اتحاد علماء المسلمين وعهد جديد: الواقع والمسؤولية والاستراتيجية
بقلم إبراهيم ديب
تتطور الرؤية الاستراتيجية ورسالة ومهمة وأهداف المؤسسة وفقا لتغير معطيات الواقع، وخاصة عندما يمنح الواقع فرص وفضاءات عمل جديدة لم تكن متاحة من قبل، بيد أنها تحتاج إلى قدرات استراتيجية واعية قادرة على التقاط الفرصة وتحويلها إلى رؤية وإستراتيجية ومشروعات عمل تستطيع من خلالها تحقيق إنجازات عقود في سنوات، وهذا ما يطلق عليه: النقلات النوعية في تاريخ الأمم.
عاش العالم الإسلامي 94 عاما بلا قيادة سياسية، ولا مرجعية علمية موحدة، ولا رمزية خاصة، ولا متحدث رسمي محدد على إثر سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م، كان من نتيجة ذلك انفراط عقد الأمة الإسلامية وتفككها واختلافها وتناحرها، وصولا إلى ما وصلت إليه الآن.
خلال تلك الحقبة الاستعمارية العسكرية على يد المستعمر الأجنبي، وما تلاها من حقبة الاستعمار الناعم بالوكالة السياسية المستبدة، والتي تولت مسؤولية قطع الطريق على استعادة هذه الوحدة.
في هذا السياق، كان نظام حكم آل سعود، الذي تمت صناعته وإنتاجه بريطانيا، ليقوم بمهمتين استراتيجيتين:
الأولى: وهي الأخطر، خدمة الحرمين واعتلاء منصة القيادة الروحية الشكلية الوهمية للعالم الإسلامي، والاستحواذ على الشرعية والمرجعية الدينية للعالم الإسلامي، بنموذج إسلامي شكلي مفرغ من مضمونه وأسباب قوته، حيث تم إنتاج نظام الإسلام السعودي، والمكون من خليط من حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، والتي كانت تواجه مشكلات عصرها من البدع والخرافات.. الخ، والفكر البدوي الذي يتماهى بطبيعته من جينات المنطقة العربية، ومن ثم تمت صناعة دين جديد تم تمكينه وترويجه سعوديا على أنه هو النموذج المعياري الإسلامي العالمي. في نفس الوقت، استفاد منه آل سعود في اكتساب شرعية الحكم وتوحيد جزيرة العرب تحت حكم آل سعود، واستيعاب وتخدير وتنييم شعوب هذه المنطقة في نموذج للإسلام الفردي الطقوسي الذي لا قوة وفاعلية فيه، والذي يمنح الحضارات الأخرى فرصة التخلص المؤقت من هذا المنافس الحضاري الكبير..
الثانية: قطع الطريق على أي نموذج إسلام آخر يمكن أن يتقدم، أو وعي حقيقي بالإسلام يمكن أن يتشكل، أو محاولات للتجديد الفكري الحقيقي يمكن أن تنقل الفكر والفعل الإسلامي من حيز السكون إلى حيز الفعل والتأثير والتغيير، حيث انه يمثل تهديد حقيقي لنظام الإسلام السعودي المزيف، وحكم آل سعود، ومن ثم أصبحت هناك علاقة مصيرية متبادلة بين نموذج الإسلام السعودي والذي يمثل الشرعية الأساسية لحكم آل سعود، وفى نفس الوقت يحقق هدفا استراتيجيا للغرب، وبين استقرار نظام الحكم السعودي، وأصبح أي نموذج إسلامي آخر، أو أي فعل تجديدي إسلامي وما يتبعه من مؤسسات وجامعات وعلماء… إلخ، يمثل بديلا عن نظام الإسلام السعودي، بل ومزلزلا لعرش وحكم آل سعود.
من هنا كان عداء نظام الحكم السعودي لحركات الإسلام السياسي، ومؤسسات الإسلام الوسطى المعتدل، وفى مقدمتها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهيئته التأسيس وفي مقدمتها العلامة د يوسف القرضاوي ومن ثم جاء عداءها وحصارها لقطر دولة المقر، وإدراج الاتحاد على القوائم السعودية للإرهاب.
ومن هنا أيضا نستطيع فهم التقارب والتماهي والتعاون في ملفات كثيرة، وغير المعلن عنه بين السعودية وإسرائيل من جهة، والسعودية وإيران من جهة أخرى.
اللحظة التاريخية
إلى أن جاءت سلسلة متعاقبة من الإجراءات، بداية من التآمر على الربيع العربي والمشاركة في الثورة المضادة بقوة ضد رغبة وتطلعات وأهداف شعوب المنطقة، ثم عاصفة الحزم ضد الشعب اليمنى وانتهاء بجريمة قتل الصحفي السعودي العالمي جمال خاشقجي.
وانكشف النظام السعودي قيميا ودينيا وسياسيا، وسقطت عنه كافة الأقنعة التي كان يتخفى خلفها بداية من خادم الحرمين، ومملكة الإنسانية، وطباعة وتوزيع المصحف، والعمل الخيري الإسلامي… إلى غيرها من كافة الملفات التي كانت تستخدم لمنح مملكة آل سعود صبغة وصورة ذهنية إسلامية.. ومن ثم لم يعد الآن من حق السعودية التحدث باسم الإسلام والقيم بأي شكل من الأشكال، وتحديدا في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر، حيث كان السقوط النهائي لنموذج الإسلام السعودي المزيف، وتفكيك للصخرة السوداء الصماء التي كانت تغلق النفق، وأصبح الباب مفتوحا، تاركا أمامه مساحة شاغرة كبيرة جدا تحتاج إلى من يملؤها علميا وسياسيا.
الفراغ والمسؤولية والفرصة
1- في هذا السياق، وفي ظل حالة الاستبداد التي تعيشها المنطقة العربية، ووقوع مؤسساتها الدينية العريقة في مصر والعراق وسوريا وبلاد المغرب العربي تحت وطأة وسيطرة الاستبداد، وتحولها إلى مؤسسات دينية محلية تابعة لأنظمة الحكم بها، كانت الفرصة والمسؤولية كبيرة على الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بما يمتلكه من مقومات علمية وتحرر كامل من التبعية لأي دولة أو نظام أو تنظيم ما، لتحمل مسؤوليته العلمية في بناء المرجعية الكبرى الوحيدة للإسلام في العالم، والتي ستكون الأساسي لوحدة فكرية وسطية راشدة تستطيع أن تفرض نفسها بقوة، وتكشف وتنفي أي انحراف وخبث عن الإسلام الحقيقي الصافي.
2- ويأتي هذا أيضا في سياق ما تعانيه دول العالم الإسلامي من ضعف وترد وتبعية ودوران سياسي في فلك الدول الكبرى، وهي لم تتمكن من تقديم نموذج الإسلام الحقيقي في أي جزء من مكوناته، باستثناء الجمهورية التركية التي حققت طفرات حضارية متقدمة منحتها قدرا كبيرا من الاستقلالية والتحرر النسبي من ربقة النظام الدولي، بالإضافة إلى تقديمها نموذجا حضاريا للأداء والالتزام السياسي القيمي الذي ينتمي إلى رسالات وقيم السماء والقيم الإنسانية التي توافق عليها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وجعل منها نظاما قيميا للعالم، جعل منها الدولة الأولى المرشحة لملء هذا الفراغ الشاغر، بل والاستثمار فيه لخدمة مشروعها الحضاري الأممي الذي تعمل عليه.
تحولات رسالة وإستراتيجية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وضع الاتحاد رؤيته العبقرية بأن يكون الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المرجعية الشرعية الأساسية في تنظير وترشيد المشروع الحضاري للأمة الإسلامية، في إطار تعايشها السلمي مع سائر البشر.
ولهذا كانت رسالته ومهمته دراسة وتشخيص مشكلات الأمة الإسلامية وتقديم الحلول لها، وخدمة قضاياها من خلال إطار مؤسسي يكون لعلمائها فيه الدور الريادي.
وفي ظل السياق السياسي والديني السابق شرحه، صُنعت ووُضعت أهداف الاتحاد تحت السقف المتاح حينئذ، وكانت أهداف الاتحاد وإستراتيجيته على النحو التالي:
أولا الأهداف التأسيسية: خمسة أهداف جاءت للمحافظة على الهوية ومواجهة الغلو وتقوية الروح الإسلامية والتجديد الفكري ووحدة الأمة.
ثانيا: الأهداف الاستراتيجية: سبعة أهداف متعلقة بالمساهمة في حل مشاكل الأمة والارتقاء بالبحث العلمي والفتوى وتعزيز الحوار مع الآخر والكفاية المالية والكفاءة المؤسسية، ولذلك رسمت استراتيجية وأولويات وأهداف تحقيقها على ستة محاور لمناقشتها في الدورة الرابعة الجاري انعقادها (تشرين الثاني/ نوفمبر 2018م) على هذا النحو:
المحور الأول: مرجعية علمية تعمل على تيسير وتقريب المفاهيم والتعاليم الإسلامية لعموم الناس.
المحور الثاني: مرجعية علمية تتوفر على منظومة عمل استراتيجية شاملة.
المحور الثالث: مرجعية علمية تتسم بحوكمة رشيدة.
المحور الرابع: مرجعية علمية يتوفر لها إعلام وتسويق يعتمدان على تكنولوجيا المعلومات والاتصال المتطورة.
المحور الخامس: مرجعية علمية يتوفر لها أعضاء مؤهلون فاعلون ومواكبون ومبادرون.
المحور السادس: مرجعية علمية تتوفر لها مؤسسات حديثة ومتطورة ومستقلة.
التطور اللازم في رسالة وإستراتيجية الاتحاد
1- تحمل مسؤوليته في ملء الفراغ الإسلامي المرجعي الشاغر عالميا.
2- استثمار الفرصة المتاحة في تقديم النموذج الإسلامي الوسطي الصحيح للمسلمين وللناس كافه.
مرتكزات التطور
– التوزيع والفصل والتحديد بين مهام التفكير والتخطيط والتنفيذ، وتحديد أدوار الاتحاد بدقة.
– الفهم الاستراتيجي العميق لمتغيرات المشهد السياسي والاجتماعي والديني للمنطقة والعالم.
– القياس الدقيق لممكنات الفعل المتاحة خلال العقد القادم، والدورة القادمة أربع سنوات حتى 2022.
– تكامل الأدوار داخل الاتحاد بين علماء الاستراتيجية والعلوم الشرعية.
– التحديد الدقيق للدور العالمي للاتحاد العالمي، وعدم الانزلاق إلى الأدوار التنفيذية الخارجة عن مهمته.
– الرصد الجيد لأسئلة الواقع والمستقبل وتحديد بوصلة التجديد الفكري اللازم للمرحلة ومجالاته.
– التحول من الدراسة والتشخيص إلى التخطيط ورسم وتوزيع الأدوار على الجهات التنفيذية المتخصصة.
– التوقف عن الأدوار التنفيذية الخارجة عن مهمة الاتحاد.
– التوقف عن الأدوار السياسية المعيقة لتطور وتمدد الاتحاد علميا.
– تكامل وشمولية الخطط والأعمال وضمان فاعليتها؛ بتصميم معايير الإنجاز لكل الأهداف وقياسها.
– رفع سقف الطموح بما يتناسب مع الفرصة والإمكانيات والتطلعات.
– التشبيك الإستراتيجي مع الجهات المنفذة والمستفيدة وذات الصلة.
التطوير اللازم في رسالة ومهمة الاتحاد:
أولا: دراسة وتشخيص مشكلات الأمة الإسلامية وتقديم الحلول لها، وخدمة قضاياها في إطار مؤسسي يقدم:
1- الأفكار والرؤى المستقبلية.
2- بوصلة ومسارات ومعايير ومؤشرات التجديد الفكري المعاصر.
3- النظم المعيارية الإسلامية العالمية المنظمة لعمل المؤسسات والمشاريع الإسلامية في العالم.
4- رسم الخطط الاستراتيجية.
5- إقامة وتفعيل الشبكات الاستراتيجية لتنفيذ خطط الاتحاد وتحقيق أهدافها.
ثانيا: استكمال البنية التأسيسية اللازمة للوصول إلى مرتبة المرجعية الإسلامية العالمية.
الوثيقة الاستراتيجية ومسارات استراتيجية الاتحاد 2022م
المسار الأول: تعظيم القيمة المضافة والصورة الذهنية، وفاعلية الاتحاد في التأثير العلمي والمجتمعي.
المسار الثاني: إنتاج بدائل استراتيجية للتمويل الدائم المستقر، بما يتناسب مع القيمة العالمية للاتحاد.
المسار الثالث: التخصص في الصناعة المعيارية العالمية الشاملة للغايات الأربع للاتحاد: التجديد الفكري، والدعوة، والهوية، والوحدة.
المسار الرابع: التجديد والإنتاج الفكري المعاصر.
المسار الخامس: الصناعة المعيارية الإسلامية العالمية للتعليم الديني.
المسار السادس: الصناعة المعيارية الإسلامية العالمية للوقف والعمل الإنساني الإسلامي.
المسار السابع: الارتقاء بالقيمة المضافة والهوية الخاصة للعلماء المسلمين وصورتهم الذهنية عالميا.
المسار الثامن: تأسيس وتطوير شبكة علمية عالمية للجامعات الإسلامية وغير الإسلامية.
(المصدر: عربي21)