مقالاتمقالات مختارة

الأستاذ شحدة عقيلان.. الكبار يرحلون بصمت!

بقلم د. أسامة الأشقر
كان فتى لم يبلغ الثامنة عشرة بعدُ في ذروة حرب العصابات الصهيونية على القرى الفلسطينية الوادعة، وكانت قريته الجنوبية “الفالوجة” قد اتخذت موقعاً دفاعياً مسلحاً سبقت به قرى أخرى ولاسيما بعد دخول قوات الجيش المصري إليها، وكان من جملتهم البكباشي جمال عبد الناصر، كان هذا الفتى الهمام قد أقنع بعض النافذين ليكون في خدمة الثوار فكان يحمل السلاح والمؤن إليهم، ولكن المؤامرة كانت أكبر من الهمّة والشجاعة فسقطت فلسطين بأيدي الصهاينة، وهُزمت الجيوش الاستعراضية وخرج القرويون والمدنيون في جماعات مطرودين من أرضهم، فخرجت عائلة هذا الفتى جنوباً إلى قطاع غزة واستقروا في مخيم الشاطئ على البحر. كان هذا الشاب مثقفاً متعلماً واستطاع في سن مبكرة أن يمارس مهنة التعليم بشهادته الصغيرة قبل النكبة، فارتضى لنفسه مهنة التعليم.

في قطاع غزة كانت ظروف اللاجئين بالغة السوء، وكان الجميع يسعى لترتيب أوضاعهم الجديدة لاستئناف حياتهم وثورتهم، فلم تمض سنوات قليلة حتى كان من أوائل الراحلين إلى دولة الكويت الناشئة الصغيرة، وحطّ فيها ركابه وبدأ فيها حياة جديدة عام 1953م. لم يطُل مقامه بالكويت فقد اختارته وزارة التعليم الكويتية ليكون في بعثة كويتية تعليمية في واحدة من الإمارات التي تشكلت لاحقاً في أم القيوين فعلّم فيها ثلاث سنوات وأرسى النظام التعليمي فيها في ظروف بالغة السوء فهي ما تزال بلدة ريفية صغيرة على البحر لا تجد فيها كهرباء ولا ماء ولا طرقاً معبدة، تتلظى فيها الأرض في الصيف ويتنشّق هواؤها الرطوبة البحرية الخانقة، ثم انتهت بعثته وعاد مجدداً إلى الكويت عام 1961.

للشيخ شحدة نظام في القراءة لا ينقطع، يقرأ ورده القرآني الذي كان يبلغ نحو أربعة أجزاء يومياً فيما شهدتُه، ولا تكاد تجده يفارق الكتاب في أكثر أحواله

كان هذا الشاب الهميم شحدة عقيلان عيد عقيلان ذا ثقافة واسعة واطلاع كبير أهّلته ليكون من أميز المعلمين والتربويين والموجّهين، مع تديّن علمي وسلوكي وروحيّ جميل جعلته واحداً من رعيل الدعاة الأوائل في منطقة الخليج الذين قدّموا نموذجاً مختلفاً للتدين الوسط الجميل. بعد عشرين عاماً حافلة بالنشاطات في سلك الدعوة والتعليم خاصة عاد شحدة عقيلان لأم القيوين ثانية وقد تغيرت ملامحها وأصبحت مدينة حيّة فتسلّم موقعاً حساسا في إدارة التعليم هناك أشبه ما يكون وكيل وزارة، فعمل فيها بهمة ونشاط مدعوماً من السلطة الحاكمة فاستجلب عدداً من أكابر المعلمين ليعملوا معه في التوجيه التربوي التعليمي وكان من جملتهم الراحل الكبير أبو وائل سليمان عبد القادر الحاج رحمه الله، وأصبح يشار إلى هذه المجموعة بالبنان لنشاطها والتزامها وحسن سيرتها.

تعلّق الأستاذ شحدة بالشعر فكان يطوف على كتب الأدب وينهل منها بشغف، حتى امتزج الشعر بقلبه، وامتلك أذناً موسيقية رائعة كنتُ أدارسه فيها مرات عندما أعرِض عليه شعري، وكان يعترض عليّ في شبابي بأنني شاعر غريب اللغة متين اللفظ لا أستطيع أن أصل إلى مستويات الناس الآن بهذا الشعر وكان محقاً في نقده آنذاك؛ وكان يقول لي إنه بدأ نظم الشعر وهو في الثانوية العامة، ولكنه فقد معظم أشعاره الأولى، وعلى العموم فقد كان مقلاً في النظم.

كان خطّه جميلاً وكأنه يتغزل في نحته، ويكتب أشعاره بخطه الجميل المنظوم، ويبعث بها إلى أصدقائه المقربين، وقد حالفني الحظ في أواخر تسعينيات القرن الماضي بأن أحظَى بواحدة من مخطوطاته، فظلت عندي حتى نشرتُها في موقع مؤسسة فلسطين للثقافة التي تشرفت بإدارتها في دمشق عام 2006م، وهي مجموعة شعرية من الرباعيات تحت عنوان : حب الوطن؛ وكتب لي مخطوطة عن قريته الفالوجة نشرتها في الموقع ذاته حينها، وهي تحوي الكثير من الألفاظ الشعبية المتداولة في قريته، وفيها ذكر لأحياء القرية وأسواقها وبساتينها المحيطة بها وأطعمتها ومحاصيلها وبعض رموزها. وكان شعره وطنياً فلسطينياً رائق الأسلوب، رشيق اللغة، قصير النغمة، سريع الوصول، قريب المأخذ، مُطرِباً مُغنّى، ولكن المنشدين لم يلتفتوا إليه لقلة انتشاره، وفي أشعاره هذه تجد فلسطين حاضرة دائماً فيه، ويستدعي لها ذكريات الفالوجة الأولى بعشق متصل.

 الشيخ “شحدة عقيلان” (مواقع التواصل)

بعد إحالته للتقاعد عام 1996م لم يستطع أن يتعايش مع البيت فارتحل بعد سنوات قليلة إلى الخرطوم حيث تسكن ابنته وزوجها الأستاذ عمر أبو عبيد، وكانت نيته منعقدة لإكمال دراسته الجامعية، واكتشفنا أنه كان يحمل الماجستير في الدراسات الإسلامية قديماً، ويريد أن يكمل الدكتوراه، وكانت معركة صعبة لهذا الرجل الذي تجاوز الستين ليجد له مساراً في هذا المستوى الجامعي، لكن إلحاحه وإصراره ومعاونة صهره له أقنعت الراحل البروفيسور أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية الوليدة أن يقبله في هذه السنّ فاجتهد شحدة عقيلان اجتهاد الطالب المجد ونال شهادة الدكتوراه باقتدار، وكثيراً ما كنتُ أنتفع بمدارسته ومعاونتي له في نظام الكتابة الأكاديمية لكثرة فوائده وعظيم ثقافته، ويزداد حبك لمجالسته لتواضعه الجمّ وجمال روحه وحلاوة لسانه وعريض ابتسامته التي يلقاك بها ويودعك عليها.

وكان يتردد كثيراً في إفشاء تاريخ ميلاده، مع أن ميلاده الرسمي المدون كان في 27 من سبتمبر 1936 إلا أن أصدقاءه المقربين ومنهم عمنا الأستاذ الحاج خضر صقر يقولون إنه أكبر من ذلك ويزعمون أنه ولد عام 1931م فقد كان مدرساً في فلسطين قبل الهجرة إلى القطاع، وكان مديراً في حقبة مبكرة؛ ومن الطريف أنه كان يتندّر دائما باسمه الريفي “شحدة” وهو من أثر التصوف الشعبي الذي يطلب الخير الدائم من الله رب العالمين، وفيه أيضاً كسرٌ لعين الحاسدين الذين يعظّمون الهدف المحسود ليحرقوه بأعينهم، وكان الاعتقاد قديماً أن هذه الأسماء تقيهم الحسد الناري.

للشيخ شحدة نظام في القراءة لا ينقطع، يقرأ ورده القرآني الذي كان يبلغ نحو أربعة أجزاء يومياً فيما شهدتُه، ولا تكاد تجده يفارق الكتاب في أكثر أحواله، ولا ينفرد إلا معه، حتى شكّلا ثنائياً فريداً؛ وحاز في سنه الثمانين على ألقاب رسمية في مجال القراءة، وغدا أيقونة القارئين، وصار مثالاً في مكتبة أم القيوين يشد الشباب والصغار بقراءاته لهم من مختارات الكتب التي يعرفها ويأْلفها؛ وله كتاب واحد منشور في الثمانينات وهو “الخمر في ضوء الشريعة الإسلامية” يبدو أنه كان رسالته في الماجستير.

كان الأستاذ شحدة عقيلان عيد رياضياً يعتني بصحته ويحب المشي الطويل، قوي البنية معتدل الجسد، حتى أحاطت به شيخوخته وجاءه القدر المحتوم في منتصف شهر رمضان المعظم يوم 30/5/2018 بعد وفاة والدي رحمه الله بيوم واحد، فبكيناه كما بكينا والدنا الأستاذ المعلم جمعة الأشقر رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى