اجترار المسألة الأرمينية.. وغياب المنطق
بقلم أمير سعيد
إذا كانت أدلة الأتراك صحيحة؛ فإن الحديث عن “إبادة جماعية للأرمن” هو مجرد أكذوبة، ومحاولة ابتزاز رخيصة، وإذا كان الأرمن على حق؛ فإن حقهم عند امبراطورية ممتدة متعددة الأعراق والأديان تبلغ مساحتها عدة أمثال مساحة تركيا الحالية، ولا علاقة قانونية للجمهورية التركية بذلك، وإن كان لهم حقوق فليطالبوا بها السلاطين الضعاف الذين تولوا بعد خلع السلطان عبد الحميد “الخلافة”، أو كان لديهم حق عند حكام إسطنبول الحقيقيين حينها؛ فليبحثوا عنه عند حلفائهم الحاليين، أسلاف أتاتورك أو خلفاؤه!
وإن كانت القضية إنسانية؛ فيجب أن يتسع المقام للبحث في المسألة الأرمنية برمتها من جوانبها المتعددة، تلك التي يقف فيها الأرمن في موقف الضحايا والمتهمون معاً؛ فلم تكن الاعتداءات تجري في اتجاه واحد، وإن كانت القضية سياسية معاصرة؛ فأولى منها ما هو أكثر منها معاصرة في سوريا وميانمار وتركستان وإفريقيا الوسطى..الخ.
إن كانت في أي اتجاه؛ فثمة ما يسبقها ويعترضها.. ويدحضها كذلك، لكن هذا يكون حين يغدو المنطق سيداً، والعدالة عمياء، أمَا وإن الأمر خلاف ذلك، والأمر محض غطاء لابتزاز استدعى هذا الاجترار؛ فدعونا نعيد قراءة تلك المسألة من أولها لآخرها لكن بطريقة مغايرة لما يسود ويطغى:
إننا هذه الأيام على موعد متكرر زاد أواره مع جملة من الأحداث استدعت هذا الاجترار الغربي للمسألة الأرمنية، مع تفجر عدة قضايا، مثل الخلاف التركي الأمريكي حول قضية إلغاء الإعفاءات لبعض الدول (منها تركيا) من الالتزام بالحصار الأمريكي على تصدير النفط الإيراني، وقضيتي صفقتي S400 , F35 ، والتصعيد الفرنسي المتدرج ضد تركيا والمسلمين عموماً تزامناً مع احتجاجات السترات الصفراء، وتنامي النزعة اليمينية في سائر أوروبا، والكشف المتوالي لأنقرة عن أسلحة جديدة متطورة أنتجتها وأخرى في سبيل إنتاجها، ولا بأس من إرباك المسؤولين بملف خطير إن خضعوا لابتزازه جر عليهم مشكلات لا تقتصر على التعويض بل تمتد إلى الإرغام على الانسحاب من شرق الأناضول لحساب أرمينيا الكبرى..
الموعد المتكرر هو ملف الأرمن الذي لم يخرج اعتباطياً؛ فنحن نباشر ذكرى أسطورة الإبادة الجماعية للأرمن ومذابحهم، والتي يؤرخ لها الأرمن بـ 24 إبريل 1915 حين اعتقلت السلطات العثمانية 250 أرمينيا بارزاً (ساسة ونشطاء)، وصدرت القرارات بتهجير مئات الآلاف من الأرمن بسبب خياناتهم الموثقة والثابتة تاريخياً من مصادر عثمانية وغربية مستقلة، وانخراط نحو 300 آلاف منهم في الجيش الروسي الغازي لأراضي السلطنة العثمانية، وانقضاضهم على قرى الأكراد والترك والتركمان التي كان رجالها منخرطون في الجيش العثماني (الذي كان يحصر تجنيده الإجباري على المسلمين من الرجال)، قتلاً وتهجيراً، واغتصاباً للنساء، ما أجج مشاعر القصاص في ظل قبضة ضعيفة من دولة أقر العالم الأوروبي كله حينها أنها “الرجل المريض” الذي لا يقوى على التحكم في كل ممالكه، وإخماد كل تمرداته وقلاقله.
ومع أن السلطة حينها قررت التهجير القسري بسبب خيانة الأرمن للدولة العثمانية في وقت الحرب العالمية الأولى، بما استأهل حدوث إعدامات، إلا أن الحكومة التركية كونت لجاناً لرصد ممتلكات الأرمن لإعادتها إليهم بعد الحرب، وقد عاد بعضهم بالفعل إليها، ومات في الطريق كثيرون نظراً لظروف الطقس القاسية، وثأر الأكراد والترك وغيرهم من الأرمن بسبب جرائم عصابات الطاشناق الأرمن، وعوثهم في بلاد المسلمين فساداً وإرهاباً..
وإذا زدنا غوصاً في التاريخ، وجدنا أن ثمة مبالغات هائلة حول عدد من قتل في هذا التهجير، وفي قتال الشوارع، وحوادث القتل والقتل المضاد بين بعض القوميات المسلمة والأرمن، سقط فيها قتلى كثيرون من الأرمن، ومثلهم من المسلمين، وهذه المبالغات التي يسوقها الغرب الأوروبي، تتبدى في عدد من المغالطات، بعضها يتعلق بملابسات الأحداث، وبعضها يخص تناولها الحالي من قبل الدول الأوروبية والبابا، أهمها:
– أنها تفترض أن ما حصل كان “إبادة جماعية”؛ فيما تقدح عدة حقائق في هذه المزاعم، منها:
1 – أنه لا يمكن لعملية إبادة جماعية أن تهجر مواطنين عثمانيين (الأرمن) ثم تعيدهم من شاء منهم بعد عامين من التهجير، وترصد لهذا ميزانية، تبلغ مئات الملايين من الدولارات بتقدير اليوم.
2 – أنه لا يمكن لإبادة جماعية أن تنطبق قانونياً على عملية تهجير مثلت حالة دفاعية لمنع انهيار الدولة العثمانية بعد أن تورط أكثر من ثلاثمائة ألف أرمني في حرب عدوانية على العثمانيين بانتمائهم إلى جيش العدو الروسي، ومساندة الجيش البريطاني الغازيين لأرض السلطنة والمهددين لعاصمتها في عمليات مستمرة لأكثر من ثلاثين عاماً.
3 – أن من الإجحاف البين ألا يسمى تهجير مسلمي القرم إلى صقيع سيبيريا شديد البرودة ليتجمد معظمهم برداً جريمة إبادة جماعية، بينما يسمى الترحيل القسري للأرمن من الأناضول إلى مروج سوريا عملية “إبادة جماعية”.
4 – أنه لا يمكن قانوناً إطلاق مصطلح قانوني تم تعريفه عبر اتفاقية دولية على أحداث تاريخية مضطربة الروايات، يرفض أحد أطرافها أن يخضعها للبحث والتدقيق التاريخي؛ فرفض أرمينيا المستمر للعرض التركي الذي قدمه رئيس الوزراء التركي ورئيس الجمهورية بتشكيل لجنة مشتركة لكشف ملابسات الحادثة، ويعتمد فقط على مرويات من طرف واحد، ومن خلال مراجعه هو وحده، ولا يمكن أيضاً أن ينسحب هذا التهرب على الاتحاد الأوروبي وغيره، ممن يتبنون الرواية الأرمينية ولا يقبلون أي مراجعة بحثية تاريخية موثقة لها.
5 – أن بعض المراجع الأوروبية تعترف بخروج جزء من الأرمن عن طاعة السلطان عبد الحميد، وتعترف أيضاً بتمردهم على سلطته وخروجهم على حكمه بالسلاح، في وقت الحرب الروسية على الدولة العثمانية في العام 1877، وتقر بأن ثمة محاولة اغتيال قد دبرها الأرمن ضد السلطان باستخدام قنبلة موقوتة، لكنه نجا منها، ومع ذلك لا تتفهم ظروف المناخ الذي ألجأ السلطنة لتنفيذ عملية تهجير في زمن حرب عالمية كبرى اتقاءً لمزيد من الخيانة والتمرد الذي تورطت فيه مئات الآلاف من الأرمن زمن الحرب، برغم أن ذلك بالطبع لا يبرر تنفيذ جريمة إبادة جماعية مزعومة.
6 – أن السلطنة العثمانية قد تجنبت تهجير الأرمن من الولايات الغربية التي لم تشهد جرائم كبيرة لهم، مقتصرة على ولاياتها الشرقية التي حصل فيها التمرد والقتال والخروج على الدولة، ومع هذا؛ فإن التهجير لم يحصل خارج حدود السلطنة، وإنما تم نقلهم من أقليم إلى آخر، وإلى مناطق حيوية كسوريا والأردن وفلسطين ولبنان. وهذا ينفي تهمة “التطهير العرقي”، أو “الديني”.
– أن ما حصل في هذه الفترة يندرج ضمن حدود العقوبات الجنائية وإخماد التمردات، وليس ما عداه، وإلا فالأرمن قد عاشوا آمنين رغم تمرداتهم إبان الخلافة العباسية في زمن السلاجقة، منذ فتحت بلادهم، وحتى هذا التوقيت الذي شهد تمرداً كبيراً استدعى إجراءً يقابله؛ فقرون سبقت في زمن العباسيين وأخرى في زمن العثمانيين حتى انتهاء حكمهم فعلياً وتولي حكومة الاتحاد والترقي العلمانية التغريبية، ينفي تماماً تهمة الاضطهاد الديني عن المسلمين، وينقلها ـ إن صحت ـ إلى الحكام الجدد، حلفاء الغرب.
– أنه مثلما لا يمكن قانونياً الآن تحميل دولة أرمينيا جرائم الأرمن في شرق الأناضول داخل حدود الدولة العثمانية؛ فإنه لا يمكن في المقابل تحميل دولة ورثت دولة مغايرة تماماً لها لا تقوم على أسس العرق أو المواطنة، هي الدولة العثمانية، وتحميل الأتراك هذه المسؤولية عن جرائم مزعومة؛ فالأتراك ليسوا مسؤولين عنها، كمواطني وأنظمة دولة ورثت دولة بائدة، هي الدولة العثمانية، وهي الدولة التي ضمت أعراقاً ومكونات تمثل مزيجاً من القوميات كالأكراد والعرب والشركس والألبان وغيرهم، ولقد شارك كثيرون في تلك الأحداث؛ فما مبرر إلصاقها بالأتراك وحدهم. وإذا كانت تركيا قد ورثت الدولة العثمانية من الناحية القانونية؛ فهي مع هذا لا يمكنها تحمل مسؤولية ما قد وقع إبان انهيار الدولة وفي وقت وقف مسؤولوها عاجزين عن التحكم في بعض ولاياتها المتمردة التي غدت خارجة عن سيطرة الدولة، حتى إن بعض المصادر الأوروبية تذكر أن السلطان العثماني لما أصدر فرمان 1895 لتهدئة قادة الدول الأوروبية ثار ضده مسلمو ديار بكر وأرسلوا برقية جاء فيها إن “أرمينيا التي فتحت بالدم لابد أن تخضع بالدم”، ولم ينزلوا على رأيه، ويشهد لذلك ما روي عن نائب القنصل الفرنسي قوله أن السلطات قامت بغلق أبواب المدينة “خشية مجيء العشائر الكردية من أطراف المدينة والتي لا تفرق بين مسلمين ومسيحيين في غاراتها”، على حد قوله. (هذا يعني اعتراف بأن موقف السلطة على ضعفه لم يكن سلبياً حيال حقن الدماء).
– أن تصنيف حالة الهياج الفرنسي الواضحة بجلاء اليوم، والأوروبي من خلفها على أنه لمناسبة مرور قرن ونيف على تلك الأحداث هو ضرب من ضروب السذاجة السياسية، ولم يحصل معشاره عند مرور نصف قرن مثلاً على تلك الحادثة، فالبادي بلا أدنى مواربة أن الغرب لم يشأ أن يتوسع في تحميل الدولة التركية إبان حكم أتاتورك الذي غض الطرف الغرب حينها عن مسؤولية حزبه (الاتحاد والترقي) المباشر عن تلك الأحداث؛ فقط لأن أتاتورك يعد حليفاً قوياً للغرب، وينفذ أجندته التغريبية في تركيا، وامتد هذا مع خليفته عصمت إينونو.. الخ، وانتفض متيقظاً الآن عندما أراد تحديداً إطاحة نظام يسعى لتغييره ويتحالف مع الخارجين عليه! وإلا؛ فما التفسير المنطقي لهذه المهزلة العبثية التي يقوم بها الغرب هذه الأيام، لابتزاز أنقرة، ومطالبتها بحقوق الأرمن بعد مائة عام، مستثنين كل المجازر والتهجيرات والإبادات ليست تلك التي حصلت خلال القرن الماضي كله فحسب، وإنما حتى تلك المستمرة للحظتنا هذه كمأساة فلسطين، وبورما، والقوقاز.. مروراً بالبوسنة والهرسك التي طمرت حقوقها وغيبت مأساتها الحية وذلك في مقابل قصة قديمة نبش الغرب في ماضيها لأغراض غير نظيفة.
– أنه مع أن ما جرى قبل قرن كان على أرضية سياسية تتعلق بإخماد تمرد وفوضى؛ فإنها لم تزل تلبس لبوساً “مسيحياً”، جعل كنائس الأرثوذكس تدق 100 دقة جرس في ذكراها، وحملت بابا الاسكندرية للسفر إلى أرمينيا، وبابا الفاتيكان لإطلاق أكاذيبه حول ما دعاه بالإبادة الجماعية، وأكذوبته الثانية التي تضمنتها عبارته القصيرة عن المسألة الأرمنية حين قال إنها “أول إبادة جماعية في القرن العشرين”، بخلاف الحقيقة التي فضحتها صحيفة الجارديان البريطانية بعد أيام من تصريحه حين أشارت إلى الإبادة الجماعية التي قامت بها الإمبراطورية الالمانية ضدّ “هيريرو وناما”، وهما اثنتان من الجماعات العرقية التي تعيش في المستعمرة السابقة في جنوب غرب أفريقيا، ناميبيا الحديثة، 1904-1909، لم تكن فقط هي الأولى في القرن الـ 20، ولكنها تبدو الأكثر رُعباً في ذلك القرن المضطرب. حيث كانت إبادة منهجية لحوالي 80٪ من الشعب هيريرو و50٪ من ناما (…) وتقدّر الاحصائيات الأكثر موثوقية أنه تمّ قتل ما يقارب 90 ألف شخص، بأمر رسميّ مكتوب بالإبادة صادر عن القائد الألماني، يحيل شعباً بأكمله صراحة إلى الإبادة”.. وأكاذيب، ومهاترات البابوات تلك تذكر جيداً بدورهم في إشعال الحروب الصليبية على خلفية أكاذيب أطلقوها باضطهاد المسلمين لنصارى الشرق قبل ما يقل قليلاً عن ألف عام.. ركب أحد البابويين طائرته لأرمينيا للبكاء على تهجير قسري تم قبل قرن من الزمان، مروراً بمذابح ستالين والصرب والصينين ضد المسلمين، ومذابح رواندا وغيرها.
(المصدر: موقع المنهل)