب.

فهل من اللائكية، التي تعني فصل الدين عن الدولة، إجبار المسجد المسلم الطاهر، على التمكين لقاذورات المثلية، والحيلولة دون المواطن الفرنسي المسلم، من القيام بسنة الأضحية، ومنعه من تعلم أبنائه في الكتاتيب القرآنية، ومصادرة نصوصه في التربية الإسلامية؟!
إن هذا الانحدار، وهذا التدهور هو الذي عبر عنه الشاعر المصري صالح جودت رحمه الله في قوله:
أطفأت أضواء باريس
يد الله العلية
بعد أن كانت حمى النور
ومأوى المدنية
وإلا كيف نفسر، قتل الأسير، والإلقاء بالمناضلين الجزائريين، أحياء في نهر «السين» الغزير، والإجهاز على الجريح النازف دمه، الصغير والكبير؟
أفبعد هذا كله، يرفض القائمون على الشأن الفرنسي، تقديم الاعتذار، على ما اقترفه ضباطهم، وجنودهم من عار وشنار ودمار؟!
وليس هذا فقط، بل نجد بين ظهرانينا، من بني جلدتنا، من يبشر بفكرهم، ويشيد بذكرهم، ويطالبنا، بالسير على خطاهم واقتفاء أثرهم.
أليس فينا من يطالب، بإلغاء قوانين الشريعة، في الدستور، و«تحرير» المرأة من قانون الأسرة الذي هو النابض بضمير الجمهور، والمترجم لرأي الأغلبية الساحقة من شعبنا المعتز بانتمائه للإسلام، والذائد عن قوانينه وبه الفخور؟
إنه لجميل جدا، أن نخوض- اليوم- معركة الذاكرة، وأن نسلط الضوء على فضائح الاستعمار وسياسته الماكرة، ولكن الأجمل من كل هذا، أن نجفف ينابيعه في عقولنا، وحقولنا، وأن نقضي على أسبابه وآثاره، في نفوسنا، وطروسنا، فلئن رحل الاستعمار، من بلادنا، كعلَم، وعملة وكجنود وبنود، فإنه لا يزال بيننا الدخيل والعميل، والدعيّ والغبيّ، والمنسلب والمنقلب، وكلهم يوطّنون للعدو أكناف البيت، ويضيئون له بالغاز والزيت، ويعملون على بسط نفوذه بالكيت والصيت.
إن المسلمين الفرنسيين، سواء منهم من ولدوا من أصل فرنسي، أو من اغتربوا، إنهم جميعا، إخوة لنا بالقوة أو بالفعل، تربطنا بهم قرابة الذمة والدم، وتجمعنا بهم عراقة الشعيرة الدينية أو الوطن الأصلي الأم وإن من حقهم علينا، باسم حقوق الإنسان أولا أن نحمي ضمائرهم، ونصون شعيرتهم وشعائرهم، «فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» والمواطن للمواطن، حتى وإن بعد، أرحام تتعاطف، وأخوة تتكاتف.
وبعيدا عن أي تدخل في حقوق مواطنيهم فإن هذه المواطنة، تفرض حماية معتقدهم، واحترام قناعتهم، وصيانة ثقافاتهم، وديانتهم، ومن واجبنا نحوهم، أن نحمي ظهورهم، وأن نحامي عن قضيتهم العادلة، عندما، يطالبون بحقهم في الانتماء، ومبدإ، الإقتداء، وسلامة القيم والاهتداء.

نريد لفرنسا الحرية والمساواة والإخاء أن تعود هي أيضا إلى أصالتها، وعراقتها، فتحمي المظلومين في جمهوريتها، وتنصر المعذبين حيثما كانوا، فالظلم كل لا يتجزأ، والحق –أيضا- كل لا يتجزأ.

ونريد للعقل الفرنسي الحر، على الخصوص وهو الذي لا يزال واعيا بانتمائه العميق، وتشبثه بالمبدإ العريق، أن يقف في وجه التعسف الذي يمارس التضييق، ويغلق أمام المسلمين المسالمين كل سبيل وكل طريق.

ونذكّر الجميع، بأن الإسلام في صفائه ونقائه، مجبول على السلم، والتسامح، والأخوة، والتعاون، فهو دين لا يضيق أهله بالاختلاف بل ديدنه مع الجميع، التضامن والائتلاف.
إنه –والله- لعار على الأمة الفرنسية التي أنجبت بالأمس، عقل الأنوار، والمفكرين الأخيار، أن تضيق اليوم، بالأقلية من المسلمين الطيبين الأخيار.
إن من حق فرنسا الجمهورية، أن تنادي بتطبيق قوانينها الجمهورية، ولكن في كنف المختلف عنه، لا المخالف، فاللائكية التي تدين بها الجمهورية تعطي ما لله لله،، وما لقيصر لقيصر، فكيف يجيز دعاة الجمهورية الفرنسية اليوم، لأنفسهم، اللجوء إلى التعسف في فرض اللائكية، والتضييق على المؤمنين من أتباع الديانة الإبراهيمية، وقمع كل من يعلن انتماءه للقوانين الدقيقة والعميقة للعقيدة الإسلامية. عار والله، وألف عار أن تبقى معاناة المسلمين في فرنسا مستمرة، وأن توضع أمامهم القيود والحدود، فتحول دون أدائهم لما هو معلوم من الدين ومشهود.

إن الأمل معقود على الحكماء الأحرار من الفرنسيين وعلى المؤمنين الأطهار من المسلمين، أن يتعاونوا جميعا، من أجل تبديد السحب الدكناء التي تحجب الضياء، عن أبنائنا وبناتنا المسلمين المغتربين أو الغرباء.
وليثق الجميع، أن الحق في النهاية، يعلو ولا يعلى عليه، وإن البقاء في الأخير لن يكون إلا للأقوم، والأسلم.
إنها سنة الله، ولن نجد لسنة الله تبديلا..

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى