الإسلاموفوبيا في فرنسا وعقدة الحجاب
بقلم فاتن عبد الرحمن
الإسلاموفوبيا، أستعمل هذا المصطلح ببعض التحفظ، ذالك أن الفوبيا هي الخوف الشديد من امر ما والخوف شعور خارج عن إرادتها، نعذر به ولا نلام عليه٠ أما الإسلاموفوبيا فلا أراها خوفاً عفوياً لا إرادة لصاحبه فيه، وإن كان عند قلة، فهو ناجم عن جهل ٠ ولا يعذر الجاهل بجهله لمواطنيه، الذين يتقاسمون معه الوطن لأجيال وعقود، في العمل والمدارس والشوارع والمقاهي لا٠ يعذر الجاهل بجهله للواقع والقانون، فضلاً عن سن قوانين تعتدي على حقوق وحريات مواطنين لتهدئة روعة الجاهل بها وبهم.
الإسلاموفوبيا هي ليست الخوف من الإسلام بل هي الكراهية للإسلام والمسلمين. والحجابوفوبيا هي الكراهية للحجاب والمحجبات٠ والكراهية شعور فيه قدر من الإرادة والمسؤولية خاصة إذا كانت مدفوعة، متغذية بصور نمطية، ومقاربات سطحية، يعمم فيها كل ما هو سيء من فرد، على كل المشتركين معه في الأصول أو اللون أو المعتقد، تجرم القوانين والمواثيق الدولية التعبير عن الكراهية، لأنها أولى خطوات العنصرية والإقصاء، والتنابذ بين المواطنين، ثم بين الشعوب، وما يتلوها من حروب ومأسي وصراعات.
يحاول الإسلاموفوبي التخفي وراء حرية التعبير ووراء الحق في نقد الإسلام كغيره من الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات. غير أن خطابهم وكتاباتهم هي حملات تشويه واستنقاص من المسلمين، مواطنين كانوا أو ومهاجرين ٠مس تجريحهم جوهر حرية المعتقد، كبناء المساجد، وترك أكل لحم الخنزير، ولباس المسلمات المحجبات. حتى شعيرة الصوم لم تسلم من التشويه والتخويف، حين ادعى في 2012 “جان فرنسوا كوبي” أمين عام حزب “الإتحاد من أجل حركة شعبية ” أن أطفالا فرنسيين في بعض الاحياء، يفتك من أيديهم خبز الشكولاتة، بدعوى أن الأكل في رمضان ممنوع ٠لقد كانت هذه الكذبة كبيرة، حتى أضحى صاحبها موضوع سخرية وسائل التواصل الاجتماعي ولقب “مسيو خبز الشوكلا”
خطابات العنصرية والتحريض تبحث أحيانا عن شماعات، فتجدها في الفئات الأقل نفوذا، كالمهاجرين والأقليات٠ ويبحث أصحابها أحيانا أخرى عن استقطاب الناخبين، بالادعاء أن البطالة وغلاء المعيشة والمشاكل الاقتصادية أو الأمنية، سببها الأجانب وأبناء المهاجرين. استقدمت فرنسا في الستينات بالاغراء والتشجيع، آلاف المسلمين٠ ساهموا بقوة في نماء الاقتصاد الفرنسي وإنشاء البنية التحتية٠كانت ظروفهم الحياتية صعبة سكنياً واجتماعيا وحقوقيا٠ بسبب الأمية وقلة الخبرة، والنزعة الاستعمارية عند بعض أصحاب الأعمال، رضي ذلك الجيل بالزهيد من الحقوق٠ أما أبناء العرب والمسلمين ممن ولدوا ونشأوا في فرنسا، وتعلموا في مدارسها وأتقنوا لغتها، فقد بدأوا يشيرون إلى اختلال العدالة بينهم وبين اقرانهم الفرنسين من اصول اوروبية٠ غياب المساواة في ظروف السكن والدراسة وفرص العمل، وتتناقض ذالك مع قيم الحقوق، والعدل، والإخاء، كجزء من ثقافتهم، راكم لديهم إستياءا ورفضا لهذا الواقع٠
تلك الحقبة من السبعينات لم يثر حتى اليمين المتطرف الهوية الإسلامية في خطاباته الإقصائية٠ ولعل أولى الإشارات التي بدأت تركز على الإسلام والمسلمين كجزء من مشاكل فرنسا بدأت في الثمانينات٠ تقول باحثة علم الاجتماع “ كرستين ديبي“ بدأ الإنزلاق نحو مصطلح المسلم، للحديث عن المهاجر بصورة سلبية، في الثمانينات، لتمرير العنصرية بشكل سلس٠ فمصطلح العربي والمغربي لرفض الآخر بدا أقل تقبلا وأناقة، لأنه رفض للأخر بسبب أصوله التي لا دخل له فيها، إما رفضه بسبب دينه، فأكثر تقبلاً لأنه جزء من ثقافته وهويته وله أن يتخلى عنه إذا أراد الاندماج في المجتمع الفرنسي.
لم يكن هناك حدث بذاته، هو فقط تلون للعنصرية٠ وبحث لليمين المتطرف عن أهداف، تجمع حوله إقبا ًلا أكثر، لجمهور أوسع، قد يجد في هذا المصطلح حرجاً أقل للتماهي مع أفكاره في رفض الآخر دون شعور بالذنب كما لو كان يرفضه فقط لأنه عربي أو مغربي، في أواخر الثمانينات والتسعينيات بدأ لهذا الجيل الثالث وأبنائهم مطالب في علاقة بهويتهم كفرنسيين من أصول مسلمة٠ كالتراخيص للمساجد، ومجازر اللحم الحلال٠ كما بدأت عدد من الفتيات ترتدي الحجاب، حدث أول تصادم رسمي ومؤسساتي مع هذا الشباب المسلم الصاعد، في جزءمن هويته، منذ ثلاثين سنة٠ حيث كانت بعض المعاهد ترفض دخول الطالبات بالحجاب، فتضطر المحجبة لخلعه ساعات الدرس، سنة 1989 رفضت ثلاث طالبات بالثانوي، هذا التعسف خارج القانون، وتمسكت بحقها في الدراسة وحريتها في اللباس٠ كان لهذا الحدث ساعتها صدى إعلامي عالمي٠ في الداخل الفرنسي نصبت المنابر الإعلامية والسياسية عن الهوية والإسلام والعلمانية٠
تحرر الخطاب المعادي للحجاب فاستمعت المرأة المحجبة لآلاف الخطابات المشمئزة، والمحرضة، والمهينة٠ تلميحا وتصريحا بعدم نضجها وغياب إرادتها، وسيطرة الرجل عليها في كل خياراتها الفكرية والحياتية، حتى في لباسها. أصبح الإسلام والمسلمون والحجاب والمحجبات هدف العنصرية الجديد٠ باستهدافهم، جدد العنصريون، من يمينيين وعلمانيين متطرفين، خطابهم الإقصائي٠ غايتهم التوسع في المجتمع واستقطاب فئات جديدة تشاركهم الأفكار٠ فخطابهم السابق المعادي للمهاجرين عامة والعرب، أو اليهود، كان أكثر استهجانا في المجتمع٠
كل تلك النقاشات، والمنصات الإعلامية، عن الحجاب، والمرأة المسلمة ومصلحتها وحقوقها،تمت في غياب النساء المعنيات، والاستماع لآرائهن، في محاولة لحسم الخلاف حول الحجاب، بين المعتدلين حماة الحريات، والإقصائيين المتطرفين، سنت فرنسا في 15من مارس 2004قانونا لمنع الرموز الدينية في الدراسة أو العمل لتلاميذ المدارس الابتدائي والثانوي، ومنتسبي الوظيفة العمومية، ورغم ما قيل حينها أن هذا القانون هدفه فقط حماية إرادة الفتاة القاصرة من احتمال تسلط اسرتها واجبارها على الحجاب٠ وأنه خارج هذا التضييق القانوني المحدود، للمسلمة حرية اللباس، كغيرها من النساء، إلا أن الواقع يعج بعشرات، بل مئات الشهادات عن الاعتداء والإقصاء للمرأة المسلمة بسبب لباسها الإسلامي.
لعل أشهر حالات التضييق الممنهج على المحجبات في فرنسا، تلك التي التقطتها عدسات التصوير، كتلك السيدة المحجبة على شاطئ البحر والشرطة البلدية حولها تطلب منها إما نزع لباس البحر المحتشم (البوركيني)أو مغادرة الشاطئ. والثانية قصة “منال” الفتاة ذات الملامح الأوروبية والصوت الجميل التي شاركت في برنامج الغناء الشهير The Voice ولم تشفع لها موهبتها الفذة، وانفتاحها على الفن والغناء كدليل على اندماجها كفرنسية مسلمة٠ فلمجرد كونها تلبس حجابا خفيفا Turban، تعرضت لحملة تشويه وإقصاء دفعتها لترك البرنامج. أما الحادثة الأخيرة والتي وصل فيها الغباء والإقصاء والكراهية ذروته ٠ في مشهد كريه طالب أحد نواب اليمين المتطرف من رئيسة بلدية، طرد أم مسلمة محجبة، تحضر في زيارة تثقيفية مع مجموعة من التلاميذ للمجلس الجهوي. طالب بطردها أمام طفلها، بسبب حجابها ٠في مشهد يلخص إلى أي حد تحرر خطاب الكراهية والتحريض ضد المسلمين ٠ورغم أن هذا النائب اليمني المتطرف يتصرف خارج القانون، الذي يسمح للمرأة المحجبة، أن تشارك في هذه الزيارات المدرسية لكونها متطوعة، ولا تعمل في الوظيفة العمومية، لم يجرم النائب على هذا الاعتداء، والسلوك الغير قانوني. بل أصبح شخصية مشهورة، تحضر المنابر الاعلامية لبث خطابه الاسلاموفوبي٠
وزاد الأمر سوءا ما تلي ذلك من نقاش، حول هل يحق للأم المتحجبة أن تصاحب أبنائها وبقية التلاميذ للزيارات التثقيفية المدرسية خارج المدرسة٠ ومع أن هذه الحادثة اثارت موجة من التعاطف مع الأم وابنها، وانتشرت صورتها وهي تقبل طفلها وتحاول تهدئة روعته، امام صدمة الاعتداء اللفظي على امه. ورغم ان الغالبية المجتمعية والسياسية أدانت هذا التحرش اللفظي ٠ إلا أنه في المقابل -وككل مرة – فتحت المنصات الإعلامية للعنصريين الجدد، والعلمانيين المتطرفين للتهجم على والمسلمين، والمحجبات. وتصاعدت حملات الشحن وبث الكراهية ضدهم ٠ زادتها شحنا قرب الانتخابات البلدية التي يتنافس فيها اليمين التقليدي مع اليمين المتطرف، ويتراجع فيها اليسار الاجتماعي، الأقرب عادة إلى القضايا الحقوق والحريات٠
أصبح المواطنون والمهاجرون من أصول مسلمة، وخاصة المحجبات، وسائل لاستقطاب الناخبين بالترهيب من الآخر المختلف٠ وصل الامر بالبعض لنعتهم ب《المستعمرين الجدد》الذين جاءت بهم قوانين الهجرة وحماية حقوق الانسان، ليحلوا محل السكان الأصليين، في هذه الأجواء التي علا فيها صوت الإسلاموفوبي والحجابوفوبي٠ مرة أخرى تجاوز التطرف الأقوال إلى الأفعال، فوقع الاعتداء على مسجد “بايون” حيث عمد أحد المرشحين السابقين لليمين المتطرف لحزب “الجبهة الوطنية” إلى محاولة حرق المسجد وأطلق الرصاص تجاه رواد المسجد وجرح اثنين منهم ٠
ومن السخرية والمهانة ان مجلس الشيوخ الفرنسي صادق على قانون منع الأمهات المحجبات من المشاركة التطوعية في الخرجات المدرسية بعد يوم من هذا الاعتداء، وبعد أسبوع من الحملة الإعلامية ضد المحجبات وتجريح الأم المسلمة في المجلس الجهوي، لم يأخذ بعين الاعتبار مطالبة الكثير من المختصين والمفكرين المعتدلين لمزيد تعميق النقاش والاحتكام للمفهوم الأصلي للعلمانية وهو حياد الدولة، واحترام الأديان جميعا، والمساواة بين المواطنين. لم يتم الاستماع إلى السيناتور السيدة “سامية غالي” عن الحزب الاجتماعي، بتأجيل المصادقة على قانون يضيق حريات ضحايا الاعتداءات، في مفارقة جرحت مشاعر المسلمين في فرنسا.
ضاقت شريحة كبرى من الفرنسيين من مختلف الاطياف، بهذا الشحن الإعلامي والسياسي العدائي، ضد المسلمين. فبدأت الدعوات تتوالى لخروج مسيرة مناهضة للكراهية والإسلاموفوبيا. شارك في الدعوة فنانون، وحقوقيون وكتاب، وشخصيات عامة. رغم محاولات الثني عن هذا الاحتجاج، بالتشكيك في وجود الإسلاموفوبيا تارة، وبالتحذير من بعض الداعين له تارة أخرى، ونعتهم بالإسلاميين والمتشددين.
10 نوفمبر2019 خرجت مسيرة حاشدة شارك فيها أكثر من 15 إلى 20 ألفا من المواطنين والشخصيات الحقوقية والسياسية، والجمعيات، والنقابات المهنية٠ أدانوا انتهاكات حقوق مسلمي فرنسا ونشر الكراهية تجاههم، كان من بين المحتجين السيدة “إستال بنباسا“، السيناتور والحقوقية، والسيدة ميشال سبوني وهما شخصيتان فرنسيتان من أصول يهودية حذرتا من هذه الاجواء العدائية ضد المسلمين٠ في مناخ يذكر بالإشاعات، وخطاب الكراهية، ضد يهود أروبا، والتخويف من وجودهم، وما تلى ذلك من فظاعات ومحارق٠ فمحاولات التقسيم والمفاضلة بين المواطنين وتقسيمهم إلى مواطني درجة أولى ومواطني درجة ثانية على أساس أصولهم وعقائدهم٠
يقول المفكر وأستاذ العلوم السياسية “فرنسوا بيرقا” ان الديمقراطية الفرنسية في أزمة، ما لم تسمح بتواجد الفرنسي المسلم، في المجال الرسمي والنخبوي والسياسي٠ فالديمقراطية والتنوع الحقيقي، للمحافظة على السلم الاجتماعي، هو قبول الاخر باختلافه٠ الواقع أن السياسيون والنخب الفرنسية المسيطرة على المشهد الإعلامي والثقافي، يحبون فقط الفرنسي المسلم الذي تخلى عن إسلامه، لذر الرماد في العيون، يلتجأ بعض الاعلام، والنخب السياسية إلى تمثيل المسلمين في الحضور الإعلامي والرسمي ببعض المسلمين الخالين من الدهون (لايت) فيصدروا بعض الاسماء العربية، الإقصائية والمعادية بشدة للإسلام أو للحجاب، للحديث عما يريده الفرنسي والمواطن المسلم٠
يأكد كل العقلاء، والمفكرين والسياسيين المعتدلين، أن فرص تجنيب البلاد الانقسامات، والفتن، يكمن فقط في احترام حرية المعتقد وحرية اللباس للمسلمين، كما لغيرهم من المواطنين ٠ وفي إعطاء الكلمة، لمسلمي فرنسا المعتدلين، والاستماع إلى مشاكلهم واشراكهم في الحلول وفي البناء كمواطنين مكتملي المواطنة دون وصاية أو استنقاص .و يعتبرا لحقوقيون أن التصدي للإسلاموفوبيا أمر عاجل ففي إحصائية رسمية صرح 42 % من الفرنسيين المسلمين انهم تعرضوا للإقصاء مرة واحدة على الأقل في حياتهم بسبب دينهم، وتصل هذه النسبة إلى 60 % بنسبة للفتيات والنساء المحجبات٠ وأن مئات الشكوى تصل إلى الجمعيات المناهضة للعنصرية وخاصة جمعية مناهضة الإسلاموفوبيا، وتصل إلى المحاكم٠ أحيانا تؤكد تضاعفا خطيرا للإسلاموفوبيا ٠
(المصدر: مدونات الجزيرة)