مقالات مختارة

الأقليات المسلمة بالغرب في الميزان-الجزء الثاني

بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

تحدثنا في الجزء الأوّل من هذا الموضوع عن بعض الصور السلبية التي باتت تنخر في التواجد الإسلامي في الغرب، وبينّا فيه الأسباب، وفصلّنا فيها؛ ولأنّ الجزء الأوّل قد انصب في غالبيته على ذكر المظاهر السلبية لعوام المسلمين في الغرب، فإنّ الجزء الثاني من هذا المقال يحاول وضع اليد على بعض الثغرات الخطيرة التي باتت تهدد العمل الإسلامي في الغرب، بسبب خروج الكثير من التكتلات والمنظمات في عملها وتكوينها عن الروح الإسلامية، مثل سيطرة الفئوية والعرقية والقومية على الطابع المكوّن لمختلف الهيئات المنتشرة، وتغير الولاء من الولاء للإسلام إلى الولاء للجنسية والقومية، وتسلل الكثير من الانتهازيين إلى الصفوف الأولى للعمل الإسلامي في الغرب، وختمنا هذا الجزء بذكر بعض الحلول العمليّة؛ لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة، والتي أصبح لها أبعاد مؤثرة على صورة الإسلام في العالم أجمع.

الإسلام عامل وحدة وانسجام حضاري وعمراني:

كانت الفُرقة والتمزق والتنافر سمة العرب في الجاهلية، فلمّا جاء الإسلام قَلب هذا الوضع رأسا على عقب، فحلّ السلام مكان الاحتراب، وبسطت الأخوّة أجنحتها على النّفوس؛ حتى طارت بالقلوب إلى آفاق الإيثار والتضامن؛ وتحققت صفة الخيرية فيهم، حتّى عمّت الأرض بعد أن انتشر الإسلام بفضل تضحيات هذا الجيل العظيم فكانوا بحق: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس “.

لقد كان الإسلام عامل جذب وتناغم على مستوى الأقوال والأفعال، وقوة خير مؤثرة تجمع وتوحد الجهود، وعاملا يحقق الانسجام بين دوائر الحياة؛ فقد ساهمت وحدة المرجعية في رسوخ وحدة التصور، التي أنتجت وحدة المبادرة والسّلوك، وجودة الثمار والنتائج على المستوى الدعوي والاجتماعي، كما أنّ الشريعة الإسلامية مثّلت بحق العامل الذي وحد بين المسلمين فكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا، بل إنّ الإسلام يقرّب بين الشعوب حتّى في الطّباع والأذواق والمزاج، ما جعل المسلمين يتوجهون بفكرهم وجهودهم نحو تبني عقلية البناء والإنجاز، والسعي والمسارعة نحو تحقيق معاني الحضارة والعمران في الحياة، وهو ما تحقق لهم، بعد أن نشروا العدل والرحمة في الدنيا، وأسسوا لحضارة خالدة نقلت البشرية نحو عالم يعمر العدل أرجاءه وأقطاره.

المذهبية والعرقية تساهم في تَغيّيب مفهوم الأمّة وتمزيقها:

عندما حقق المسلمون الأوائل مفهوم الفلاح الإسلامي، فكروا في تعدية النّفع إلى باقي الأمم، فلم يجعلوا هذه الرحمة حبيسة بين لابتي المدينة النبوية -صلى الله على ساكنها وسلم- فقد أفلح  المسلمون الفاتحون في نشر العدل والرحمة في كل الأمكان التي ذهبوا إليها، واصطحبوا معهم مفهوم الأمّة الواحدة خارج المدينة، وفي كل البقاع التي حلّوا فيها فاتحين، فنجحوا في ترسيخ المعنى الإسلامي لكلمة مسلم، وجسّدوا حقيقة الآية الكريمة: ” إنّما المؤمنون إخوة “، إلّا أنّ العصر الحالي قد شهد صُورةً مغايرةً للصورة الأولى التي قدّمها السّلف الصالح من الدعاة والفاتحين، فالولاءات بين المسلمين في العالم الإسلامي عامّة، وفي بلاد الغرب خاصّة تُقام على أساس عرقي، ولغوي ومذهبي، فالمساجد تبنى عادة على أساس عرقي، فتجد مسجدا للعرب، مسجدا للأتراك، ومسجد للباكستانيين، وآخر للقوقازيين، والمنظمات تقع تحت سيطرة مجموعة معينة على أساس المذهب، أو الجماعة، أو الجنسية، أو العرق واللغة، مع غلق الانضمام لهذه المنظمة أو تلك، تحت حجج واهية أحيانا، وغير أخلاقية في الكثير من الأحيان، ولا علاقة لها بالعمل الدعوي دعويا وتنظيميا، ما جعل التصادم، وغلبة المصالح الفئوية الضيقة سيد المشهد، كما برع المسلمون في أوروبا في جلب نفس النفسيات والمشكلات والعقليات التي تسكن الوطن العربي -حتّى الأتراك مثلا والقوقازيون والباكستان يفعلون ذلك- الشيء الذي ساهم في ضُعف العمل الدعوي والإسلامي بصورة يعرفها كل من عاش وخالط المسلمين هناك.

الإسلام يتجاوز المصالح الضيّقة والأُطر المنفّرة:

إنّ الإسلام يحثّ بكل صرامة وشدّة على أن تتجاوزَ الدولة والتنظيمات الطابع الجهوي الفئوي العنصري الضيّق  والغير أخلاقي؛ لذلك حارب الطابع القبلي الذي كانت عليه العرب في الجاهلية وكان سبب فرقتهم؛ وحرص على أن يستحضر المسلمون المعاني الكبرى في التجمع والانتظام، وهذه المعاني هي: الوحدة والتوحيد، والانتظام خلف شعيرة الأمر المعروف والنّهي عن المنكر.

بين العصبيّة المحمودة والعصبية المذمومة:

وقد يقول قائل إن العصبيّة محمودةٌ في الإسلام، وأنها سبب للتمكن والانتصار، ويجاب على ذلك بالقول: إن العصبية محمودة لغيرها لا لذاتها، والعصبية التي يحمدها الإسلام إنما هي العصبية التي تدعم الإسلام وتنصره، وتشجع على التنافس في البذل والعطاء، لا في الأنانية والاستئثار بالمصالح، وقد تحقق هذا المعنى في العصبية في المعارك الكبرى التي خاضها المسلمون السابقون، عندما كانت القبائل العربية المسلمة تتنافس على أخذ المقدمة، وحمل الراية، وتتنافس على خدمة الإسلام ونصرته، أما العصبية التي تؤدي إلى الفُّرقة والتنافر فإنّها مذمومة منكرة، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام قد أنكر حادثة التعصب التي حدثت بين الصحب الكرام، بعد أن تنادى القوم يا للمهاجرين ويا للأنصار، بل وأنكر ذلك التنادي الذي تم بألقاب مدحها وزكّاها القرآن، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاريّ ومسلم قوله عليه الصلاة والسلام: ” دعوها فإنها منتنة”.

عن هؤلاء نتحدث:

إنّ الحديث هنا عن التنظيمات الإسلامية الراقية التي يُظلّلها مفهوم أهل السنة والجماعة، ولا يشمل الحديث بعض التنظيمات التي تنشط في ضرب مختلف الأنشطة والمنظمات الإسلامية، على غرار ما يفعله الأحباش في أوروبا من تحرّش بالمنظمات الإسلامية، والطعن المستمر فيها، وخلق البلبلة في أوساط الجاليات المسلمة، والوشاية بها إلى السلطات بدعوى خطورتها على الأمن القومي الأوروبي.

هذه التنظيمات التي يجمعها أكثر مما يفرّقها مدعوة إلى أن تتقي الله عزّ وجلّ، وتجعل التقوى أساس بنائها، والتربية والتكوين أساساً لاستمرارها، والعمل للإسلام وفق مقاصد الإسلام هدفها الأوّل والأخير، كما أنّها مدعوة لتطهير صفوفها من الانتهازيين والمتاجرين بقضايا الإسلام، فإن،ّ ذلك يجلب الخير والبركة إلى صفوفها، والتوفيق والسداد للعاملين فيها.

عندما يصبح العمل الدعويّ مصعدا اجتماعيا:

كل ما سبق الحديث فيه ناتج عن النسخة المزوّرة للتديّن، ذلك التديّن الجاف والمفتقر للنزاهة، والذي بات سُلماً للصعود إلى قمة هرم الامتيازات الاجتماعية والمالية، فاستقراء واقع المسلمين في بلاد الغرب يكشف أنّ الكثيرين قد اكتشفوا سهولة تحقيق رغباتهم على حساب العمل الدعوي، فراحوا يتبنونه زورا وظلما، ويسيئون لصورة  الداعية؛ ما سبب في الأخير نقصا في الدعم والتمويل، وهذا الصنف هو الغالب، دون أن ننفي وجود فئة قليلة قدمت جهودا راقية، وصورة رائعة للمسلم الصادق.

عوام المسلمين بالغرب ومشكلة التديّن الجاف:

أما عامّة المسلمين من غير المتدينين فَهَمُّهُم الأكبر ينحصر في البحث عن المنافع الشخصية غالبا، ولا يهمهم أمور البلد غالبا، أو أمور الجاليات المسلمة، حيث تشكو الكثير من التنظيمات والمواقع الدعوية والإعلامية من ضعف اهتمام وتفاعل المسلمين مع القضايا السياسية التي لها تأثير على حياة الجاليات المسلمة، بينما يكون هناك تفاعل هائل إذا كانت المبادرات أو الأخبار تتناول قضايا الإقامة والتأشيرات، والمكتسبات المالية.

المسلمون في الغرب ما بين الصمت والواجب:

يصمت الكثير من القائمين على العمل الدعوي في أوروبا عن هذه الظواهر؛ اعتقاداً منهم أنّ الخوض فيها يعطي للغرب وإعلامه ذرائع لضرب صورة الإسلام والمسلمين، وبعضهم -كما سبق وأشرنا إلى ذلك في المقال الأوّل- يخشى على منظمته أو عرقه وقوميته من الضّرر، والبعض الآخر يسكت خوفا من فقدان الدعم والتمويل من الخارج، وهذا أمرٌ غير مقبول، وكان الأَولى أن تُبين الصّورة الحقيقية للتواجد الإسلامي لكل من يريد دعم المسلمين هناك، وكان الأولى الاهتمام بإعادة المسلمين هناك إلى سكّة الأخلاق، والتركيز على هذا العنصر الهام، الذي يميّز المسلمين عن غيرهم، وكان يُفترض أن يكون واجب المكان والزمان هناك: إيجاد تناغم وانسجام حقيقي بين المسلمين ودينهم، تمهيدا لنشره بين غير المسلمين، وهذه هي الصورة التي كان عليها المجتمع النّبوي الكريم، وفي هذا الصدد أنقل هذا الكلام النّفيس لسفر الحوالي شفاه الله وعافاه، حيث يقول: ” كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الحي لأصحابه، كان كما وصفته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: {كان خلقه القرآن} ما كان في القرآن من خلق فهو في النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت حياته صلى الله عليه وسلم ترجمة واقعية حية لما ينزله عليه الروح الأمين من عند ربه -تعالى- من الآيات البينات في التوحيد، والإخلاص، واليقين، والتوكل، والصبر، والجهاد، والمصابرة في الدعوة، والمثابرة في العلم، وفي المعاملة، والمعاشرة، والرفق، والحلم؛ كما أثنى عليه تبارك وتعالى في قوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم -الآية4]” ا.ه.

هل انتهى الحديث هنا؟

إنّ الحديث عن الوجود الإسلامي بالغرب، وحقيقته لا يمكن أن يكون أسير ورقتين أو مقالين موجزين، بل يحتاج إلى ندوات ومحاضرات ومؤلفات، غير أنّ النيّة قد اتجهت للحديث في الخطوط العريضة لهذه الزاوية المهملة في أدبيات المواضيع التي تتناول شؤون الأقليات المسلمة، حتّى إن الواحد ليخيّل إليه عند الحديث عنها في بعض المجالس، أنه حديث عن مجتمع مثالي، وهذا مخالف للواقع ومنهج تناول المواضيع الحساسة، رغم وجود بعض المصلحين من العلماء الذين أشاروا إلى هذه القضيّة الخطيرة، تحت عنوان وجوب أسلمة المسلمين في الغرب قبل الحديث عن دعوة غير المسلمين، وسنواصل الحديث في الجزء الثالث عن صور أخرى تتناول حقيقة الوجود الإسلامي بالغرب، مع وضع الحلول العمليّة للمشكلات لتي سبق طرحها في هذه المقالات بإذن الله تعالى.

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى