مقالاتمقالات مختارة

ابن دقيق العيد.. كيف واجه فقيه مصري السلطان في جبروته؟!

ابن دقيق العيد.. كيف واجه فقيه مصري السلطان في جبروته؟!

بقلم محمد شعبان أيوب

لطالما كانت العلاقة بين الفقيه والسلطان علاقة جدلية ومتجذرة في التاريخ، فالأول يحقق مبادئ الدين، ويُحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها كمرجع لا محيد عنه، والسلطان يرى في الفقيه منافسا يحد من جموحه ورغباته، وغالبا ما كان يدخل في صدام معه في حال لم يشرعن ما يريده في صورة فتاوى وآراء ومواقف دينية تُقنع الجماهير، وتجعلهم يقبلون أفعال السلاطين كمسلَّمات.

ظاهرة أثمرت عبر تجلياتها المتعددة ومساراتها التاريخية ما يُمكن تسميته بـ”فقيه السلطان”، ذلك الفقيه الذي طالما جعل الأوامر السلطانية كالشريعة الإلهية، لا يمكن تعديلها وتقويمها أو مواجهتها بالحجج، الأمر الذي جعل قسما كبيرا من الفقهاء المعترضين على هذه الرؤية ويرفضون هذا التجني على الشريعة والعبث بها، فأثمرت اجتهاداتهم ومواقفهم فقها يمكن أن يُسمى “الفقيه في مواجهة السلطة”.

ابن دقيق العيد من الميلاد إلى النبوغ

تقي الدين بن دقيق العيد، أحد الفقهاء والمحدثين البارزين في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، كما أنه يُعد أحد الفقهاء النوادر الذين واجهوا السلطة المملوكية في أشد لحظاتها قوة وبطشا بثبات وثقة وقوة لافتة، وكان معاصرا للعلامة عز الدين بن عبد السلام الذي كان من جملة كبار العلماء الذين واجهوا السلطة الأيوبية في لحظات بطشها وظلمها في دمشق، ثم في القاهرة أيضا حين لجأ إليها، ولم يمنعه لجوؤه وكرم السلاطين والأمراء المماليك نحوه أن يوجّه سهام النقد إليهم حين دعت الحاجة إلى ذلك، انطلاقا من المسؤولية العلمية والأخلاقية التي كان يدركها تمام الإدراك.

ولد محمد بن علي بن وهب القشيري المنفلوطي الصعيدي المصري المشهور بابن دقيق العيد في 25 شعبان 625هـ/ يوليو/تموز 1228م في سفينة شراعية كانت تمخر مياه البحر الأحمر على مقربة من ثغر ينبع وأبواه في طريقهما إلى الحجاز متوجهان لأداء فريضة الحج، الأمر الذي جعل والده يستبشر بهذا الصبي، وقد طاف به حول الكعبة المشرفة داعيا الله أن يجعل صبيه من علماء الأمة الكبار.

نشأ ابن دقيق العيد الذي سُمي جده بهذا الاسم لطيلسان خرج به ذات يوم وهو ناصع البياض فأطلق عليه الناس كأنه “دقيق العيد”، نشأ في أسرة من كبار الأسر وأشرافها في مدينة قوص في صعيد مصر، الأمر الذي أهّله للولوج في طريق العلم وتحصيله، فحفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه المالكي على أبيه، ثم الفقه الشافعي وعلوم العربية حتى ارتقى إلى منصب قاضي قضاة المالكية في الصعيد.

 حين أتم الشيخ ابن دقيق العيد مبلغه في العلوم الشرعية جلس كعادة أقرانه للتدريس والإفتاء

على أنه قرر في نهاية المطاف أن يتجه صوب القاهرة التي كانت مركز الإشعاع العلمي والثقافي في نهايات العصر الأيوبي وبدايات دولة المماليك، وهنالك التقى بعلامة زمانه، وصاحب المواقف المشهورة بالصدع بالحق الإمام العز بن عبد السلام[1]القادم حديثا من الشام إثر معارضته لسلطة الأيوبيين المتأخرين التي رضيت بالتحالف مع الصليبيين ضد الفرع الآخر من أبناء عمومتهم الأيوبيين في مصر، فأثّر الشيخ العز بن عبد السلام في تلميذه ابن دقيق العيد تأثيرا أخلاقيا تعدى التأثير العلمي بكثير، وصار الشيخ أسوة لازمت التلميذ طوال حياته، ولشدة تأثره بشيخه كان ابن دقيق العيد أول من أطلق على العز “سلطان العلماء”[2]، اللقب الذي لا يزال يتردد على الألسنة إلى يومنا هذا.

تنوعت مشارب تقي الدين بن دقيق العيد العلمية، ولحبه ورغبته الجامحة لطلب العلوم لم يرض بالمقام في القاهرة فقط، وشمّر عن ساعد الجد فارتحل إلى الإسكندرية ثم إلى الحجاز ودمشق وغيرها في طلب الحديث وعلوم الفقه على السواء، واشتهر عنه حبه الشديد للعلوم والارتحال من أجلها حتى بلغ الرسوخ العلمي، وفيه يقول الإمام الشوكاني:

“فاق الأقران، وخضع له أكابر الزمان، وطار صيتُه، واشتهر ذكره، وأخذ عنه الطلبة، وصنّف التصانيف الفائقة، فمنها “الإلمام في أحاديث الأحكام”، وشرع في شرحه في مجلدين أتى فيها كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: بالعجائب الدالّة على سعة دائرته في العلوم، خصوصا في الاستنباط”[3].

حين أتم الشيخ ابن دقيق العيد مبلغه في العلوم الشرعية جلس كعادة أقرانه للتدريس والإفتاء، وتولى مناصب القضاء في دولة المماليك البحرية، واشتهر علمه في الآفاق، حتى اجتمع بكبار علماء زمانه الذين عرفوا له قدره وعلمه ومكانته مثل ابن تيمية وغيره، بل إن شهرته تجلّت يوم أن كان طالبا، حتى فاقت شيوخه من علماء المالكية والشافعية في زمنه، يقول المؤرخ الصلاح الصفدي، وهو قريب العصر منه:

“كان إماما متفننا محدثا مجودا فقيها مدققا أصوليا أديبا شاعرا نحويا، ذكيا غواصا على المعاني، مجتهدا وافر العقل كثير السكينة بخيلا بالكلام، تام الورع شديد التدين، مديم السهر مكبا على المطالعة والجمع، قل أن ترى العيون مثله. وكان سمحا جوادا”[4].

بل اعتبر المؤرخ الصفدي أن أعلم أهل زمانه ثلاثة؛ منهم التقي بن دقيق العيد، يقول: “ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مئة سنة، وهم الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية، والشيخ تقيُّ الدين بنُ دقيق العيد، وشيخنا العلاّمة تقيُّ الدين السبكي”[5]. وفوق ذلك، فإن الصفدي المعاصر لهؤلاء الأعلام جعل العلامة ابن تقي العيد أحد المجددين للإسلام في عصره، وهي المنزلة التي لا تُعطى إلا لأكبر أكابر العلماء الراسخين المؤثرين في مجتمعاتهم تأثيرا قويا ملحوظا، مع حصول ملكة الاجتهاد، يقول:

“وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها”[6]، وقد اشتهر ابن دقيق العيد فوق علمه الراسخ، وذكائه، اشتهر بالهدوء والسكينة وقلة الكلام، فأضحى له بين الخلق هيبة، وبين الأمراء ورجال السياسة سطوة، وكان الباعث له على ذلك خوفه من الله، ومراقبته الدائمة، فقد أُثر عنه قوله: “ما تكلمتُ كلمة، ولا فعلتُ فعلا إلا وأعددتُ له جوابا بين يدي الله تعالى”[7].

القضاء ومقارعة السلطة

ارتقى ابن دقيق العيد إلى منصب قاضي قضاة الشافعية في مصر في 18 جمادى الأولى 695هـ/مارس/آذار 1296م في ولاية السلطان المنصور حسام الدين لاجين (695-697هـ/1296-1298م)، وهو في أخريات عمره قبل وفاته بسبع سنين، وعُدّ منصب قاضي قضاة الشافعية المنصب الأهم والأعلى بين قضاة القضاة كلهم، فقد خُول لصاحب هذا المنصب في عصر المماليك تولي الإشراف وإدارة الكثير من الأوقاف والمدارس والخانقاوات التي أقيمت للصوفية، وهو بهذا الإشراف يُضيف إلى منصب القضاء سطوة وقوة دينية واجتماعية كبيرة للغاية جعلت قاضي قضاة الشافعية الرأس الأكبر في المسألة الدينية في ذلك العصر.

من هنا، كانت فترة توليه القضاء على قصرها من أكثر سنين عمره خطرا وأعظمها شأنا، فقد أصبح على اتصال وثيق بالسلطان وكبار رجال الدولة، ولرسوخ علمه، وشدته في الحق رغم هدوئه وسكونه الذي عُرف به، فإنه رد شهادة نائب السلطان الأمير سيف الدين منكُوتَمُر لأنه اعتبرها شهادة غير عادلة وغير كافية في نظر الشرع، رغم تملق الكبراء وكثير من العلماء لهذا الأمير، فقد كان السلطان لاجين لا يرد لنائبه منكوتمر هذا أي أمر أو طلب، واعتُبر النائب منكُوتَمُر هو السلطان على الحقيقة في بعض الأوقات آنذاك.

أرسل نائب السلطان إلى ابن دقيق العيد بعض مماليكه ثم كبار أمرائه طالبا منه أن يمر عليه في دار النيابة

كان منكوتمر قد أرسل إلى قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد يُعلمه مُدعيا أن تاجرا مات وترك أخا من غير وارث سواه، وأراد منه أن يُثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث بناء على هذا الإخبار، لكن الشيخ رفض إمضاء القضية لصالح التاجر بناء على شهادة منكوتمر وحده، وترددت الرسائل بينهما، لكن القاضي كان يرفض في كل مرة، ويُصرّ على موقفه غير هيّاب من نائب السلطنة المملوكية، حيث ثبت لديه أن الأدلة لم تكن كافية، وفي المرة الأخيرة أرسل له أحد كبار الأمراء في الدولة لإعادة النظر في المسألة، وينقل المؤرخ المقريزي نص الحوار الذي تتجلى فيه شجاعة الفقيه والقاضي في مواجهة ضغوط السلطة، يقول: “قال له (الأمير): يا سيدي ما هو (أي منكوتمر) عندكم عدل؟ فقال ابن دقيق العيد: سبحان الله، ثم أنشد:

يقولون هذا عندنا غيرُ جائزٍ *** ومن أنتم حتى يكون لكم عند!

   

وكرّر ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والله متى لم تقم عندي بيّنة شرعية ثبتت عندي وإلا فلا حكمتُ له بشيء باسم الله، فقام الأمير وهو يقول: والله هذا هو الإسلام. وعاد إلى منكوتَمُر واعتذر إليه بأن هذا الأمر لا بد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء إلى دار العدل”.

حين صعد ابن دقيق العيد إلى دار العدل في قلعة الجبل بالقاهرة في اليوم المخصص له، أرسل نائب السلطان إليه بعض مماليكه ثم كبار أمرائه طالبا منه أن يمر عليه في دار النيابة، “فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحّوا عليه، قال لهم: قولوا له ما وجبت طاعتك عليّ، والتفتَ إلى من معه من القُضاة، وقال لهم: أُشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله وقولوا له يُولّي غيري”.

عاد الفقيه إلى داره، وأرسل نقباءه إلى نوّابه في القضاء في كامل القطر المصري بمنعهم من الحكم وعقد الأنكحة، فلما بلغ السلطان لاجين الخبر، وعرف خطورة الأزمة على سُلطانه ودولته، والقوة الروحية والشعبية التي كان يملكها ابن دقيق العيد، أرسل إلى نائبه الأمير منكوتمر يُنكر عليه فعله وطيشه، ثم أرسل إلى القاضي بعض كبار الفقهاء والأمراء ليصعدوا به إلى القلعة، وبالفعل صعد القاضي بعد إلحاح، وهنا نترك المقريزي يروي لنا هذا المشهد النادر في تاريخ العلاقة بين السلطة والقضاء في تاريخنا الإسلامي، يقول:

“فصعدا به إلى القلعة، فقام إليه السلطان وتلقّاه وعزم عليه أن يجلس في مرتبته (كرسي السلطنة)، فبسط (القاضي) منديله، وكان خرقة كتان خَلقة فوق حرير الكرسي قبل أن يجلس؛ كراهة أن ينظر إليه ولم يجلس عليه (أي الحرير)، وما برح السلطان يتلطّف به حتى قَبِل الولاية (والعودة إلى القضاء)، ثم قال له السلطان: يا سيدي، هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادعوا له. وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: منكوتمر لا يجيء منه شيء، وكرّرها ثلاث مرات وقام”[8].

ظل نائب السلطنة سيف الدين منكوتمر يتحين الفرص، ويتحرق شوقا لتمريغ أنف هذا الفقيه الذي أهانه وحطّ من شأنه، وهو صاحب السيف الأعلى في إمبراطورية المماليك الشاسعة، والذي أعاد كرامة العلماء والقضاة أمام رجال الحكم والسلطة مرة أخرى، فأرسل إلى القاضي ابن دقيق العيد يتهمه بأنه استولى على أموال بدون وجه حق من موارد إحدى المدراس التي كان يُشرف عليها، ويُدير شؤونها، فأرسل إليه ابن دقيق العيد خطابا يرد فيه هذه التهم، بل وجعله خطاب مباهلة وملاعنة على الظالم من الطرفين، ولم يمر سوى أيام قليلة إلا وقُتل السلطان لاجين، وحُبس نائبه منكوتمر ثم أخرج من سجنه وقُتل، كما يروي ابن الوردي في تاريخه[9]!

حين ارتقى السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى عرش الدولة، ودخلت بلاد الشام في عصره منعطفا خطيرا بهجوم التتار انطلاقا من العراق التي كانوا قد احتلوها وقضوا على الخلافة العباسية فيها، كانت الجيوش المملوكية بحاجة ماسّة إلى الأموال للإنفاق على المجهود الحربي، وهنا أمر السلطان بجمع المال من الرعية طوعا أو قسرا من خلال الضرائب لمواجهة هذه النازلة، معتمدا على فتوى قديمة لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام في زمن السلطان سيف الدين قُطز، بيد أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد وقف أمام هذا الأمر الذي اعتبره تجرؤا على الفتيا، واقتطاعا لسياقها، قائلا للسلطان بتحدٍّ:

“إن ابن عبد السلام لم يُفتِ في ذلك إلا بعد أن أحضرَ جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، وجمع ما عند الأمراء من جواهر وأحجار كريمة تزدان بها نساؤهم وجواريهم، ثم قال له: كيف يحلّ مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرّض لدرهم واحد من أولاد الناس إلا بوجه شرعي”[10]. فرضخ السلطان لأمر الشيخ ابن دقيق العيد، ولم يفرض ضرائب على الناس رغم الحاجة الماسة إلى إعداد الجيوش.

 لقد أدرك ابن دقيق العيد ألاعيب رجال السلطة جيدا من السلطان رأسا إلى كبار الأمراء

لم تتوقف محاولات كبار رجال السلطة من الضغط على القاضي ابن دقيق العيد للرضوخ لمطالبهم التي كان يغلب عليها المنفعة الشخصية فوق المنفعة العامة، وسوء استخدام السلطة، وهذه المرة كان الضغط من قبل الوزير الرجل الأول على رأس الجهاز الإداري المملوكي في ذلك العصر وكان يُسمى شمس الدين بن السلعوس، كان الوزير ابن السلعوس على علاقة مضطربة مع قاضي القضاة السابق تاج الدين بن بنت الأعز، وكان ابن بنت الأعز عالما وقافا على الحق مثل ابن دقيق العيد، وأراد ابن السلعوس بعد عزله أن ينتقم منه فلم يجد مدخلا إلا برمي ابن بنت الأعز بهتانا بأن بعض مؤلفاته وكلامه يدل على كفره وخروجه من الملة، وكتب في سبيل ذلك محضرا أرغم فيه بعض الفقهاء على التوقيع عليه بالموافقة وصحة مضمونه، ولم يكن يتبق إلا توقيع العلامة ابن دقيق العيد وهو قاضي القضاة كي يُنفذ حكم الإعدام في الشيخ!

وأرسل الوزير بالفعل هذه المحاضر وحيثياتها القانونية والشرعية الملفّقة إلى القاضي ابن دقيق العيد في القاهرة ثم جعل يستعجله بالتوقيع، حيث قيل له: يا مولانا القاضي الساعة تضع خطك (توقيعك) على هذه المحاضر، فأخذها، وشرع يتأملها واحدا واحدا، والنقباء من القلعة يتواترون بالحثّ والطلب والإزعاج، ويُريدون منه التوقيع لتنفيذ المؤامرة، ويقولون له: “إن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ من محضر دفعه إلى الآخر، وقال: ما أكتبُ فيها شيئا. قال الشيخ فتح الدين (أحد الفقهاء الحاضرين): يا سيدي القاضي لأجل السلطان والوزير. فقال ابن دقيق العيد: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم. قال: فقلتُ: فكيف تكتبُ خطك بذلك، وبما يخلص فيه، وتقول: إنك لا تحلّ دمه. فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون: قد كتب فلان، ولا يُخبرونه الحقيقة بأني كتبت بما يُخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله. فأبطل ذلك عملهم، ورد مكرهم، وسكّن سورتهم، وأطفأ شواظ نارهم”[11].

لقد أدرك ابن دقيق العيد ألاعيب رجال السلطة جيدا من السلطان رأسا إلى كبار الأمراء والوزير فضلا عن من دونهم، حيث أراد كثير من أمراء المماليك أن يتواروا إلى ظل الفتاوى التي كانت تُجهز تحت الطلب من “فقهاء السوء” على حد تعبير العلامة السبكي، أدرك ابن دقيق العيد هذه المعادلة، بل وطبيعة النظام البيروقراطي في قلعة الجبل، وكيف كانت “تُطبخ” القرارات لعرضها على السلطان دون علمه ووقوفه على أخطر ما فيها، والمثال السابق خير دليل على هذا، الأمر الذي جعل ابن دقيق العيد يرفض التوقيع على محضر باطل معد سلفا للانتقام الشخصي.

وبحسب المؤرخ إبراهيم طرخان فإن ظاهرة الامتناع عن الفتوى أو التوقيع عليها في ذلك العصر كما فعل ابن دقيق العيد كانت “نوعا من الثورة السلمية الجريئة، وتبين مدى إدراك السلاطين لأهمية الفقهاء في كسب الرأي العام”[12].

كان نفوذ الفقهاء في ذلك العصر يتكئ على قوتهم التي استمدوها من قيمتهم العلمية والأخلاقية، واحترام عموم الناس وتأييدهم لهم، ولما كان المماليك الأتراك أغرابا قادمين على ظهر السلطة دون سند شعبي يؤيدهم، فقد أعطوا المساحة الكافية للفقهاء والعلماء ليكونوا الطبقة الوسطى بين السلطة والشعب، وبهذا كسب الفقهاء المساحة الأبرز، ودخلوا في إدارة الدولة بأشكال متعددة على رأسها الدينية والإدارية، وتحصّلوا على العديد من المكتسبات المادية والمعنوية على السواء.

ومن هذا الجانب، أدرك كبار رجال القضاء، ممن عُرفوا بنظافة اليد ورسوخ العلم، مثل العز بن عبد السلام والتقي ابن دقيق العيد وابن سيد الناس وبدر الدين بن جماعة وابن حجر العسقلاني وغيرهم، أن مواجهة جنوح السلطة في لحظات طيشها أمر لا مرد له، للحفاظ على المرجعية الأخلاقية والشرعية التي كانت تتكئ عليها دولة المماليك، فضلا عن الحفاظ على السلم الاجتماعي، وكان السلاطين يخشون أكثر ما يخشون هؤلاء الصادعين بالحق، المؤلّبين الجماهير على غشامة السلطة، فحين زار ابن بطوطة[13] مصر في ذلك الزمن سمع أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون كان يخشى من أحد كبار العلماء واسمه شمس الدين الحريري.

على أن ذلك لم يكن يستمر طوال الوقت، فعلى الجانب الآخر وجد بعض المتنفذين من رجال السلطة بُغيتهم في فقهاء رضوا أن يكونوا مطية لتفصيل الفتاوى التي تحقق المآرب الشخصية للسلاطين، لكن حسبنا في سيرة العلامة تقي الدين بن دقيق العيد ما يُعطي ملمحا مهما عن طبيعة العلاقة بين السلطان والفقيه في العصر الإسلامي الوسيط؛ إذ وقف الفقيه بكامل قوته وثقته في نفسه وفي مهمة القضاء التي كان على رأسها موقف ثبات أمام المحاولات المتكررة من رجالات السلطة للتعدي على الحقوق والحريات، واستطاع في سبيل ذلك سد أبواب من الجرائم بسبب قولة الحق، والثبات على المبادئ التي تربى عليها هؤلاء العلماء.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى