مقالاتمقالات مختارة

الأقليات الدينية أو أهل الذمة في المجتمع الإسلامي

الأقليات الدينية أو أهل الذمة في المجتمع الإسلامي

بقلم عمار الطالبي

إن الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي من الأقليات الدينية، لهم حريتهم الدينية في إقامة عباداتهم في دورها، والاحتكام إلى شريعتهم الدينية، بل إن الدعوة الإسلامية حملها التجارُ والصوفية ولا يمكن أن نفسر اعتناق أمم متعددة الأعراف والعادات واللغات والثقافات عن طريق الحملات العسكرية والعنف، في مختلف أرجاء المعمورة، مثل إيران وأناتوليا وإفريقيا والهند، بل العكس فإن السياسات التسامحية التي ضمنت حقوق الأقليات، وولاء المسلمين الجدد في الممالك المسيحية بطريقة واسعة في ذلك العهد.

 اليهود والنصارى، والصابئون والهندوس تولوا مناصب عليا في الدولة الإسلامية منذ عهد معاوية إلى انحلال الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين، فالعلماء المسيحيون واليهود والأطباء وُظِّفوا في البلاط الأموي بما فيهم يوحنا الدمشقي المرموق في المسيحية الأرثذوكس وفي كنيستها، ومؤلف أول رسالة تجادل المسلمين، وتولى والده ابن منصور مناصب عليا في خلافة عبد الملك، وفي عهد البويهيين في فارس كان وزير الملك الفارسي عبد الدولة نصر بن هارون مسيحيا، ويوجد مثل هذا في الهند، وفي الإمبراطورية العثمانية توجد هذه الظاهرة من تولي عناصر من الأقليات الدينية مناصب في شؤون الدولة، وفي الدولة العثمانية التي تُنتقد كأنها تفرض بالقوة عقيدتها نجد وصول الأقليات الدينية إلى أعلى المناصب، فثلاث وزراء ولّاهم السلطان سليمان أقوى سلاطين العثمانيين، كانوا من أصل مسيحي، مثل إبراهيم باشا، الذي كان يونانيا، ورستم باشا كان بلغاريا، تولى الخزانة المالية باقتدار وكفاءة، وسوكولو محمت باشا كان من أصل سلافي من البوسنة، وكان في شبابه في كنيسة صربية، وكان سوكولو يعمل لصالح الأقلية المسيحية، التي تعيش في الدولة العثمانية، وبالرغم من اعتناقه الإسلام فإنه كان على صلة وثيقة بأخيه الذي كان وجها من وجوه الكنيسة في البوسنة، وكان يساعده في منصبه، وهو وزير ٌكبير.

في ضوء هذا كله يجب التمييز كما قلنا من قبل بين الجهاد في كونه “حربا عادلة” Just War والجهاد في كونه “حربا مقدسة” فالحرب العادلة ترجع إلى حق الجماعة أو الأمة أن تدافع عن نفسها ضد العدوان، فهي دفاعٌ في طبيعتها في حين أن “الحرب المقدسة” تعني فرض عقيدة ما على كل فرد من أفراد هذه الأمة بالقوة باستعمال السلاح والتوسع في الأرض بوسائل أخرى، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالمعنى الأول هو ضروريٌّ للدفاع وحماية العدل، والحرية والنظام ضد المسلمين وغير المسلمين، وغرضه وضع الشروط وقواعد لتنظيم الحرب، واستعمال القوة، والمبدأ في ذلك هو محاربة العدوان الذي هو العمل في سبيل الله باستعمال القوة لا يستعمل في ذلك أي عدوان فإن الله لا يحب المعتدين ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة/190، فالمفسِّرون القدماء والمحدثون فسروا الأمر ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ بتجنب الحرب والعدوان بداية، وفي أول الأمر، فاستعمال السلاح يكون فقط للدفاع عن النفس وعدم التعرُّض للمدنيين، للحفاظ على حياتهم بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين.

ورغم أن ابن تيمية عاش في ظروف شن الحروب على العالم الإسلامي بالهجوم المغولي، فإنه تمسك بأن المسلمين لا يجوز لهم أن يقاتلوا غير المسلمين إلا في حالة العدوان، لا في حالة كونهم كفارا غير مسلمين (أحكام أهل الذمة تحقيق صبحي الصالح، بيروت، دار الحكم للملايينم 1983، ج1، ص17).

والجهاد المسلح للدفاع عن النفس ينطبق على حركات مقاومة الاستعمار في العصر الحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نودي للجهاد في أنحاء العالم الإسلامي للقتال ضد الاستعمار، وفي هذا الجهاد استعمل الدين قاعدة أيضا ضد الاستعمار وقوة فعالة لتعبئة الشعوب، للالتحاق بالقوّة المقاومة للدفاع عن الوطن والدين، ومن بين هؤلاء أسرة بيرلفي Berlvi في الهند، والشيخ شاميل في الشيشان، والأمير عبد القادر في الجزائر، والمهدي في السودان، والسنوسية في ليبيا، وأحمد عرابي في مصر، هؤلاء هبُّوا لمقاتلة قوات الاستعمار الأوربي، واتخذت المقاومة والجهاد صبغة ثقافية بمعنى رؤية الجهاد في مقاومة الاستعمار مقاومة مسلحة، وأنه صراعٌ ديني ثقافي أيضا، ولا يعني مقاومة جيوش الاحتلال الأوربي أن المقاومة تشمل غير المسلمين من المدنيين في بلاد المسلمين بسبب دينهم أو انتمائهم إلى أوربا وثقافتها، فجهاد ليبيا مثلا كان ضد المعتدين الإيطاليين، وليس موجَّها إلى الغربيين أو المسيحيين في وطنهم ليبيا.

ولما غزا نابليون مصر في سنة 1798، زعم أنه يدافع عن الإسلام، وأنَّ الفرنسيين مؤمنون مسلمون، كما ذكر ذلك المؤرِّخ المصري عبد الرحمن الجبرتي.

ومعنى الجهاد مقاومة للاحتلال، وأنه ضد الاستعمار لم يغب عن عقول بعض المسلمين في فترة ما بعد الاستعمار.

وما نادى به بعض المحدثين المتطرفين الغلاة للجهاد مثل الذي كتب: “الفريضة الغائبة” وبرر اغتيال السادات في سنة 1981، وكذلك أسامة بن لادن هو نتيجة قراءة تاريخية للنُّصوص الشرعية على أنها دفعٌ للاستعمار.

وبالجملة، فإنَّ الأقليات الدينية وخاصة اليهود والنصارى يجدون قانونيا حماية دينية، وحرية التعبد وحماية مصالحهم الاقتصادية وممتلكاتهم ويتولون أعلى المناصب أحيانا بما في ذلك الصابئة والزرادشت، وفي النهاية تشمل كل الجماعات غير المسلمة من الذين يعيشون في العالم الإسلامي، وهذا اتُّبع في الهند لما فتحها محمد بن القاسم، وهو أول من وضع قدمه في أرض الهند في القرن الثاني الهجري، فقد سوى الهندوس باليهود والنصارى والزرادشتيين وأعلن أنهم جزءٌ من أهل الذمة، وأيده بعد ذلك الأحناف، والمالكية والحنابلة، وهذه لحظة تطوُّر موقف المسلمين نحو الديانات الهندية، فالحاكم السياسي الشرعي قد وضع الأساس للتعايش الثقافي الهندي-المسلم، وهذا كان تبعا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة مع اليهود، ثم الصحابة من بعده مع عدة جماعات غير مسلمة في فلسطين، وغيرها، ومن أمثلة ذلك ما عقده الرسول صلى الله عليه وسلم من معاهدة مع نصارى نجران، نقل نصَّها أبو يوسف في كتابه “الخراج”، والبلاذري في كتابه “فتوح البلدان”، في أنهم آمنون في حياتهم وأرضهم وأملاكهم وعقيدتهم سواء في ذلك الحاضرون منهم والغائبون، وأسرهم، وكنائسهم، ورهبانهم في حماية المسلمين، ولا تُحتلّ أراضيهم بالقوة، ويجدون العدل، ولا عدوان عليهم ولا اضطهاد، ويجدر بنا التنبيه إلى أن العهد ينص على أنه لا تُحتلّ أرضهم، ولذا فإن التوسع في ضم بلاد أخرى إلى الإسلام دون مبرر لا يجوز، حسب هذه المعاهدة.

إن هذه الامتيازات تشمل السماح لهم باستهلاك ما هو محرّم على المسلمين كالخمر وأكل الخنزير.

أما دفعُ الجزية فهي ضريبة في مقابل إعفائهم من الخدمة في الجيش، وهي لا تجب إلا على القادر منهم من أجل حمايتهم من أي عدوان خارجي يدفعونها، وهم خاضعون للقانون والسلطة الإسلامية، وأما ترجمة بعض المترجمين لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ التوبة/29  بأنهم أذلَّة، فإن ابن قيم الجوزية وهو من أهم المؤلفين في أحكام أهل الذمة قد فسّر ذلك بأن يضمنوا ولاءهم للأحكام، والقانون، ويطيعوا الدولة وقوانينها التي لا تمس عقيدتهم، فهذا ولاءٌ سياسي، وفي الحديث ما معناه من آذى ذميا أو كفله ما لا يطيق فأنا خصمُه.

وأما السياق الاجتماعي الثقافي وكيف تعامل المسلمون مع الثقافات الأخرى في سياق تعدد الثقافات فإنّ الإسلام لم يفرض شكلا خاصا للهوية الثقافية، ولم تكن في الإسلام سلطة دينية مركزية مثل الكنيسة تفرض ذلك، ويشهد لهذا تعدُّد المدارس التشريعية، وتعدُّد الآراء بينها، ولكن توجد مجموعة من العقائد المشترَكة، وتطبيقات لها شرعية على قاعدة إجماع الأمة عبر الأجيال، فلا يوجد جسمٌ قانوني مركزي بقواعده، يحتكره علماء معينون دون غيرهم، وإنما هناك تعددية تشمل رجال الأدب، وقادة سياسيين، وأولياء، وحكماء، وعلماء، وفنانين، وتجارا، ودبلوماسيين، وفلاسفة، ومتكلمين، وبعض الزنادقة أيضا.

إن الجماعات الإسلامية تتحرَّك في إطار الأخلاقية الجامعة الكلية الواردة في القرآن والسنة، فالقرآن يأمر بما هو خيرٌ ومعروف، وينهى عما هو شرٌّ ومنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لكل مسلم، وهو يخاطب كل الناس بقطع النظر عن أديانهم وثقافاتهم، وعرقهم من أجل الاعتصام بالقيم الخلقية، ومقاومة كل ما هو شر وعدوان، والدفاع عن كل ما هو خلقي وخير، وهذا هو معنى الأمة الوسط إذ تتسم بالأخلاقية الإنسانية العامة ذاتها.

وهدف هذه الأخلاقية الروحية العالمية هو تحقيق مجتمع مفتوح، قاعدته القيم الأخلاقية، لا يستند هذا المجتمعُ المفتوح إلى تقاليد قبيلة معينة، أو مدينة أو شعب معين، فالقرآن لا يحبّذ فرض ثقافة محلية أو قبلية، بما في ذلك ثقافة الجاهلية اللاأخلاقية في أغلبها، مما أوجد عاملا متغيرا أدى إلى نشر سريع للإسلام خارج نطاق الثقافة العربية، وتوليد ثقافة مركبة متنوعة في إطار هذه القيم الكلية الإنسانية العامة الواحدة، ومنها أمران كلّيان ينبغي اكتسابهما وهما: العلم والفضيلة أو الإحسان، وهما يتضمنهما مفهوم التقوى القرآني، والقلب السليم، أو الضمير الطيب، وهذا هو المعيار للشرف والنبل في المجتمع، إذ يشارك كل عضو من أعضاء المجتمع في تكوين نظام اجتماعي عادل، فالفلاسفة المسلمون والعلماء في بحثهم عن المعرفة، والحياة الفاضلة همُّهم وقاعدة اهتمامهم بالثقافات الأخرى وعلومها في مختلف الأمم والحضارات هو المعرفة، فاطلعوا على معظم الثقافات لذلك العهد من التراث اليوناني، والروماني في عهد الإمبراطورية البيزنطية، وثقافة الفرس قبل الإسلام في العهد الساساني، والعراق، والهند، ووسط آسيا، وإفريقيا، والصين، وفي الأخير الثقافة المالوية الأندونوسية وحضارتها في القرنين الخامس عشر، والسادس عشر.

وهذه السرعة في تناسق مختلف الثقافات الإقليمية في إطار العالم الإسلامي وتآلفها في تنوُّعها أمرٌ واضح، كان في الوقت ذاته ظهورُ عدة مدارس فقهية، وكلامية، وفلسفية، والمدارس الصوفية، وبث التنوع الثقافي عبر دار الإسلام في بلاد العرب، والفرس، والترك، والهند، والمالوي الأندونيسي، وإفريقيا، عبّر فيها الإسلام باعتباره دينا وهوية ثقافية عن قيمه في التعايش السلمي بين الثقافات والأجناس أكثر مما نجده في العالم المسيحي، والهندي، والصيني كما أشار إلى ذلك سيد حسين نصر في كتابه: قلب الإسلام The Heart of Islam (ص87 -100)،  أقبل المسلمون على ثقافة الآخرين من الأمم بلا حرج، مقتدين بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اطلبوا العلم ولو في الصين” وليس المقصود بالعلم هنا علم الدين، بل العلم الدنيوي ولم يرَ في ذلك الكندي مثلا ولا ابن رشد وغيرُه حرجا في مؤلفاتهم، ولم يعارض في ذلك إلا فئة من المحدِّثين، بخلاف غالبية المثقفين الذين استعانوا بالترجمة في اكتشافهم للعلوم التي وصل إليها الأوائل، وتجديدها بالإضافة إليها بوضع منهج علمي يعتمد على الحسِّ والتجربة، واستنباط القوانين العلمية بالعقل.

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى