مقالاتمقالات مختارة

اجتراح السيئات في احتفالات نهاية العام ليس هو الأسوأ

اجتراح السيئات في احتفالات نهاية العام ليس هو الأسوأ

بقلم أمير سعيد

هنا في العالم الإسلامي، أو في الغرب أو في الشرق، مئات الملايين من الشباب والشابات المسلمين، يحتفلون بنهاية العام والكريسماس، عشرات الملايين منهم يتجمعون في أماكن عديدة للاحتفال بنهاية العام، وفي مكنون معظمهم انفصالاً عن أصل الاحتفال الغربي في حقيقته، إذ يظنون أنهم بالكاد يقضون وقتاً ممتعاً لا علاقة له بـ”الدين”، اللهم لدى بعضهم من حيث اقتراف السيئات فيه، وأنهم يرتكبون بذلك آثاماً لها علاقة بالرقص والاختلاط غير المحكوم، ولا علاقة للإثم “الفكري” فيه.

ينأى هؤلاء الشباب والشابات بأنفسهم بعيداً عما يتحدث عنه الفقهاء، الذين يحذروا من الاحتفال “بغير أعياد المسلمين”، ففي حس هؤلاء المراهقين أن الحرام الذي يتحدث عنه الشيوخ ليس إلا نوعاً من “الدروشة” وقلة الخبرة؛ فلا احتفال دينياً، إذ كل ما في الأمر أنه فرصة لقضاء وقت ممتع له علاقة بانقضاء عام وحلول آخر.

نحن لا نحتفل دينياً أيها الدراويش، “التجاوز” الوحيد هو في الرقص والصخب والاختلاط غير البريء! عدا ذلك، ما شأنكم وهذا؟! بل حتى بذلك ما شأنكم أساساً بفرح الناس وترفيهم وسعادتهم أيها الكئيبون؟!

الحق أن كثيراً من هؤلاء لا يكذبون حين يدعون أنهم لا يحتفلون احتفالاً دينياً، فأصل الداء ليس في توصيفهم لمسألة انقضاء عام وحلول آخر، وإنما الأمر أعمق من ذلك بكثير: إن جموع من نشء المسلمين لا يدرك معنى الدين بالأصل، وغابت عنه مفاهيمه وأصوله للحد الذي جعلهم يذوبون حتى تلجمهم العولمة إلجاماً، وهم لا يتحسسون إذ ذاك هويتهم الغائبة وسط هذا الصخب والضجيج.

ولو عاد هؤلاء للوراء كثيراً لأدركوا مع قليل من التذكير بأن جذور تحولهم ممتدة عبر القرون، وأنهم قد صاروا دون أن يدروا مجرد إمعات تساق أينما يريدها الممسك بأطراف حبال قيادهم وتوجيههم.

اجتراح السيئات، وارتكاب المعاصي بفعل المنكرات المصاحبة لمثل هذه الاحتفالات في هذه الليلة على فداحتها ليست هي أكبر المصائب، إذ يفضي تحليل أولي لشخصيات المحتفلين – في العادة – إلى اكتشاف فاجعة أكبر؛ فالمسألة لا تتعلق بتوهم أهمية الاحتفاء بمناسبة ما أو مجرد اقتراف منكرات منفردة، وإنما في ميوعة وهشاشة الشخصية نفسها التي أصبح يملكها – أو بالأحرى لا يملكها – هؤلاء الشباب والشابات، إنها حالة الذوبان الفكري والانسياق الاستسلامي لأي فكرة طارئة. هؤلاء الشباب لو دعوا إلى الاحتفال بـ”عيد الباذنجان” أو “البطاطا” أو أي “عيد مختلق”، واحتفى به الإعلام بشكل ما، وأفرد له مساحات لخرجوا للرقص للباذنجان أو البطاطا!

المسألة في جوهرها لا تتعلق بالكريسماس أو رأس السنة، إن أحداً من هؤلاء المحتفلين لم يسأل نفسه مرة: لماذا انسقت إلى هذا المسار دونما تفكير أو إرادة؟ أو لماذا تم محو شخصيتي واستقلاليتي الذاتية على هذا النحو؟! أو ما الذي أوقعني – مع كل أمتي – تحت نير هذه العولمة التي سلبت مني عامي الهجري وأحلت الميلادي “الغربي” بدلاً منه؟! لماذا قد صار هذا اليوم “مقدساً” هكذا فيما لا يمثل لنا في حقيقته شيئاً؟! أو حتى لماذا لا ألهو في يوم آخر بدلاً من هذا؟! الإجابة ستكون قاسية على كل هذا، لكن من قبل لننظر فيما صح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “اغد عالما أو متعلماً، ولا تكونن إمعة”، وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا”، ولنقبل على هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه”.

تدرون ما القذة؟ إنها ريشة السهم التابعة له. إنه الاستلاب القيمي وموات الهوية؛ فبينا كنا أمة مرموقة سائدة متبوعة، صار شبابنا المسلم كريشة تقذفها الرياح أنى شاءت، تائهة بين العواصف والأهواء. إن أكبر مظهر يلفت النظر في الاحتفال برأس السنة الميلادية ليس فجور الاحتفال وحده، بل ذهاب الهوية وموت الإرادة وغياب الاستقلال والخصوصية.

الأنكى في هذا الاحتفال أنه كاشف لمدى استرخاص شبابنا لخيريتهم بين الأمم: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ، وتذللهم لكل صيحة أو دعوة عالمية تافهة. وكلما زادت أعداد المخمورين بفكرة كهذه، وكلما أمسى الانخراط فيها عميقاً كلما دل على غياب معنى العلو الذي اختص به المؤمنين عن سائر أهل الأرض في نفوس شباب الإسلام، فالله سبحانه وتعالى يوضح معنى العلو الذي يتعين على المؤمن أن يستشعره ويحس بأثره النفسي بين الأمم والشعوب: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } . هذا العلو هو قرين الإيمان، وعكسه هو ذاك ما نراه من استرخاص الشباب لقيم دينهم وهويتهم وفرادتهم الأخلاقية والسلوكية والعقدية عن سائر الأمم. هذا الغرق في أوحال التقليد والمحاكاة ليس له معنى سوى تلك الدنية التي غرق الشباب فيها. هذا الشباب الذي – للأسف – لا يجد كثيراً من يأخذ بيده للتعرف إلى جوهر دينه وقيمته وسموه، ويزرع في قلبه هذا الاستعلاء الإيماني الذي يستغني به عن تقليد العابثين والسكارى والفاسقين.

إن ما نراه ونلمسه بأسى في هذه الأيام ليس إلا أعراضاً لأمراض مبدؤها غياب الداعية والمعلم والمربي، قطع الأيدي الحانية عن أن تربت على أكتاف شبابنا المسلم في محيطنا الإسلامي الواسع، وحتى في قلب دول العالم الأخرى. فقدان البوصلة وغياب الموجه المشفق أبعد شبابنا عن الجادة فاجتالتهم شياطين الإنس؛ فأبحرت بهم في ظلمات التيه والضلالة والمعاصي، ولا مخرج إلا بعودة صادقة وعزيمة لا تلين على إصلاح ما أفسده المبطلون، { واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }.

وبالعودة إلى تساؤلنا الأول: هل يحتفل شباب المسلمين بالكريسماس “دينياً”؟ تبدو الإجابة واضحة الآن: إنهم يحتفلون “دينياً” فعلاً، لكن بلا وعي أو بصيرة، إنهم يبيعون هويتهم وخصوصيتهم في سوق العولمة الرخيص، وهم يظنون أنهم بالكاد يتراقصون ويقضون “وقتاً ممتعاً” فحسب من دون تفاصيل أخرى عقدية وفكرية معمقة، حتى لو لم يكونوا يدركون معنى الاحتفال ويقصرونه فقط على انقضاء عام وحلول آخر وبداية تقويم جديد!

(المصدر: موقع المنهل)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى