مقالاتمقالات مختارة

الأصول غير المعتبرة شرعا.. (2)

الأصول غير المعتبرة شرعا.. (2)

بقلم حمد طبيب

تحدثنا في الحلقة السابقة عن ثبوت الشريعة، واتصالها بالوحي عقلًا ونقلًا بشكل قطعي، وتحدثنا عن الشرائع الأخرى، مثل اليهودية والنصرانية مقارنة بالشريعة الإسلامية، وبأنها لم تثبت لا بطريق الرواية، ولا بالعقل (الدراية)، وتحدثنا كذلك عن المنهج القويم الصحيح (الخط المستقيم) في طريقة أخذ الأحكام الشرعية العملية المنبثقة من العقيدة الثابتة؛ وذلك بناء على أصول معتبرة شرعًا، تتصف بصفة العلم واليقين من وحي السماء؛ وذكرنا أيضًا أن هذه الأصول المعتبرة شرعًا؛ لا يجوز فيها الخروج عن الوحي إلى العقل، كما لا يجوز فيها الظن، أو غلبة الظن، أو الأخذ من أي شرائع أخرى غير الشريعة الإسلامية.

وقبل أن نستعرض الخطوط العوجاء في موضوع الأصول، أي الأصول المبنية على العقل، أو على غلبة الظن، أو المأخوذة من شرائع أخرى، لا بد من معرفة أربعة أمور كمقدمة لهذا الموضوع.

الأول: واقع العقل ودوره في موضوع العقيدة والتشريع.

الثاني: الخط المستقيم في أخذ الأصول المعتبرة شرعًا..

 الثالث: كيفية البناء الصحيح على هذا الخط المستقيم، أي الطريقة الصحيحة في الاستنباط من الأصول المعتبرة شرعًا..

 الرابع: المؤثرات والدوافع التي جعلت البعض من الفقهاء يحيدون عن المنهج الصحيح المستقيم (الأصول المعتبرة) في أخذ الأحكام، إلى أصول معوجة أو خارجة كليًا عن دائرة الوحي.

أما واقع العقل، ودوره في موضوع الشريعة؛ (عقيدة وأحكامًا)؛ فإن دور العقل في الأحكام العملية؛ هو فهم الواقع، أو الحكم على الواقع ما هو؛ بواسطة ربط الحس بالواقع بالمعلومات السابقة عنه، ثم إنزال النص المناسب – من الأصول المعتبرة – المنطبق على هذا الواقع… أما دوره في موضوع العقيدة والهداية، فإنه يختلف عن دوره في موضوع التشريع؛ فالعقل في موضوع (أسس العقيدة) هو دور أساس؛ أي في موضوع الاهتداء إلى الخالق، والاهتداء إلى أن القرآن هو وحيٌ من الله عز وجل، وأن الرسول مرسلٌ من الله عز وجل.. فالعقل هو الذي يحكم على هذه الأمور الثلاثة، من خلال النظر والتمعن والتدبر؛ فيهتدي من خلال هذا التدبر أن الكون مخلوق لخالق، خلقه من عدم، وأن القرآن هو من الله عز وجل؛ لأنه ثبت إعجازه للبشر عقلًا، ويهتدي بعقله أيضًا أن من جاء بهذا القرآن هو مرسل من الله؛ لأن القرآن هو من الله، ولا يتأتى لبشر أبدًا أن يأتي بمثله.. فهذه الأمور الثلاثة مبنية على العقل، وتوصّل العقل واهتدى إليها؛ من خلال النظر والتمعن والتدبر، ولكن الأمور الأخرى من العقيدة (الفروع)؛ لا بد لها من الوحي، ولا يمكن أن يهتدي العقل إليها؛ كالملائكة أو الجنة أو النار؛ لأنها لا تقع تحت الحس ولا التفكير. وقد حث المولى عز وجل الإنسان على النظر والتدبر واستعمال عقله للهداية للحقيقة فقال عز وجل: (قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١ ). وقال: ( وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٢١ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ ٢٢ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ ٢٣ )، وقال: ( إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِوَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ١٦٤ ) وقال في إعجاز القرآن الكريم: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢ ) ، وقال: ( قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨) ،

فالمتمعّن المتدبّر في السماوات والأرض، وكيفية خلقها، ودقة هذا الخلق، وحسنه وجماله وعظمته.. واتساع السماوات والأرض، وعظيم خلق الإنسان، وتخلقه في ظلمات ثلاث في بطن أمه… كل هذه الأمور تدعو(العقل السليم) إلى الاهتداء للخالق العظيم الذي خلق الكون والإنسان والحياة من عدم، وتدلّ كذلك على عظمة هذا الخالق العظيم وقدرته. يقول (الدكتور زغلول النجار) في كتاب (قدرة الله في خلق الكون): «… يدلُّ وجود الكواكب العديدة، الموزعة بين المجرات، والأقمار الكثيرة واسعة الانتشار، والنجوم الهائلة المتلألئة على عظيم خلق الله عز وجل… قال تعالى:(وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ ) والتفكر في القرآن وبيانه، ودقة معانيه، ورسمه، وعلو أسلوبه في النظم يدلّل بشكل قاطع أن هذا القرآن لا يتأتى لبشر أبدًا. وبالفعل فإن الفصحاء والبلغاء قد عجزوا عن الإتيان بمثله، أو بسورة من مثله.

فهذه الأمور الثلاثة يفهمها العقل، ويتوصل إلى حقيقتها؛ من خلال التدبر والنظر، وهي ضمن نطاق هذا العقل. فموضوع الخلق والخالق، وأن وراء هذا الكون والإنسان والحياة خالقًا عظيمًا خلقها؛ هو أمرٌ مبني على العقل السليم، ويستطيع أن يدركه هذا العقل ويصل إلى حقيقته. وموضوع أن القرآن من عند الله هو أيضًا موضوع مبني على العقل، ولا يخرج عن نطاق العقل السليم، ويستطيع أن يصل بالتفكير إلى أن هذا القرآن لا يتأتى لبشر أبدًا؛ فهو من الخالق بلا شك. يقول (الإمام (الزرقاني) في كتاب (مناهل العرفان): في قوله عز وجل(قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ )بلاغة القرآن الكريم بلغت حدًا فاق كل بيان، وأخرس كل لسان، وأسكت كل معارض ومكابر، وهدم كل مجادل ومهاتر، حتى قام، ولا يزال يقوم في فم الدنيا؛ معجزةً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وآية من الحق لتأييده…» وإذا كان هذا القرآن ليس من وضع البشر، والرسول الذي جاء به هو من البشر؛ فإن هذا الرسول هو مرسلٌ من الخالق جل جلاله بلا شك… من هنا نقول: بأن أسس العقيدة الثلاثة هي مبنية على العقل، ولا تخرج عنه؛ أي يستطيع العقل أن يهتدي إليها، ويقتنع بها اقتناعًا تامًا؛ فهي تُقنع أي عقل إنساني..

أما في موضوع التشريع، سواء أكان ذلك في وضع الأصول، أم في استنباط الأحكام بناءً على هذه الأصول؛ فإن دور العقل هو الفهم والاستنباط من الوحي – كما ذكرنا – وليس وضع أصول أو تشريعات تبنى عليها.. فالأصول المعتبرة وحيٌ من الله عز وجلّ، واستنباط الأحكام بناء على هذه الأصول أيضًا (هو في دائرة الوحي)، لا يخرج عنها. أما دور العقل في ذلك؛ فإن العقل يفهم الواقع ويحدّده؛ وذلك من خلال النظر والدراسة؛ فيحدّد مثلًا أن هذا المحلول هو ماءٌ أو خمرةٌ؛ بناء على عقله وفهمه، ولكنه لا يحدّدُ أبدًا أن هذا المحلول يُشرب أو يُترك بناء على العقل، وإنما بناء على النص الشرعي؛ الذي يبيح الماء، ويحرّم الخمرة. فالعقل دوره هو فهم الواقع وتحديده ما هو، أي الحكم عليه من حيث كنهه وطبيعته المادية، وليس الحكم عليه من حيث الأخذ أو الرد، أو من حيث العمل وعدم العمل.

فالعقل يفهم الواقع، ويستطيع بناء على هذا الفهم أن يحدد ما هو هذا الواقع.. والعقل يفهم النص الشرعي (الوحي)؛ سواء أكان قرآنًا أم سنة، أو ما بني عليهما من إجماع صحابة أو قياس شرعي. فهذه النصوص الشرعية المستنبطة من الأصول المعتبرة، لا بد لفهمها من إعمال العقل السليم، وفق قواعد وأسس معينة، وليس اعتباطًا أو كيفما كان.. فمثلًا عندما ننظر في قوله تعالى: ( وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ٤٣ ) يجب أن نرتكز على قواعد معينة؛ من الفهم وإمعان النظر العقلي، سواء أكان ذلك في فهم اللغة العربية، أم في القواعد الأصولية وكيفية الاستنباط بناء عليها. فلا بد أولاً من فهم الأمر في الآية ماذا يفيد؛ الوجوب أم الندب، ولا بدّ كذلك من فهم الحقيقة الشرعية في كلمة زكاة، وكلمة صلاة، وفهم الحروف الرابطة في الآية ماذا تفيد؟ فهذه الأمور مجتمعة لا بد لفهمها من العقل السليم؛ أي لا بد حين استنباط الحكم الشرعي، من فهم هذه الأمور فهمًا صحيحًا؛ لأنه بدونها لا يُفهم النصّ الشرعي عقيدةً كان أو أحكامًا… هذا من حيث واقع العقل ووظيفته عند الإنسان.

أما بالنسبة للخط المستقيم في أخذ الأصول المعتبرة،فقد ذكرنا في الحلقة السابقة من هذا الموضوع أن الأصول يجب أن تكون قطعية من حيث العقل إن كانت في جانب أسس الاعتقاد، أو من حيث النقل في فروع العقيدة، وفي أصول التشريع. فإن كانت الأصول تتعلق بأصول الاعتقاد؛ فيجب أن يكون الحكم العقلي قطعيًا، لا لبس فيه، ولا يوجد أدنى شك في قطعيته. وإن كانت في فروع العقيدة المبنية على أصولها؛ فيجب أيضًا أن تكون قطعية من حيث الرواية والدراية (المعنى) ولا يجوز أن تؤخذ فروع العقيدة بالظن، أو بالعقل؛ لأن الله تبارك وتعالى نهى عن ذلك كما ذكرنا وبينَّا إجماع العلماء على ذلك. وإن كانت في أصول الشريعة؛ فإن العقل لا مجال له فيها إطلاقًا؛ لأنها الأساس الذي تبنى عليه الأحكام.. والوحي في أمور التشريع لا مجال للعقل فيه، ومجاله فقط هو النظر والتمعن والفهم؛ من حيث كيفية الاستنباط، ومن حيث فهم الواقع ما هو، ومن حيث إنزال النص المناسب على الواقع المطابق له. وهناك أمر اختلط على بعض الفقهاء في موضوع التأصيل؛ وهو أن (المصلحة عقلية)، وليست شرعية.. والحقيقة أن المصلحة للعباد هي شرعية، وليست عقلية لأن مصالح العباد، لا يعلمها إلا الله تعالى من حيث التشريع، والشريعة كلها بمجموعها؛ تحقق المصلحة للعباد وتنفي المفسدة. يقول (الإمام الشاطبي) رحمه الله في كتاب الموافقات: «…إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد، لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له…»، والشريعة بمجموعها؛ أي بكافة أحكامها هي (مصلحة للعباد ودرء للمفاسد) لأن الله عز وجل يريد للناس الخير واليسر، ولا يريد بهم العسر والمشقة والعنت، قال تعالى: ( يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥) ، يقول الإمام (ابن القيم) رحمه الله في كتاب إعلام الموقعين: «…إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة…»، إلا أن المصلحة ليست علة للنصوص الشرعية، إنما العلة هي ما حدده النص الشرعي، ولا يقدِّرها العقل القاصر؛ لذلك ذهب السلف من العلماء بأن تقدير المصلحة للعباد في موضوع التشريع هو أمر شرعي، أي يجب أن يحدده الشرع لا العقل؛ وبناء على ذلك لا يجوز للعقل أن يضع أحكامًا بناء على تقدير المصلحة؛ لأن العقل فوق أنه لا يجوز له أن يقدر المصلحة، فإنه أيضًا يخطئ في تقديرها بسبب عجزه، وعدم إحاطته بكافة الأمور المتعلقة بالعباد.. ولذلك فإن الإنسان يضع حكمًا اليوم ويراه مصلحة، ثم يراه مفسدة بعد عام فيغيره، وهكذا كما هو حاصل اليوم في الأنظمة البشرية.

والأصول الشرعية في الفقه،التي ثبت أنها قطعية هي (أربعة) ليس غير، وما عداها، إما أنه عقلي استنتجه العقل دون الرجوع للوحي، أو قد بني على أمور ظنية من الوحي، أو هو قواعد فقهية تصلح أحكامًا شرعية للحوادث، ولا تصلح أن تكون أصولًا للبناء الفقهي، أو هو أصل يرتكز على تشريعات خارجة عن نطاق الشريعة الإسلامية. وهذه الأصول المعتبرة هي: (القرآن، والسنة، وإجماع الصحابة، والقياس الصحيح المبني على علة شرعية لا عقلية). فالقرآن الكريم قد ثبت أنه متواتر بالنقل، ومعجز بالعقل، أي إن صلته بالوحي قد ثبتت بطريقين: بالرواية، والدراية (العقل). والسنة النبوية – بشكل مجمل دون تفصيل – قد ثبتت قطعيتها أولاً بطريق الرواية؛ حيث نقلت بطريق متواتر – جيلًا عن جيل – حتى وصلت إلينا، وكذلك دونت بشكل متواتر جيلًا عن جيل.. والأمر الآخر هو أن القرآن الكريم قد ذكرها في أكثر من آية قرآنية، وذكر وجوب الأخذ بها، واعتبارها مصدرًا للتشريع، قال تعالى:(وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُوَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧ ) وأما إجماع الصحابة؛ فهو أيضًا أصل قطعي في ثبوته ودلالته؛ حيث ذكره القرآن القطعي. فالصحابة بمجموعهم يستحيل عليهم الكذب؛ لأنهم أولًا هم من نقلوا إلينا الدين بمجمله، فلا يجوز عليهم الكذب شرعًا؛ لأنه إذا جاز عليهم الكذب؛ فإن الدين مشكوك فيه.. قال تعالى في وصفهم بالصدق:(فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ لنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ ). وقال: (وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّلَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ ). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حق أصحابه: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» رواه الإمام البخاري، وقال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رواه الإمام البخاري.. يقول (الخطيب البغدادي) في كتاب الكفاية: «… إنّه لو لم يَرد من الله عز وجل ورسوله فيهم (الصحابة) شيء مما ذكرناه؛ أي العدالة، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين (القطع على عدالتهم)، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدَّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء…» ويقول (الحافظ ابن عبد البر) في التمهيد: «… لا فرق بين أن يسمي التابعُ الصاحبَ الذي حدثه أو لا يسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأن الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث…» ويقول (الإمام القرطبي) في الجامع: «… الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله… هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة…»

أما إجماع غير الصحابة، ففوق أنه يستحيل انعقاده في أي عصر من العصور – فإنه لا يتصف بصفة القطع واليقين التي اتصف بها إجماع الصحابة، ولا يتصف من قام به أيضًا بالعدالة والثقة بشكل مقطوع به شرعًا، والتي كان عليها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا ليسوا قريبي عهد بالرسول صلى الله عليه وسلم كما هم الصحابة؛ لذلك فإنه لا ينعقد إجماع بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتدّ به شرعًا.

وأما القياس:

(وهو إتباع فرع بأصل لاتحاد العلة بينهما… أو هو إعطاء مسألة لا نص فيها حكم مسألة نص على حكمها لاشتراك المسألتين في علة الحكم) وهو كذلك أصل قطعي؛ لأنه ثبت بطريق قطعي؛ وهو القرآن الكريم. وثبت القياس كذلك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ونص العلماء على الأخذ به في التشريع. يقول الإمام أحمدرحمه الله: «إنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا؛ إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا، أَوْ فِي نَظِيرِهَا، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِمْ بِالنُّصُوصِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ، وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ رَأْيَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالرَّأْيِ، وَيَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ». ومن أدلة الكتاب القطعية في القياس قوله تعالى: (ٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ ) (فالعلة في الحرمة هو كون المشروب خمرة، أي تخامر العقل وتذهبه. والخمرة هي كل مسكر يخامر العقل، ويقاس على الخمرة في الحرمة أي عصير من أنواع الثمار أو غير ذلك مما يسكر. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فالله عز وجل حرم البيع على الرجال وقت صلاة الجمعة لأنه يلهي عن الصلاة، أي إن علة الحرمة هي الإلهاء عن الصلاة، ويقاس عليه كل عقد يلهي عن صلاة الجمعة، مثل الإجارة والوكالة وغير ذلك. وورد في السنة. قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ». ويقاس على ذلك استئجار المسلم على أخيه وغير ذلك مما يشبهه.

هذا من حيث الأصول المعتبرة شرعًا.. أما من حيث البناء الفقهي على هذه الأصول؛ فإن أولى خطواته هي فهم الواقع. والواقع – وهو ما يسمى بمناط الحكم أو محله – فهو محل الحكم في الأصول؛ أي هو ما يُصدر عليه الحكم، وهذا المناط هو أمر عقلي في المعرفة والفهم والحكم. فمثلًا عندما ننظر في موضوع الربا والوقائع التي ينطبق عليها وصف الربا، وتنزل عليها نصوصه، فإننا ننظر ونتمعن ونتفحص (عقلًا) كل هذه الأمور؛ قبل أن ننزل النص عليها، أي يجب أن نحدد مثلًا أن الواقع هو زيادة على رأس المال الأصلي، أي زيادة مال على مال في صرف أو قرض، أو هو ربح مضمون بدون خسارة بين شريكين.. أو هو بيع بأقل من ثمن الشراء قبل استلام السلعة من المشتري. فهذه كلها أوصاف للواقع؛ يفهمها العقل، ولكنه لا يجوز له أن يضع لها أحكامًا دون الشرع؛ والسبب أن العقل ليس مشرّعًا، إنما المشرع هو الله تعالى: قال تعالى:(وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ١١٦ ) فمن أجل الحكم عليها، واتخاذ سلوك الرفض أو القبول تجاهها، لا بد من حكم الشرع، أي لا بد من إنزال النص الشرعي على كل حادثة منفصلة، ليصدر الحكم عليها، ثم يكون القبول أو الرفض لها.

 فالحالة الأولى: هي الربا الصريح ودليله النصوص من القرآن والسنة.فالله يقول: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا» رواه مسلم.

والحالة الثانية: فإن الشركات في الإسلام دلت النصوص الشرعية أن الربح والخسارة؛ هي من أسس الشركة؛ لأن الشراكة تشمل كل الأمور، فلا يجوز لشخص أن يشترط الربح فقط؛ لأن هذا مناف لطبيعة وأعمال الشراكة؛ فيخرج منها بعض أمرها من الخسارة… وقد ورد في ذلك عن الإمام علي رضي الله عنه قال: «الوضيعة على المال، والربح على ما اصطلحا عليه» رواه عبد الرزاق في الجامع… ورد في (الموسوعة الفقهية الكويتية): «اتفق الفقهاء على أن الخسارة في الشركات عامة تكون على الشركاء جميعًا، بحسب رأس مال كل فيها، ولا يجوز اشتراط غير ذلك. قال ابن عابدين: ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف قدر رأس المال باطل… كما اتفقوا على أن المضارب في المضاربة لا يتحمل شيئًا من الخسارة، وتكون الخسارة كلها على رب المال، خلاف الربح، فإنه يكون بحسب الشرط…»… والحالة الثالثة هو ما يسمى ببيع العينة؛ وهو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» رواه الإمام أحمد… والعينة كما ذكرها الفقهاء: حيلة يحتال بها بعض الناس على التعامل بالربا، فالعقد في صورته بيع، وفي حقيقته ربا. وبيع العينة من صوره: أن يبيع الشيء بالآجل، ثم يشتريه نقدًا بثمن أقل، كما لو باعه سيارة بعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، ثم اشتراها منه بتسعة آلاف فقط نقدًا، والحكم فيها فهو الحرمة بدلالة النصوص التي يفهمها العقل كذلك؛ فيفهم أن النهي عن الربا هو للحرمة؛ لأنه اقترن بالنهي الجازم حسب قواعد الأصول، أي النهي الذي اقترن بقرينة لغوية أو شرعية تدلّل على هذا الجزم.

هذا ما يتعلق بالعقل ودوره في فهم الأحكام. وبالنسبة للمصلحة، وواقعها الشرعي، وتقديرها من الإنسان. وهذا أيضًا الخط المستقيم في الأصول المعتبرة شرعًا، وكيفية استنباط الحكم بناء على هذه الأصول المعتبرة. وهذا أيضًا ما يتعلق بالواقع وفهمه لإنزال النص المناسب عليه، وكيفية إصدار الحكم؛ من حيث الحل أو الحرمة. وهناك أمر آخر لا بد من فهمه قبل ذكر الأصول غير المعتبرة. هذا الأمر هو المؤثرات التي أثرت على موضوع التأصيل الخاطئ – غير المعتبر – مثل تغير الأحكام بتغير الزمان، والتطور المادي ومجاراة الواقع المعاصر، أو فكرة الأمة الوسط، أو دعوات تجديد الدين، أو فكرة تغير الحوادث يقتضي تغيير القواعد الأصولية؛ لتتناسب مع التغيرات، أو العرف والمصلحة والاستحسان. وهناك مؤثرات أخرى أثرت في بعض الفقهاء؛ مثل المنطق والفلسفة وعلم الكلام، أو غير ذلك من مؤثرات، ودعوات تسببت بالانحراف عن المنهج القويم السليم. وسنتحدث عن بعض هذه الدعوات، وبيان زيفها في الحلقة القادمة بإذن الله… [يتبع]

(المصدر: مجلة الوعي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى