مقالاتمقالات المنتدى

الأحكام الشرعية بين مراتب القصد

الأحكام الشرعية بين مراتب القصد

بقلم رانية نصر “باحثة دكتوراه في الإعلام السياسي – باحثة ماجستير في الفقه وأصوله – عضو هيئة علماء فلسطين – عضو ائتلاف العالمات والداعيات” (خاص بالمنتدى)

لم يجعل الله -عز وجل- أجر الحسنات -مع تفاوتها- على مرتبةٍ واحدة لذلك كانت الجنة درجات، وكذا المعاصي فهي على مراتب مختلفة؛ ولذلك كانت النار دركات، ولأنه العادل الحكيم، اقتضت حكمتُه وعدالته وجود ميزان دقيق جداً تُعَيّر إليه أفعال العباد، يعجر عنه البشر مهما امتلكوا من أدوات واستجمعوا من قدرات وإمكانات، ومع ذلك فإن الرحمة الإلهية والفضائل الربانية قد تشمل الجميع بالعفو والرحمة والغفران والتجاوز؛ قال تعالى حاكياً عن نبيّه عيسى -عليه السلام-: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ” المائدة: 118.

والمتأمل نصوص الوحيين يتلمس حقيقة وجود هذا الميزان العادل فيها، إذ قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًۭا يَرَهُۥ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ شَرًّۭا يَرَهُ” الزلزلة: 8،7؛ إذن فالمقاييس في الميزان الإلهي غاية في الدقة والحساسية، ومن هذا الفهم تتجلى أمامنا حقيقة حتمية تأثير الفروق الدقيقة في المتقاربات من ناحية الأحكام الشرعية الدنيوية والأخروية، والقضائية والديانية. فالقاتل عن قصد وعمد وسبق إصرارٍ وترصّد يختلف حكمه تماماً عن القاتل خطأ، فالأول يقتل قصاصاً -إلا في حال العفو، والثاني ليس عليه غير الديّة، وكذلك شُرب الخمر عن خطأ أو إكراه لا حَدّ فيه، بخلاف ما إذا كان الشرب عن اختيار وإرادة، وهكذا..

وعليه؛ فقد ميّز الفقهاء بين الخاطر الذي يخطر للإنسان من أفعال الخير والشر وبين العزم والهَمّ والإرادة، ولكي تتجلى لنا الفروق الدقيقة بين تلك المتقاربات، والتي سينبني عليها اختلافاً في الأحكام الفقهية لاحقاً؛ لا بد أن نتعرض لفهم المعاني الدقيقة لكل منها، وهذا ما نسعى لبيانه في النقاط التالية:

أولاً: الخاطر.

وهو ما يخطر بالقلب من أمر، أو رأي، أو معنى، والجمع خواطر، وعرّفه ابن عربي بأنه ما يَرِدُ على القلب والضمير من الخطاب، وهو الوارد الذي لا عمل للعبد فيه، وحكمه أنه مِن المعفو عنه الذي لا يحاسب به الإنسان لأنه خلوٌ عن العزم والقصد، ويندرج الخاطر تحت الهَم، إذ إنه قد يكون خاطراً وقد يكون عزماً كما سيأتي لاحقاً.

ثانياً: العزم.

 أما العزم فهو قصد الإمضاء والقوة فيه، وعزم على فلان: أي أمَره وشدّدَ عليه وأقسم، وقد علّق الخطاب القرآني مسألة العزم والتي محلها القلب بالتحذير الذي ينبني عليه حكم فقهي، إما الحرمانية أو الكراهة، قال تعالى: “وَلَا تَعْزِمُوا۟ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَـٰبُ أَجَلَهُۥ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ ۚ” البقرة 235، ومن هنا نفهم أن أعمال القلوب المأخوذة بالعزم محاسب على فعلها العباد، وجاء في حاشية القُونوي على تفسير الإمام البيضاوي في شرح الآية “أنّ العزم مبالغة في النّهي عن العقد؛ أي النهي عن الفعل، لأن النهي عن العزم مُستلزِمٌ للنهي عن العقد، فالمراد لازَمه كناية وهي أبلغ من التّصريح أو العزم نفسه، ولما كان الفعل بدونه مستحيلاً؛ يكون النهي عن الفعل على وجه المباالغة، ويفهم منه أن العزم المصمم يؤاخذ العبد عليه؛ فحينئذ العزم على العقد ونفس العقد كلاهما منهيٌ عنهما، وقال العلماء أن الظاهر من كلامه أنه ذهب إلى أنّ العبد يؤاخذ بالعزم المصمم”.

ومعلومٌ أن كل نهي في القرآن مقصود به طلب الترك على وجه الجزم ما لم تصرفه صارفه إلى الكراهه، فإن كان النهي متعلقاً بطلب ترك العزم القلبي في هذه الآية فيكون من باب أولى ترك فعل الفعل.

ومما يؤكد أن الإنسان يحاسب على عزمه حتى وإن لم يفعل ما فكر فيه بعزمٍ؛ قصة أصحاب الجنة، إذ كانت لأبيهم جنة؛ يُطعم المساكين منها، فلما مات أبوهم قال بنوه: والله إن كان أبونا لأحمق حين يُطعم المساكين، فأقسموا ليصرمُنها مصبحين، ولا يستثنون، ولا يطعمون مسكيناً، قال تعالى: “إِنَّا بَلَوْنَـٰهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا۟ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌۭ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ” القلم: 17-20، أقسم هؤلاء الجاحدون على ألا يعطوا شيئاً من جنتهم للمحتاجين، فكانت نتيجة نيتهم السيئة، وعزمهم على الشر، أنْ نزل بهذه الحديقة بلاء أحاط بها فأهلكتها وأحرقتها النار ليلاً وهم نائمون، قال القرطبي: “في هذه الآية دليل على أنّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم”.

ثالثاً: بين العزم والنيّة.

ويأخذنا الحديث عن العزم للحديث عن النية لتعلقها بالأعمال، ويجدر بالذكر أن النية هي القصد والعزم، وجاء في بدائع الصنائع للكاساني أنّ النية هي الإرادة، وقيل أيضاً أن النية تدور على القصد والعزم والإرادة والجهة والتحول، وعرفها الماوردي على أنها قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخي عنه فهو عزم، وقد عرفها الإمام القرافي بمعناها العام على أنها قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله، وعرفها الإمام البيضاوي بأنها انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً.

والصلة بين العزم والنية: أن العزم من مراحل الإرادة التي تسبق الفعل، وهو اسم للمتقدم على الفعل، والنية اسم للمقترن بالفعل مع دخوله تحت العلم بالمنوي، فإن تراخت عن مقارنة الفعل أصبحت عزماً.

رابعاً: الهَمّ.

أما الهم؛ فهو الحزن والغم وما يشغل بال الإنسان، وما يؤرق فكره، والهم ما همّ به الرجل في نفسه، وقيل الهَمّ أول العزيمة، وهَمّ فلان بالأمر: عزم على القيام به ولم يفعله.

وجاء في الحديث القدسي عن أبي العباس عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: “إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هَم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة…” وهنا فرّق العلماء بين أن يكون الهم بالمعصية خاطراً أو عزماً؛ فإن كان خاطراً خطر ولم يساكنهُ صاحبه، ولم يعقد قلبه عليه، بل كرهه ونفر منه فهو معفوٌ عنه، وإن كان عزماً من العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم كالشك في الوحدانية أو النبوة، أو البعث فهذا كله يعاقب عليه العبد، ويصير بذلك كافراً ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يبغضه الله، وبغض ما يحبه والكبر والعُجب والحسد وسوء الظن من غير مُوجِب، ومن الأدلة على أن الله يؤاخذ ببعض أعمال القلوب التي انصرفت عن الخاطر والهم إلى العزم والإصرار قوله تعالى: “إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌۭ ۖ”الحجرات: 12، و“وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ”البقرة: 284، وحديث: “إنما الأعمال بالنيات” متفق عليه.

خامساً: ما بين الهَمّ والعزم.

والفرق بين الهَمّ والعزم؛ أنّ الهَمّ دون العزم، والعزم أقوى منه ، فمن وَطّنَ نفسه على فعل السيئة وَجَدّ في تنفيذها وتحرك لها؛ فقد عزم عليها، أما مَن هَمّ بالأمر سيئة كان أو حسنة دون أن يعقد العزم على تنفيذه، ولم يَسعَ في تحصيله، فإنه لم يصل إلى مرحلة العزم، وجاء في شرح مسلم للنووي: “أنّ من عزم على المعصية بقلبه، ووَطّن نفسه عليها، أثم في اعتقاده وعزمه، ومَن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مرت بفكره من غير استقرار، فهذا هو الهم”.

وجاء في الوسيط لطنطاوي؛ في تفسير: “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِۦ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّءَا بُرْهَـٰنَ رَبِّهِۦ” يوسف: 24، قال بعض العلماء: الهَم نوعان: همّ ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهوم مذموم مؤاخذ به صاحبه، وهَمّ بمعنى خاطر وحديث نفس، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه، لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان، وقد أجمع العلماء على أنّ هَمّ امرأة العزيز بيوسف كان هماً بمعصية، وكان مقروناً بالعزم والجزم والقصد، بدليل المراودة وتغليق الأبواب وقولها: “هيْتَ لك”، كما أجمعوا على أنّ يوسف -عليه السلام- لم يأتِ بفاحشة، وأنّ هَمّه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية: من غير جزم وعزم، وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف والمحاسبة.

سادساً: الإرادة.

أما الإرادة لغةً فهي القصد والميل، وفي الاصطلاح يقصد بها توجه الرغبة لإتيان تصرّف دون غيره من التصرفات وعلى وجه دون غيره من الوجوه وهو القصد، وفلسفياً تعرف الإرادة على أنها تصميم واعٍ على أداء فعل معين قوي، وقال بعض العلماء أن الإرادة مرتبة دون الهم والعزم، والعزم فوقها، حيث أن الدواعي على مراتب: السانح، ثم الخاطر، ثم الفكر، ثم الإرادة، ثم الهم، ثم العزم ثم الفعل.

وهنا فريق آخر قال بأن الإرادة مرحلة تأتي بعد العزم لا أنها هو، والراجح أن الإرادة تكون قبل العزم، إذ إن الإرادة هي أن يريد الشخص فعل شيء بحيث تميل نفسه إليه، وقد يكون عازماً على فعله أو غير عازم “متردداً”، بينما صاحب العزيمة هو الذي لديه التصميم على تنفيذ الشيء، فالحاصل أن الإرادة أخص من العزيمة، فكل عازم مريد وليس كل مريد عازماً، وعليه فإن الإرادة قد تكون خاطراً وقد تكون هماً لكن لا تكون عزيمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ هل يحاسبنا الله -عز وجل- على ما تحدثنا به أنفسنا أم لا؟؟

الخلاصة

أولاً: إن كان الهم بالمعصية خاطراً، لم يساكن صاحبه ولم يعقد قلبه عليه فهو معفو عنه، كما في حالة سيدنا يوسف -عليه السلام- فهمُّه كان خاطراً.

ثانياً: إن كان الهم بالمعصية عزماً مع قصد نية يحاسب به الإنسان، كما في حالة امرأة العزيز، فهَمّها كان عزماً لوجود قرائن تؤكد عزمها، التغليق والتهيئة وما إلى ذلك.

ثالثاً: قوله تعالى: “وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ”البقرة: 284، هذا بالنسبة إلى المستقر في القلوب أما ما يعرض للإنسان فالله قد سامحه فيه وعفا عنه.

رابعاً: من تفكر في عمل محرّم ولم يتكلم ولم يعمل به ولم يكن عزم عزماً أكيداً على تنفيذه لا يؤاخذ بمجرد الهم والتفكير به، وهذا يجسده حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم”صحيح مسلم.

خامساً: إذا عزم عزماً أكيداً على فعله ثم تركه لوجه الله؛ يعفى عنه وتكتب له حسنة.

سادساً: الإرادة إن كانت هماً لخاطر عابر فغير محاسب الإنسان عليها، وإن كانت مقرونة بعزم فمحاسب عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى