الأمّة.. والمصطلحات الحديثة: السلفية نموذجا
بقلم محمد فودي جابي
كادتْ الآذان أن تتعود وإن لم تتعود السؤال التالي وجوابه: هل فلان سلفيّ؟ بلى، فلان ليس سلفيّا.
نعم، سلفيّ!
أيّ الفريقين أصاب في هذه التسميّة التي تدور بين النفيّ والإثبات. لكيّ يتسنى لنا معرفة إصابة فريقٍ وخطأ الآخر، فلا بد من التساؤل.
التساؤل هو: هل أنا شخصيا سلفيّ؟ وقبل أن أحكم على سلفيّة شخص آخر، بغض النظر عن نتيجة جوابك بنَعم، أو لا، فلا بد من توجيه السؤال الصريح الذي سوف يفتقر إلى جواب جليّ وواضح. والسؤال بين قوسين؛
( ما هي السلفيّة؟ ومن هم السلف؟)
فلك أن تعرف «السلفيّة» إن كنتَ على علم بها كيفما شئتَ، لكن التعريف الشائع والمنتشر المتداول هو: «ما عليه سلف الأمّة ممثلا في أصحاب الرسول، والتابعين، وتابعي التابعين، ومن نهج نهجهم إلى يومنا هذا». انتهى التعريف الوجيز.
تدقيق النظر في التعريف!!
فلا جدال في سلفية الصحابة حيث هم السلفيّون حقا لغةً واصطلاحاً، إذْ جالسوا خير الورى صلوات الله وسلامه عليه، وسمعوا منه شفويّا، واستفسروا أحكام الدين وكيفيّة العبادة منه مباشرة بلا واسطة، ورأوا أفعاله بأعينهم، وشهدوا وشاهدوا نزول القرآن الكريم، وفقهوا معانيه ومراده، ولم يحتاجوا إلى التفسير أو التأويل كغيرهم.
التابعون هم من رأوا من رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليهم، وتلقوا منهم أجوبة على الأحكام الشرعيّة مثل ما فعل النبيّ نفسه للصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين.
وتابعو التابعين، هم أيضا بنفس القدر من الفهم والتلقي والإصغاء المباشر من التابعين الذين سمعوا من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بلا حاجز أو مترجم.
هذه القرون الثلاثة التي تتضمن الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، هي ما يسمى بالقرون المفضلة، وهم من مهدوا الطريق للذين جاؤوا من بعدهم، ولا يصح إسلام أيّ مسلم إلا من خلالهم قطعا وجزما.
تأمل معي!!
بعد هؤلاء الكواكب من الصحابة، وزمرة النجوم من التابعين، برز أشخاص اشتهروا بالعلم والورع، وعلى رأسهم (أبو حنيفة النعمان بن ثابت)، حيث أدرك ستّة من الصحابة. وبزغ فيهم جوهر نفيس يعرف من بين الجواهر بشطارته، وعلمه، وورعه، وهو (مالك بن أنس من مالك) في مدينة النبي صلوات الله وسلامه وعليه، إذْ أدرك ألفاً من التابعين في المدينة، وهؤلاء الألف ُ أدركوا ألفاً من الصحابة. ثم جاء عقبهم نوابغ كثيرون، وعباقرة متألقون، ومن أشهرهم لمعاناً وأظهرهم سطوعا: الإمامان العالمان الجليلان: (محمد بن إدريس الشافعي) و(أحمد بن حنبل الشيباني) صبّ الله عليهما غمائم غفرانه.
وهؤلاء النفر، هم العلماء الذين أمر الله بتوجيه الأسئلة التعليميّة الدينيّة، والمتشابهة التشكيكيّة إليهم، في أمور ديننا الحنيف حيث قال؛
( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)
وكما مثل لنا مهمتهم تمثيلا واضحا وجليّا، إذ قال؛
(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (22- التوبة)
ثم أكد للأمّة المحمديّة أنّ هؤلاء النفر وغيرهم يستحقون هذه المهمة استحقاقا تاما، قائلا؛
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (83 – النساء)
وبعد هذه الآيات الكثيرة – والتي لم نأت منها إلا بثلاث – جاء قول من لا ينطق عن الهوى، بلْ كل ما قاله ليس إلا وحيّا يوحى إليه، مؤكدا ومستذكرا ومفيدا لأمته بأن هؤلاء العلماء هم ورثة الأنبياء بعد أن لم يكن على الأرض نبيّ قائلا: “إنّ العلماء ورثة الأنبياء”
وكانت مهمة هؤلاء العلماء الذين نسميهم “أصحاب المذاهب الأربعة” التعليم، والتدريس، ووضع المنهجيّة العلميّة لتعامل مع النصوص والحوادث، منها ما هو منصوص عليه بالأدلة القاطعة الجازمة، فلا يختلف فيها النّاس إلا في الجزئيات اليسيرة، ومنها ما يختلف فيه النّاس، لأنّ دلالتها غير صريحة،ـ وهذا ما يسمى ب”الظنيّات”، الكل يرجح ظنه في المراد، ومنها ما ليس قاطعا حاسما، ولا نصوصا ظنيّة، وإنّما مسألة طارئة على الأمّة، فالكل يقيسها على الحوادث التي فيها الأحكام الشرعيّة فينزلها في منزلة المقيس عليها فيُحكم بحكمها وهذا ما يسمى “القياس”.
وهذه هي المجهودات والمنهجيّة العلميّة الأصليّة التي وضعها التابعي أبو حنيفة، حيث أدرك (ستّة من الصحابة أحياء يرزقون)، ومالك وهو أوّل من ألّفَ كتابا في دين الاسلام وصل إلى الأمة المحمديّة على الإطلاق وهو كتابه “الموطأ”.
والشافعي من طلبة مالكٍ، وقد تلقى عنه علمه الغزير، واعترف بمشيخته وأستاذيته، وأياديه السابغة عليه حيث أفاد قائلا؛ “ليس أحد أمنّ عليّ في دين اللّه كمالك بن أنس بن مالك” وفي موضع آخر وكما رواه ابن أبي عمر العدني: سمعت الشافعي يقول: مالك معلمي، وعنه أخذت العلم” وكذلك مالك يثق بطالبه الشافعي فلا داعي لسرد الثناء المتبادل. وإمام أحمد بن حنبل أيضا تلقى عن شافعي، وسار على نهج هؤلاء الثلاثة وغيرهم من أهل العلم والفقه.
إذاً، كل من نهج وسلك طريق هؤلاء وفهمهم للنصوص، وفهم طلابهم- وكما نسميهم حنفيّ، مالكيّ، شافعيّ، حنبليّ- فهم سلفيّون في المنهج، وفي الفهم الشرعي.
وهو ما يزيدني ثقة بالقول بأنّ كل من يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة فلا داعي لإضافة كلمة “سلفي” إليه؛ إذ يوحي نوعا من التشكيك والارتياب لموقف القائل والمخاطَب، وكما لا يجوز السؤال؛ هل فلان سلفيّ بعدما تبيّن أنّه ينهج منهجيّة هؤلاء الأربعة، والذين لا يحق إطلاق تسميّة “سلف الأمة” إلا ويكون شاملا لهم بكل جزْم وحسْم.
وأما ما يحتج به عليهم من التعصب المذهبي، وعدم تسليم الحق حين يظهر، فهذا لا علاقة له بالمذاهب الأربعة والمنهجيّة الفكريّة التي كرسوا عليها مبادئهم. وقد كان أبو حنيفة يشاور مالكا في المسألة، ومالك يشاطر ليث بن سعد لمعرفة موقفه في المسائل، وكما يرسل رسالة إلى ابن وهب ويلقبه بفقيه مصر، إذاً اذا اعترف أهل المذاهب بفضل الآخرين وانشرحت صدورهم فلا تضر نبتة قلبيّة تعصبيّة تنبت من بعض المتابعين، والتي أزعم أن لا منهج ديني، فكريّ كان، أو تعليميّ، يخلو عن ذلك.
وأما الإصابة في المسألة والخطأ في الأخرى من قِبلهم، فالخطأ مؤمل من جميعهم بلا استثناء، بشهادة أنفسهم بأنفسهم، بل عرفني بإنسان غير معرض للخطأ والزلل؟، وفي ذلك قول مشهور من إمام أهل الحجاز الإمام مالك: “ما منّا إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر” وهو النّبي الهادي إلى رب الأرباب.
ختاما..
التسميّة بالسلفية عبارة عن تحصيل حاصل في حياة المسلمين، فلا ننكر وجودها، ولا نكن أيّ حقد تجاهها، حيث تكون مفيدة في بعض المواقف، وكلّ ما أردناه هو تحسين استخدامها، وعدم جعلها محكمة عليا تتحكم في الأمة المسلمة، من تسمى بها فهو الحبيب والملبي للحق بالدعوة المحمديّة.
فذلك مبلغ علمنا فيها، وغايّة هدفنا عنها، واستراحة ضميرنا، بهذه اللمسات التنبيهيّة المطنبة التي نحسبها مفيدة ونافعة.
جعلني الله وإيّاكم من المؤمنين الصادقين قولا وفعلا.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)