مقالاتمقالات مختارة

الإسلام السياسي والحرب الدينية

نسمع كثيرا عن الإسلام السياسي في سياق منفّر وليس محببا، لكننا لا نسمع عن المسيحية السياسية ولا عن اليهودية السياسية، ولا عن السيخية أو البوذية؛ فهل الإسلام هو الذي يقيم معايير سياسية مختلة، أم إن الاختلال يأتي من جهات فكرية وأيديولوجية ودينية متعددة؟

لقد شهدنا على المستوى العالمي الرأسمالية السياسية والشيوعية السياسية، لكننا لم نشهد الخطاب التنفيري من هذه الاتجاهات بل شهدناه فقط بشأن الإسلام؛ فلماذا يحق للغير تسييس أفكارهم ومناهج حياتهم والترويج لها.. ولا يحق ذلك للمسلمين؟

العديد من هواة الفكر السياسي -الذين لم ينضجوا فكريا بعدُ- يظنون أنهم جهابذة الفكر عندما يتحدثون بلؤم وازدراء عن الإسلام السياسي، وكأن هذا الإسلام هو مسبب كل الاضطرابات العنصرية على المستوى العالمي. ومن المؤسف أن وسائل إعلام كثيرة تنحو ذات الاتجاه فتظن أنها تبث الوعي في عقول الناس لكي يقبلوا على الشعائر الإسلامية دون الجوهر الإسلامي.

سذاجة المصطلح
مصطلح الإسلام السياسي ساذج جدا ولا يخرج عن دائرة المراهقة السياسية؛ فما المطلوب من دين أو فلسفة أو منظومة فكرية ترى نفسها صالحة كمنهج حياة أن تعمل؟ هل مطلوب منها أن تتحدث بالنظرية فقط أم تسعى لبعث الوعي الإنساني عسى أن تتم ترجمة المنظومة على أرض الواقع وتتحول فعلا إلى منهج حياة سياسي واجتماعي واقتصادي؟

ألم يعمل أصحاب الفكر الشيوعي والاشتراكي على تطبيق أفكارهم، وقادوا العديد من المجتمعات -على المستوى العالمي- وفق معايير الشيوعية والاشتراكية الفكرية؟ ألم يقم الاتحاد السوفياتي على أساس الفكر الماركسي؟ ألم تفعل ذات الشيء دول أخرى مثل الصين وفيتنام وكوبا وفنزويلاودول أوروبا الشرقية أثناء الحقبة السوفياتية؟

“مصطلح الإسلام السياسي ساذج جدا ولا يخرج عن دائرة المراهقة السياسية؛ فما المطلوب من دين أو فلسفة أو منظومة فكرية ترى نفسها صالحة كمنهج حياة أن تعمل؟ هل مطلوب منها أن تتحدث بالنظرية فقط أم تسعى لبعث الوعي الإنساني عسى أن تتم ترجمة المنظومة على أرض الواقع وتتحول فعلا إلى منهج حياة سياسي واجتماعي واقتصادي؟”

ألم تتبنّ دول عربية -مثل مصر والجزائر والعراق وسوريا- الفكر الاشتراكي وعملت فاشلة على تطبيق أسس ومبادئ الاشتراكية؟ ألا توجد أحزاب مسيحية ديمقراطية في أوروبا تخوض الانتخابات وتفوز مثلما حصل في ألمانيا؟ وماذا عن دولة الكيان الصهيوني؟

لقد بدأت الحركة الصهيونية قومية، ولم تجد مفرا أمامها إلا أن تستعمل الديانة اليهودية لتشجيع اليهود على الانضمام إليها والهجرة إلى فلسطين. لقد وجدت الحركة الصهيونية أنها غير قادرة على التمدد بدون عنصر ديني يتغلغل في طرحها الفكري، فوقف رجال الدين اليهود إلى جانب الحركة الصهيونية واستعملوا طاقاتهم الدينية ومفاهيمهم وتعاليمهم لدفع اليهود إلى فلسطين.

والآن في فلسطين، تستحوذ الأحزاب الدينية الصهيونية على قوة سياسية كبيرة، وأحيانا كثيرة تدعم تشكيل حكومة أو تسقط أخرى. ولولا قوة الأحزاب الدينية لما استطاعت الحكومة الحالية البقاء؛ فقوة حكومة الكيان الصهيوني تنبع أولا من قوة الأحزاب الدينية التي تؤمن بأن فلسطين هي الأرض المقدسة ومخصصة لليهود فقط، وأن الفلسطينيين مجرد دنس ونجس ويجب طردهم من الأرض المقدسة.

وكما وصفهم أحد كبار رجال الدين في الكيان؛ فإنهم مجرد أفاعٍ سامة يجب التخلص منها. وهؤلاء المتدينون هم الذين يتبنون الفكر الاستيطاني وهم الذين يدفعون الحكومة نحو مصادرة الأراضي، وبناء الآلاف من الوحدات الاستيطانية وزيادة أعداد المستوطنين في الضفة الغربية.

ورغم ما يشكّله اليهود المتدينون من تهديد للأمن والسلم العالمييْن والإقليمييْن؛ فإننا لا نسمع عن اليهودية السياسية. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن العديد من وسائل إعلامنا وكتابنا ومثقفينا ينساقون وراء المصطلحات والمسميات الغربية بصورة عمياء، ودون أن يدركوا المخاطر التي تنطوي عليها هذه التعبيرات. التعبيرات الغربية تغزو العقول والصدور، وتسبب تحولات ثقافية وفكرية تلحق ضررا كبيرا بالقضية الفلسطينية وعموم القضايا العربية.

يمكن أن نجد عذرا لبعض المراهقين السياسيين في حصر التسييس في الإسلام، لكنه من غير المفهوم أن نجد كُتابا كبارا ينساقون وراء الرغبات الغربية والصهيونية. الكيان الصهيوني وكذلك أهل الغرب الاستعماريون يعادون الإسلام، وهي معاداة لم تبدأ مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة، علما بأنهم جميعا شاركوا في صناعة هذه التنظيمات.

يحمل هؤلاء جميعا أفكارا ومواقف ضد الإسلام والمسلمين، ومنذ معركتيْ اليرموك وبلاط الشهداء وهم يدرّسون أبناءهم في المدارس والجامعات الحقد والكراهية للمسلمين، ولم تكن صناعتهم لتنظيمات إرهابية باسم الإسلام إلا جزءا من حملتهم ضد الإسلام والمسلمين.

لماذا المصطلح؟
لقد صنع الغرب تنظيمات أساءت جدا إلى صورة الإسلام، وعمقت النظرة السلبية إلى العرب والمسلمين. لقد أثبت صانعو الإرهابيين للأجيال -على اتساع العالم- أن النظرة السلبية الموجودة في الكتب تجاه المسلمين مدعومة بواقع مؤلم يراه كل الناس على شاشات التلفاز.

ومع هذه الصورة القاتمة التي رسمتها التنظيمات الإرهابية؛ كان لا بد من تطوير المصطلحات والمفاهيم المناسبة لغرس وعي مصفّد مفاهيميا في العقول حول همجية الإسلام والمسلمين. المفاهيم الجديدة يتم تناولها إعلاميا وفي المناهج التدريسية فتصبح جزءا من الثقافات المجتمعية في دول كثيرة، ويتحول الإسلام إلى دين ظلامي همجي متوحش. العديد من العرب والمسلمين باتوا يتساوقون مع هذه المفاهيم التي بالتأكيد سيدفعون هم وغيرهم ثمنها مع الأيام.

“المسلم اليوم مجرد ممثل يحاول أن يطبق معايير وقناعات غيره. ولهذا من السهل أن يتم التلاعب بالمسلم من قِبل أعدائه، ومن السهل أن يتم خداع التنظيمات والأحزاب الإسلامية وحرفها عن الأهداف والمبادئ التي قامت على أساسها. وهذا واضح في التفاسير الدينية الهوجاء التي لا تترك مجالا للإنسان لممارسة حرية فكرية أو اجتماعية أو سياسية”

لنا بالتأكيد مشكلة مع الإسلام الفقهي المحصور غالبا في قضايا الحلال والحرام، فالمسلمون لم يطوروا بعدُ الفكر الإسلامي ولم يستنبطوه من القرآن الكريم. لقد أبعدوا المفكرين والمنظرين عن المشهد الإسلامي منذ البداية، ولاحقوا الفلاسفة وكفروهم وضيقوا عليهم الحياة.

لقد انفرد الفقهاء بالدين الإسلامي وحولوه إلى كم ضخم من المحرَّمات والمحلَّلات، وفصلوا كثيرا في السلوك الإنساني حتى بات المسلم مشلولا في حياته العامة، ولا يفكر إلا في كمّ الحسنات التي يحرزها أو كمّ السيئات التي تلاحقه. لقد شلّوه حتى أصيب بالشلل الفكري وفقدان الشخصية والبَلَه الاجتماعي، وحاصروه بتصرفاته حتى بات يبحث عن معايير الناس في تحديد سلوكه.

المسلم ليس هو وإنما ما يريده الناس، وهو مجرد ممثل يحاول أن يطبق معايير وقناعات غيره. ولهذا من السهل أن يتم التلاعب بالمسلم من قِبل أعدائه، ومن السهل أن يتم خداع التنظيمات والأحزاب الإسلامية وحرفها عن الأهداف والمبادئ التي قامت على أساسها. وهذا واضح في التفاسير الدينية الهوجاء التي لا تترك مجالا للإنسان لممارسة حرية فكرية أو اجتماعية أو سياسية.

لقد أدخل الفقهاء الإسلام في نفق أعمى فكريا، وحولوه إلى قوالب جامدة لا تقبل الرأي الآخر ولا تقبل الآخر نفسه، فأصبح الدين عنصريا دون أن يشعر العنصري بأنه عنصري.

وقمعوا الحريات حتى بات المسلم مغرما بالنُّظم الغربية علما بأن الإسلام من الناحية الفكرية لا يضع حدودا على حرية الإنسان، ويعتبر الحرية طبيعية خلْقية وأوسع بكثير من مفهوم الحرية في الديمقراطية. الحرية في الإسلام هي وحدة الذاتي والموضوعي وهي مسألة تتطلب شرحا واسعا.

التدريس الديني سواء البيتي أو المدرسي أو الجامعي يصنع مسلما ساذجا بسيطا، يحتكر الجنة ورب العالمين والحور العين. وهو مشلول فكريا وسهل الانقياد وسريع التحول فكريا إن وجد من يبعث فيه فكرا مغايرا، ولم يكن غريبا أن تظهر تنظيمات تحمل مسميات إسلامية لكنها تسيء إلى الإسلام والمسلمين والعرب.

الحرب الدينية
لقد اقترف أفراد هذه التنظيمات الجرائم الشنيعة باسم الإسلام، وأوصلوا المسلمين إلى درجة انحطاط سحيقة نشهدها الآن. ولهذا فإن مهمتنا الآن ليست تعميق الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين، وإنما العمل على محو ما تراكم من انطباعات سلبية عن الإسلام على المستوى العالمي.

وفي نفس الوقت مطلوبٌ تطوير الفكر الإسلامي، وعلى الفقهاء أن يكفوا عن تكفير الناس وملاحقتهم لكي يبقى المجال مفتوحا أمام النقاش الحر، وأمام تحديث العقل المسلم. العقل المسلم مصاب بالعفن ويجب أن يخرج إلى الهواء الطلق.

“لماذا يحق للصهاينة خوض حروب دينية يهودية باسم الرب من أجل أرض الميعاد وأرض إسرائيل الكبرى، ولا يحق للمسلمين خوض حرب من أجل الأقصى؟ يقول بعضهم إن الحرب الدينية مدمرة للجميع، لكنهم لم يأتوا بأمثلة عن حروب محملة بالورود والرياحين”

في ذات السياق؛ هناك من يتحدث ضد الحرب الدينية ويريد من المسلمين أن يخرجوا الدين من قاموسهم العسكري. على ذات الشاكلة، لماذا يحق للرئيس الأميركي جورج بوش الابن أن يصف حربه على العراق بالحرب الصليبية الدينية، ولا يحق لحسن نصر الله أن يخوض حربا ضد الصهاينة تحت مظلة القرآن؟

ولماذا يحق للصهاينة خوض حروب دينية يهودية باسم الرب من أجل أرض الميعاد وأرض إسرائيل الكبرى، ولا يحق للمسلمين خوض حرب من أجل الأقصى؟ يقول بعضهم إن الحرب الدينية مدمرة للجميع، لكنهم لم يأتوا بأمثلة عن حروب محملة بالورود والرياحين.

لقد اخترع أهل الغرب هذا المصطلح وباعوه للعرب والمسلمين لأنهم يعلمون مدى صلابة المسلم في القتال، ويعرفون أنه لا يدير ظهره ويكره أن يُقتل من الخلف. جندي من حزب الله أو حركة حماس قادر على مواجهة عدة جنود صهاينة، وكتيبة منهما تهزم لواء صهيونيا مدرعا. الغرب يريدون جنديا لا يؤمن بقضيته ولا عقيدة لديه لكيلا يبقى عصيا على الهزيمة. هم يريدون جنديا بلا وعي وبلا هدف وبلا قضية ومن السهل عليه أن يولي الأدبار.

قضية فلسطين قضية مقدسة على مستوى الإسلام وعلى مستوى المسيحية، ومطلوب منا تنمية الوعي الديني لدى أبنائنا من أجل أن يفهموا أن مقدساتهم منتهكة، وأن المسؤولية تقع على رقابهم أولا ودون غيرهم.

معاركنا ليست في الأمم المتحدة وإنما في الميدان، ويجب ألا ننصاع لخداع الآخرين فيحولونا عن منظومتنا الأخلاقية وانتماءاتنا لوطننا ومقدساتنا والتزاماتنا تجاه قضيتنا.

نحن بحاجة إلى تجديد فكرنا لأن النهوض الفكري ينبثق إلى نهوض إنساني عملي ينقلنا نقلة نوعية من الخزعبلات إلى عالم الحقيقة، ويخرجنا من عالم السبات والكسل إلى عالم اليقظة والعمل. حربنا ذات جوانب متعددة وعلى رأسها الجانب الديني.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى