مقالاتمقالات مختارة

الأبعاد التربوية لصلاة التراويح في البيوت

الأبعاد التربوية لصلاة التراويح في البيوت

بقلم د. خالد حنفي

هذا المقال ليس دعوة لترك إقامة صلاة التراويح في المساجد، بل الأنسب لعصرنا التأكيد على سُنّية التراويح في المساجد؛ لضعف الهِمَم، وتمكين من لا يحسن التلاوة من سماع القرآن بصوت حسن في الصلاة، وصلاة التراويح في المساجد أصبحت شعاراً بيناً على شهر رمضان وعلى جمال العبادة فيه.

وفرضت جائحة كورونا إغلاق المساجد والعودة بصلاة التراويح إلى البيوت هذا العام، فتخوف بعض الفقهاء من أن تؤدي الصلاة في البيوت إلى الكسل عنها وفقدان الشعور بمذاق العبادة في رمضان، لهذا فإنني أهدف من هذا المقال إلى أمرين: الأول: إظهار جوانب الخير والمنح في صلاة التراويح في البيوت والعمل على الإفادة منها هذا العام وكل عام، والثاني: لفت أنظار الغافلين عنها لاغتنام الفرصة قبل انقضاء الشهر الكريم، وأُلخص هذه الأبعاد التربوية، والمِنَح القدرية لصلاة التراويح في البيوت فيما يلي:

إحياء سنة النوافل في البيوت

استقرار وانتشار صلاة التراويح جماعةً في المساجد أَنسى الناس أن أصل صلاة النوافل البيوت لا المساجد، بل جعل شريحةً من العامة يعتقدون فرضية التراويح في المساجد، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في مسجده رغم أن الصلاة في مسجده بألف صلاة فيما سواه، فقال: “صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة” متفق عليه، وأشار إلى الخيرية العامة في الصلاة في البيوت فقال صلى الله عليه وسلم “إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا” رواه مسلم.

أعظم مكسب لصلاة التراويح في البيوت هو الكسب الأسري خاصة في السياق الأوروبي، لأن أولاد المسلمين في أوروبا لا يمكنهم الانتظام في صلاة التراويح يومياً بسبب الدراسة، وطول النهار وقِصر الليل

وقال عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: “صلاة المرء في بيته نور فنوروا بيوتكم”، والحكمة في تفضيل ذلك كما قال النووي:” كونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيْت بذلك، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وينفر الشيطان منه”. فصلاة التراويح في البيوت زمن كورونا ستنير البيوت وتملؤها بركة ونورا، وتُعيد الناس إلى المداومة على النوافل في البيوت بصفة دائمة.

جمع الأولاد لصلاة التراويح يوميا وتدربهم على الإمامة والتلاوة

أعظم مكسب لصلاة التراويح في البيوت هو الكسب الأسري خاصة في السياق الأوربي، لأن أولاد المسلمين في أوربا لا يمكنهم الانتظام في صلاة التراويح يومياً بسبب الدراسة، وطول النهار وقِصر الليل في صيف الأعوام الماضية، ورمضان هذا العام أمكنهم من صلاة التراويح يومياً وسينعكس هذا على انتظامهم في الصلاة بعد كورونا؛ لأنهم تخرجوا من دورة مكثفة لثلاثين يوماً، وقد وصلني أكثر من مئة تجربة عملية للأسر والعائلات في أوربا طارت كلها فرحاً بنعمة صلاة التراويح في البيوت، وكيف تحولت البيوت إلى مساجد واجتمعت العائلة على صلاة الجماعة، وتسابق الأولاد في إتقان التلاوة والإمامة والتدريب عليها، بل بدأ غير العرب والمسلمون الجدد في تعلم التلاوة والاعتماد على أنفسهم في الصلاة، حتى قال لى عدد من الآباء: لن نترك التراويح في البيوت بعد كورونا فقد اجتمعت العائلة بعد طول انقطاع بسبب منظومة الحياة والعمل في أوربا، وإدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وذاق أولادنا طعم العبادة في ظلال الأسرة.

لا شك أن الصلاة جماعة في المساجد خلف إمام حسن الصوت أيسر وأنفى للكسل وأحب للنفس، وإغلاق المساجد والعودة بالتراويح للبيوت وَضعَ المسلم في اختبار عملي لِهمته وقدرته على مقاومة دواعي الكسل في نفسه

كسر العادة
يتدرب المسلم في شهر رمضان على مخالفة عاداته ومألوفاته، والإسلام يكسر الرتابة لمنع السآمة والملل، وحفز المسلم على الطاعة المتجددة الدائمة، ففي الصلوات الخمس كسر لرتابة اليوم، وفي صلاة الجمعة كسر لرتابة الأسبوع، وفي شهر رمضان كسر لرتابة العام، وفي ليلة القدْر كسر لرتابة ليالي الشهر، ويأتي هذا العام في ظل جائحة كورونا لنُجبَر على كسر رتابة صلاة التروايح في المساجد فنصليها في البيوت، لنتذوق طعماً جديداً للعبادة الفردية أو الأسرية، فنُجدد إيماننا ونرتقى في سلم العبودية لله رب العالمين، ولعله أنسب أحوال الطاعة والموت يتخطف أقرب الناس إلينا، والخوف من المرض والعدوى يحيط بنا.

  الدُربة على إخفاء العمل

من مقاصد الصيام الرئيسة التدريب على الإخلاص والتجرد لله، لأنه العبادة السرية الوحيدة في أركان الإسلام التي تُؤدى علناً وجهراً؛ لهذا قال الله عز وجل عن الصيام في الحديث القدسي:” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” وصلاة التراويح في البيوت تصب في خدمة ورعاية هذا المقصد، وأمْرُ المؤمن كله خير، حُرم من الصلاة جماعة في المساجد فاغتنمها فرصةً لاختبار صدقه وتجرده لله بعبادته فنَشطَ في بيته كما نشط في مسجده وزيادة. والفقهاء متفقون على أن أحد أوجه الحكمة من صلاة النافلة في البيوت هو بُعدها عن الرياء والسمعة.

مقاومة رغبة النفس في إضاعة الوقت، واختيار العبادة طوعاً لا تحمساً مع الجماعة

لا شك أن الصلاة جماعة في المساجد خلف إمام حسن الصوت أيسر وأنفى للكسل وأحب للنفس، وإغلاق المساجد والعودة بالتراويح للبيوت وَضعَ المسلم في اختبار عملي لِهمته وقدرته على مقاومة دواعي الكسل في نفسه، ودفعَه إلى اختيار العبادة طوعاً لا حماساً مع الجماعة، وفيه من الأجر وتربية النفس ما فيه.

  استشعارُ رحمة الله، وسعة الشريعة، وتجدد الفقه

يستشعرُ المسلم سعة فضل الله ورحمته، ومرونة الأحكام الفرعية، وعظمة الفقه الإسلامي وتجدده، وخلود الشريعة زماناً ومكاناً، فمهما استجد من نوازل ووقع من أحداث يجتهد الفقهاء لها ويقدمون الأحكام الشرعية المحققة للمقاصد والمصالح الخاصة والعامة، والمراعية لظروف الخلق وأحوالهم.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى