ابن تيمية بين احتكار السّلفيّة والعقليّة التّجديديّة والرّوح الصّوفيّة
وهنا يغدو من نافلة القول التأكيد على ضرورة التّفريق بين النّقد وبين التهجم لغاياتٍ أبعدَ من الشّخصيّة المستهدفة؛ فمن حقّ الجميع دون استثناء نقد أفكار ابن تيمية، بل من حقّهم السّعي في نقضها ما دام ذلك في مضمار التّدافع الفكريّ، ولكنّ الافتراء السياسي الذي يلبس ثوب الفنون تارةً وثوب محاربة التطرف تارةً أخرى؛ فهو لا يستهدفُ ابن تيمية بل هو ستارٌ لحربٍ على أصول الأفكار والانتماء للمرجعيّة الإسلاميّة عموماً.
احتكار السّلفيّة المعاصرة
كثيرةٌ هي الشّخصيّات الرّمزيّة التي ظلمها التّاريخ، وظلمها أهلها بالزّهد فيها، لكنّ الظّلم الذي تعرّضت له شخصيّة ابن تيمية مختلف نوعاً ما.
التّفريق بين النّقد وبين التهجم لغاياتٍ أبعدَ من الشّخصيّة المستهدفة؛ فمن حقّ الجميع دون استثناء نقد أفكار ابن تيمية، بل من حقّهم السّعي في نقضها ما دام ذلك في مضمار التّدافع الفكريّ، ولكنّ الافتراء السياسي الذي يلبس ثوب الفنون تارةً وثوب محاربة التطرف تارةً أخرى؛ فهو لا يستهدفُ ابن تيمية بل هو ستارٌ لحربٍ على أصول الأفكار والانتماء للمرجعيّة الإسلاميّة
وذلك أنَّ أشدّ الظلم الذي تعرّض له ابن تيمية هو احتكار السّلفيّة المعاصرة لشخصيّته، حتّى صار علامةً تجاريّة حصريّة لها وماركة مسجلّة باسم أتباعِها وجزءاً من أملاكهم الفكريّة التي يحيطونها بأسوارهم، فتوهّموا أنّه فعلاً حكرٌ عليهم وأوهموا النّاس من غيرِهم بذلك.
إنّ التعامل السلفيّ مع ابن تيميّة وكأنّه أحد تلاميذ مدرسة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب أضرّ بابن تيمية أيّما إضرار؛ فحجب عنه الكثير من الباحثين بسبب رهابهم من معضلة التّصنيف، كما جعله غرضاً لكثيرٍ من السّهام التي لا تعلم عن ابن تيمية شيئاً سوى أنّه أحد رموز السلفيّة.
إنّ لحصن ابن تيمية الشّرعيّ والفكريّ أبواب كثيرة؛ أغلِقت كلّها إلاّ باباً واحداً، والدّاخل من هذه البوابة لا يرى إلاّ ما يريده مَن بيدهم مفتاح هذا الباب، فحُجِبَت الكثير من القضايا واختُزِل ابن تيمية في عددٍ من القضايا التي تخدم رؤية وتوجهات السلفيّة المعاصرة الشّرعيّة والفكريّة.
فابن تيمية عند الكثيرين هو فقط عدوّ الصّوفيّة، ومحاربُ الأشاعرة، والسّيف المسلط على رقاب الشّيعة والنصيريّة وكلّ من ليس من أهل الاعتقاد السلفيّ، والآخذ بظواهر النصوص، حتّى غدا المفتي بالسيف وقطع رؤوس المعاندين؛ وهذه الصّورة لم تكن فقط من صنع أعداء الإسلام، بل كان أحد أسبابها الرّئيسة احتكار ابن تيمية واختزاله فقط فيما يخدم أفكار السلفيّة وتوجّهاتها على اختلاف مدارسِها وتيّاراتِها.
الإبداع التّجديديّ
إنّ المتفحّص لتراث ابن تيمية يجد أنّ الرّجل كان علامةً فارقةً في الجرأة التّجديديّة في الأحكام والاجتهادات الشّرعيّة، وكان يتحمّل مسؤوليّة اجتهاداته ويخوض المعارك لأجل قناعاته الاجتهاديّة، فهو وإن كان حنبليّ الأصول غير أنّه كان جريئاً في مخالفة أقوال الأئمة الكبار ونقد أقوالهم مهما كلّفه ذلك من ثمن.
ابن تيمية عند الكثيرين هو فقط عدوّ الصّوفيّة، ومحاربُ الأشاعرة، والسّيف المسلط على رقاب الشّيعة والنصيريّة وكلّ من ليس من أهل الاعتقاد السلفيّ، والآخذ بظواهر النصوص، حتّى غدا المفتي بالسيف وقطع رؤوس المعاندين؛ وهذه الصّورة لم تكن فقط من صنع أعداء الإسلام، بل كان أحد أسبابها الرّئيسة احتكار ابن تيمية واختزاله فقط فيما يخدم أفكار السلفيّة
والحقّ يقال: إنّ الاتّجاه التجديديّ لابن تيمية كان ينحو نحوَ التيسير لا التشديد، فاجتهاداته نموذجٌ تشريعيّ للاجتهاد الخلاّق المبدعِ للحلول الميسّرة لمعضلات اجتماعيّة واقتصاديّة أوجدتها الاجتهادات الفقهيّة، ابتداءً من زمانه وصولاً إلى زماننا هذا.
ففي المعاملات الماليّة كان ابن تيمية علامةً فارقةً في التجديد الشرعيّ، مما جعل البنوك الإسلاميّة اليوم تعتمد في معاملاتها المصرفيّة بالدّرجة الأولى على أقواله واجتهاداته، وإلاّ لكانت وقعت في عنتٍ شديدٍ وما استطاعت الخروج من الاجتهادات السابقة إلاّ بمعارك شرسة.
وفي الأحوال الشّخصيّة أحدث ابن تيمية ثورةً حقيقيّة في الأحكام الشرعيّة لا سيما فيما يتعلّق بأحكام الطّلاق، مخالفاً ما اتّفق عليه الأئمة الأربعة في كثير من الأحيان. وكلّفه ذلك حريّته فألقي به في السجن ستّة أشهر وقد جاوز السّتين من عمره، بسبب إصراره على إيقاع طلاق الثلاث طلقة واحدةً مخالفاً بذلك اتّفاق الأئمة الأربعة.
والنّظرة المقاصديّة تتجلّى في غالب اجتهاداته التي تفرّد بها وخالف أساطين الفقه والعلم الشّرعيّ من قبله، وكانت النّظرة المقاصديّة صبغةً يصطبغ بها تفكيره وتلازمه في علومه ومواقفه الحياتيّة، ومن طرائف ما يدلّ على عمق هذه الصبغة وامتزاجها بفكره وتفكيره ما رواه ابن القيّم:
“وسمعت شيخ الإسلام ابنَ تيمية قدس الله روحه ونوَّر ضريحه يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التّتار بقومٍ منهم يشربون الخمر، فأنكرَ عليهم من كان معي، فأنكرت عليه. وقلت له: إنَّما حرَّم الله الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصّلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمرُ عن قتل النّفوس وسبي الذريّة وأخذ الأموال فدعهم”.
الرّوح الصّوفيّة
كثيرون ممّن يسمعون بابن تيمية ولا يعرفونه يتخيّلونه رجلاً متحجّر القلب، قاسي الطّبع، غليظ الكبد، وذلك لما ألفوه من ارتباط اسمه بالتّكفيرِ، وهذا ممّا جنته عليه السّلفيّة الجهاديّة التي تمتطي أقوالاً مجتزأةً لابن تيمية تسويغاً لدمويّتها المفرطة.
النّزعة الصّوفيّة كانت ظاهرةً في حياة ابن تيمية وفي كتاباته ومؤلّفاته، لكن حجَبَها عن أعين النّاس تصنيفهم له ونظرهم إليه بأعين محتكريه من السلفيّة ودخولهم عليه من بوابتها الحصريّة
لم يكن ابن تيمية عدوّاً للصّوفيّة كما هو متعارفٌ؛ بل إنّ النّزعة الصّوفيّة كانت ظاهرةً في حياة ابن تيمية وفي كتاباته ومؤلّفاته، لكن حجَبَها عن أعين النّاس تصنيفهم له ونظرهم إليه بأعين محتكريه من السلفيّة ودخولهم عليه من بوابتها الحصريّة.
وما كان عداؤه لبعض طرق الصّوفيّة في زمانه إلاّ عداءً محكوماً بالظّرفيّة السياسيّة؛ التي دفعت عدداً من هذه الطرق إلى موالاة التّتار أو رفض مجابهتهم على أقلّ تقدير.
ولعلّ الكثيرين لا يعلمون أنّ أحد مؤلّفات ابن تيمية هو شرح كتاب “فتوح الغيب” للإمام الصّوفيّ عبد القادر الجيلاني، والذي كان ابن تيمية يلقّبه بـ”قطب العارفين”.
وانظر إلى هذه العبارة التي يسوقها ابن تيمية عن “قطب العارفين” والتي فيها ما فيها من معاني التصّوف من جهةٍ، وتشير إلى صلةٍ مباشرةٍ له ولأسرته مع المحيط الصّوفيّ من جهةٍ أخرى:
“حدّثني أبي عن محيي الدّين النحاس وأظنّني سمعتها منه، أنه رأى الشّيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخباراً عن الحق تعالى: “من جاءنا تلقّيناه”.
وانظر إلى ما يقوله ابن تيمية في حقيقة الصوفيّ لتعلم بطلان فكرة عدائه للصّوفيّة:
ابن تيمية الذي يهاجمه صنفان؛ صنفٌ جهلَ حقيقته فلم يطّلع منه إلاّ على ما رآه عبر بوّابة السلفيّة المعاصرة وفتاوى السلفيّة الجهاديّة وعاداه لمعاداته ومخاصمته للسلفيّة، وصنفٌ أعماه الهوى بعد أن علِم، وانساق مع رغبات نفسه وهواها، أو امتثل لرغباتِ سلطات القهر التي تبغض ابن تيمية
“هو – أي الصّوفي – في الحقيقة نوع من الصدّيقين فهو الصدّيق الذي اختصّ بالزّهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصدّيق من أهل هذه الطريق كما يقال: صدّيقو العلماء وصديّقو الأمراء، فهو أخصّ من الصدّيق المطلق ودون الصدّيق الكامل الصدّيقيّة من الصّحابة والتابعين وتابعيهم”.
وكان يصرّح بجواز انتساب الإنسان إلى شيخ، كالقادري والعدوي ونحوهما، ويرى ذلك مثل انتساب النّاس إلى الأئمّة كالشّافعيّ والمالكيّ، وكان يسمّي القشيريّ “الأستاذ أبا القاسم” وينعت الجُنيد “سيّد الطّائفة”، فأين هذه الرّوح من الذين احتكروا ابن تيمية ودمغوه بتصنيفِهم؟!
هذا بعضٌ من ابن تيمية الذي يهاجمه صنفان؛ صنفٌ جهلَ حقيقته فلم يطّلع منه إلاّ على ما رآه عبر بوّابة السلفيّة المعاصرة وفتاوى السلفيّة الجهاديّة وعاداه لمعاداته ومخاصمته للسلفيّة، وصنفٌ أعماه الهوى بعد أن علِم، وانساق مع رغبات نفسه وهواها، أو امتثل لرغباتِ سلطات القهر التي تبغض ابن تيمية الذي أبى الخضوع لمستبدٍّ أو الرّكون لظالمٍ أو ممالأة محتلّ؛ فعاداه الجهلة وأهل الأهواء وسدنةُ الطّغيان.
المصدر: عربي21