مقالاتمقالات المنتدى

الإسراء والمعراج وجغرافية الرسالة

الإسراء والمعراج وجغرافية الرسالة

 

بقلم د. سلمان السعودي “أمين ملتقى دعاة فلسطين” (خاص بالمنتدى)

 

الإسراء والمعراج رحلة ربانية، وفدها ملائكة وأنبياء، لم يقصد من هذه الرحلة التنزه والترفيه، وإن كانت التسرية عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم جزء منها، ولكن المقصد والغاية هو أسمى من ذلك، فمقادير الله تعالى وإن تتضمن في ظواهرها بعض المنافع، فإنها تأتي لرسم قواعد التمكين لسلامة الكون من طوفان الطغيان وإفساده، ورحلة الإسراء والمعراج جسدت هذه القواعد في دلالات من أهمها:

أولا: وحدت الساحات الإيمانية:

قال الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء:1).

المتأمل لهذه الرحلة الربانية يجدها قد رسمت لنا وحدة الساحات الإيمانية التي تربط بيت المقدس الأرضي والسماء، حيث انطلقت الرحلة من بيت أم هانئ في مكة المكرمة أقدس أرض الله تعالى إلى البيت الحرام أول بيت وضع للناس، ثم إلى المسجد الأقصى المبارك ثاني بيت وضع للناس في الأرض، ومركز المعراج لبوابة السماء لتمر الرحلة على سموات الله السبع، ثمّ تحط في ظلال سدرة المنهى حيث التجلي الإلهي، وبهذا كانت جغرافية الرسالة تمثل وحدة الساحات الإيمانية لنشر السلام الكوني في وجه الطغيان وإفساده.

ثانيا: رحلة الإسراء والمعراج رسمت وحدة الساحات الأرضية والسماوية:

انطلقت الرحلة كما بينا من بيت أم هانئ في مكة المكرمة، إلى البيت الحرام أول بيت وضع للناس، إلى المسجد الأقصى المبارك ثاني بيت وضع للناس في الأرض ومركز المعراج لبوابة السماء لتمر الرحلة بسماوات الله السبع ثم تحط في ظلال سدرة المنتهى، وبهذا كانت جغرافية الرسالة، هذه الجغرافية التي رسمتها رحلة الإسراء والمعراج من نقطة الانطلاق ومحطات العبور إلى نقطة النهاية، ثم العودة بحسب الخارطة الجغرافية المعدة لذلك والمتمثلة بأرض الجزيرة العربية وفلسطين والسماوات السبع، ونقطة الوصول النهائية سدرة المنتهى، ومن ثم العودة حيث كان الانطلاق، لترسم الخارطة الجغرافية للرسالة المحمدية التي بُعث بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم لتثبت وحدة الساحات الإيمانية لنشر السلام الكوني.

ثالثا: وحدة ساحات القيادة والعقيدة:

الله سبحانه وتعالى بعث النبيين والمرسلين إلى أقوامهم من أجل أن يبلغوهم عقيدة التوحيد، فما من نبي إلا وقال لقومه: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } (المؤمنون:23).

ففي هذه الرحلة الربانية وحّد الله تعالى فيها جميع ساحت النفوس البشرية في الساحة المحمدية على بلاط المسجد الأقصى، حيث جمع الله تعالى جميع الأنبياء والرسل الذين يمثلون الأقوام والأعراق المختلفة رغم وحدة عقيدتهم ليأتموا بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، في مهرجان رباني تحضره ملائكة الرحمن شاهدين على إذابة كل الفوارق البشرية في بوتقة العقيدة الواحدة، والقيادة الواحدة، وفي ساحة واحدة، ألا وهي الساحة المحمدية، تحت لواء واحد، يحمله نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على وحدة القيادة والحفاظ على المسجد الأقصى مركز القيادة حرا لتُدار منه شؤون الأمة جمعاء.

أما ما طرأ من خلل وتشرذم على ساحة القيادة والعقيدة، إنما هو بسبب انحراف البوصلة عن المنهاج الرباني الذي رسمه رب العزة سبحانه لعباده قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف:108)، ولكن رغم سايكس بيكو، وكامب ديفد، ووادي عربة، وأوسلو، وواي رفر، ستعود الوحدة إلى ما أشار إليه الله تعالى في كتابه العزيز { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } (الإسراء:5).

وما تجمع اليهود في فلسطين إلا بأمر من الله تعالى ليسوئهم سوء العذاب، لذلك الله تعالى يأتي بهم لفيفا كما قال: { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } (الإسراء:104)، فبعد أن تفرق اليهود في أرجاء العالم وسكنوا الأرض، هاهم يأتي بهم الله تعالى لفيفا لتحقيق وعد الآخرة

رابعا: مركزية القدس في تحرير الأمة:

عندما يتحرر الإنسان تتحرر الأوطان، وهذا ما جاءت به الإشارات واضحة جلية من كتاب ربنا سبحانه وتعالى على مركزية القدس لخلاص الأمم من العبودية التي كان يفرضها عليهم الحكام والساسة والملوك والرهبان والأباطرة عبر الزمان، قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (البينة:5) ولقد جمع الله تعالى أنبياء الأقوام الذين يمثلون القيادة الدعوية والقيادة الروحية والقيادة الإنسانية لكافة الأقوام تحت لواء قيادة واحدة كُلف بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد عاقل بأن الله تعالى قادر على أن يجمعهم في أقدس بقعة وأول بيت وضع للناس ” المسجد الحرام ” ولكن الله تعالى اختار المسجد الأقصى ليكون البرلمان الذي ينعقد فيه لواء الوحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنه رغم عمود النور الذي يربط الكعبة المشرفة بالسماء إلا أن الله تعالى جعل بوابة الأرض إلى السماء ليعرج منها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس، كما أنه ليس محض صدفة أن تشرع كل التشريعات في مكة والمدينة، وتشرع الصلاة عمود الدين وعمادها في السماء في ظل سدرة المنتهى وينزل بها النبي صلى الله عليه وسلم عبر بوابة السماء إلى الأرض في بيت المقدس، فإن ذلك يدلل دلالة قطعية على مركزية بيت المقدس.

وعليه لا بد أن تتحد الأمة في توجيه بوصلتها العقائدية والفكرية والجهادية نحو بيت المقدس، والاعتقاد الجازم بأنه مركز الدعوة والسلام والحضارة الإنسانية، عندها تتحرر الأمة من عبوديتها لطواغيت الشر والفساد ويعم الأمن والاستقرار والسلام، وتزدهر الحضارة بكل تفاصيلها، فبيت المقدس هو ملاذ الجميع، فليأتوه طوعا قبل أن يُرغموا على ذلك يوم يحشر الله الناس جميعا، فإن بيت المقدس أرض المحشر والمنشر.

خامسا: النصر والتمكين بتوحيد ساحات التوجه إلى الله تعالى:

قال تعالى: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (126) وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد:7) .

إن الأمة الإسلامية حين وحدت ساحاتها الفكرية بالتوجه إلى الله تعالى كان حليفها النصر والتمكين، فكانت الحاكمية منضبطة بحاكمية الله تعالى، وكانت العقيدة واحدة ” لا إله إلا الله ” وكانت المعاملات منضبطة بتشريع الله تعالى، وكانت الغزوات والجهاد والفتوحات منضبطة بأخلاق الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ” بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” فكل ساحات الحياة متوجهة لله تعالى، حينها وهبهم الله تعالى النصر والتمكين وفتح لهم البلاد وقلوب العباد لأنهم استظلوا بقول الله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (البينة:5) رغم قلة العدد والعتاد انتصروا على أكبر امبراطورتين في ذاك العصر، الفرس والروم، لأنهم كانوا على يقين من مصدر القوة والنصرة والتمكين، قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر:51) وقال تعالى: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (249) .

فلما علموا ذلك يقينا وحدوا ساحاتهم في صعيد واحد وتوجهوا لوجهة واحدة ألا وهي باب الله تعالى الذي خلفة الخير كله.

وجاءت هذه الرحلة الربانية لتدلل على ذلك حين اجتمع كل الأنبياء والرسل بإذن الله تعالى في صعيد واحد وقدموا أوراق الاعتماد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بانه القائد العام لتوحيد الساحات وفق ضوابط شرع الله تعالى.

وعليه فإن هذا الضعف والهوان والذلة التي بها أمة الإسلام اليوم ما هي إلا نتاج انحرافهم عن ساحة الحق إلى ساحات متعددة من اتباع الأفكار الوافدة والإعراض عن شرع ربها، ظنا منهم بأن الخير والحضارة والمدنية الزائفة هي أقدر في التمكين والغلبة والتقدم العلمي والحضاري، غافلون عن قول الله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور:55) وقال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (البقرة:282)، وقال تعالى: { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (الطلاق:2)، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (الطلاق:4)، فإن اليقين الجازم هو أن كل شيء بيد الله تعالى، ومن الله تعالى، وبأمر الله تعالى، فحق على جميع المسلمين حاكمهم ومحكومهم، أن ينصاعوا لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (92المائدة:).

هذا والله ولي التوفيق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى