مقالاتمقالات مختارة

اسأل.. ولا تخف!

اسأل.. ولا تخف!

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

كانت عائشة – رضي الله عنها – تسأل النبي صلى الله عليه وسلم  عمَّا يُشْكِل عليها من أمور الدين، فسمعته صلى الله عليه وسلم  مرة يقول: «من نوقش الحساب عُذِّب»، فقالت: أليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: ٨]؟ فقال: «ذلك العرض»[1].

ولَـمَّا سمعته صلى الله عليه وسلم  يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قالت: يا رسول الله! كلنا نكره الموت. قال: «ليس ذلك، ولكـنَّ المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحبَّ لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإنَّ الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه»[2].

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً». قالت رضي الله عنها متعجبةً: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض! فقال: «يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض»[3].

وثَمَّ شواهد أخرى لأسئلة من غيرها من الصحابة، رضي الله عنهم.

وهو ما يوصلنا إلى نتيجة منهجية مهمة؛ هي أن المشكلة ليست في السؤال عينه، بأن يسأل المسلم عمَّا يُشْكِل عليه من أمور دينه، ويبحث عمَّا يجيب عن استشكالاته، ويزيل ما يظنه من تعارض.

بل هذه السؤالات قد تزيده إيماناً، وتفتح له باباً للتفقه في دين الله، ومعرفة حُسْن الشريعة وكمالها.

وإنما يأتي الخلل في كيفية التعامل مع هذه الأسئلة والاستشكالات؛ فالخلل في ذلك هو الذي يوقع بعض الشباب والفتيات في الانحرافات، ويجرفهم في تيار التيه والحيرة، بسبب سوء تعاملهم مع هذه الأسئلة.

تأمَّل – مثلاً – في هذا الموقف البديع من أسئلة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد جاء الحُباب بن المنذر يوم بدر إلـى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: «يا رسول اللـه! أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل».

فأنت ترى فيه منهجاً موضوعياً عظيماً في كيفية التعامل مع ما يستشكل من أحكام الشريعة؛ فالحباب استشكل هذا الموقف وكان يرى فيه شيئاً، فعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم  السؤال: هل هذا وحي أم اجتهاد؟ فلـو كان وحيـاً، فإنه يعلـم بعقلـه وإيمـانه أن الوحي لا يمكن أن يخالف المصلحة والعقـل، وأن ثبوت كونه وحياً يعني أن ما ظنه هو الحق ليس كذلك، لكنه إن لم يكن وحياً فسيعرِض ما عنده، فهو نموذج بديع في منهجية التعامل مع الأسئلة المستشكلة.

وهو موقف تكرر مع صحابيَين آخرَين في حادثة أخرى؛ فحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم  في يوم الخندق أن يعطي قادة غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا ويتركوا الحصار بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهمـا، فذكـر ذلك لهُمـا واستشـارَهُمـا فيه، فقـالا: يا رسول الله! أمراً تحبه فنصنعـه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟

وهنا تتكرر الطريقة البديعة التي سبقت عينها، فهو شيء ورد في أذهانهم لا يرون أن الصواب فيه، لكن وروده في أذهانهم واعتقادهم لصحته لا يعني أنه هو الصواب في حقيقة الأمر، وهم يعلمون صواب الوحي، فأرادوا أن يتأكدوا من الوحي أولاً.

فلا خوف إذن من مثل هذه الأسئلة؛ إنما يأتي القلق من طريقة التعامل مع هذه الأسئلة، حين تتحرك الأسئلة في فضاءٍ لا يمتلك أصولاً علمية يحاكم هذه الأسئلة إليها، ولا يتحلى صاحبها بنفسية متزنة تضع السؤال في محله، ولا يستند الشخص إلى عقل مكين يصونه من الغرق في بقعة السؤال.

ومن نماذج الخلل في التعامل مع الأسئلة والاستشكالات:

• ترك سؤال أهل العلم، واعتناق الأفكار والمباحث الدقيقة من دون سؤالٍ أو مناقشةٍ كافية مع المؤهلين الذين يمكن أن يقدموا الإجابة الشافية.

• الاستعجال في حسم النتائج؛ فما أن يرد أدنى سؤال حتى تعقبه النتائج الضخمة سريعاً من دون تروٍّ ولا تأنٍّ.

• ترك البحث والاطلاع الكافي، والاكتفاء بالتفكير العقلي المجرد، أو البحث السريع اليسير.

• الإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي.

• التسليم لأصول بدعية منحرفة وجعلها حاكمة على الشرع.

• الخضوع لضغط الانطباعات والأحوال النفسية والتجارب الشخصية.

هذه جوانب من الخلل الذي يصاحب أسئلة بعض الشباب والفتيات في عصرنا، فتتسبب في إحداث أثرٍ سلبيٍّ رديء في إفساد قلوبهم والعبث بيقينهم، مع أن منشأ بعض هذه الأسئلة يسير جداً؛ فهو قد يستشكل حديثاً في صحيح البخاري، لو فتح أقرب كتاب لوجد نقاشاً موسعاً حوله، يزيل عنه الإشكال، بل يوسع نظره على إشكالات أخرى لا يعرفها، لكنه بسبب الخلل في الأسئلة أخذ يضرب يمنة ويسرة حتى يتخلص من هذا السؤال، ثم أخذ يفكر بضرورة إعادة قراءة التراث، وتجديد الوعي، والكشف عمَّا تراكم على الفكر الإسلامي من تصورات دخيلة، حطم بسببه في الأصول وشكك في السنة، ولم يستطع بعد كل هذا الدمار الذي أحدثه الجواب عن السؤال اليسير الذي أشكل عليه!

الإشكال إذن هو في منهج التعامل مع الأسئلة؛ فقد تكون هذه الأسئلة سبباً لزيادة الإيمان، ومحفِّزاً للتعلم، وطريقاً لتلمُّس محاسن الشريعة وجمالها، كما قد تكون سبباً للانحراف والضلالات، والعامل المؤثر فيها هو (منهج التعامل).

وهو الذي يفسر ظاهرة «التحولات السريعة» التي تعصف ببعض الشباب والفتيات، فيتلقف الأفكار والشبهات سريعاً، ويتبنى التصورات المنحرفة تحت تأثير مجلسٍ حضره، أو برنامج شاهده، أو صديق تعرَّف عليه، فجاءته أسئلة جرفته بعيداً، لم تكن الأسئلة نفسها هي السبب؛ وإنما خلل التعامل معها! هذا يكشف عن ضرورة تأسيس المنهج الشرعي للسؤال والاستشكال، الذي يقوم على معرفة طبيعة الأسئلة ومحفزاتها وأنواعها، ثم تَفَهُّم دوافع الأسئلة التي تعتلج في صدور الشباب والفتيات، واستحضار أهمية العناية بها، وضرورة الإجابة الكافية عنها، وأثره في الحفاظ على الأصول والمحكمات؛ وذلك من خلال إبراز القواعد والأساليب التي يجب العناية بها عند دفع الاستشكال وفي كيفية التعامل معه؛ إذ الخلل في التعامل مع الأسئلة هو أخطر من الأسئلة، وهو الذي يوقع في الانحرافات والضلالات.

 

[1] أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ للبخاري.

[2] أخرجه البخاري معلقاً، ومسلم واللفظ له.

[3] أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى