مقالات

ابن باز والقرضاوي.. اختلاف حاصل وأدبٌ جمّ

بقلم د. أكرم كساب

من الأمور التي تؤرق ليل كل مخلص، وتدمي فؤاد كل مسلم، وتجري مدمع كل مؤمن، وتدني جبين كل عامل لدين الله، ما أصبح واقعاً ملموساً بين شباب الصحوة الإسلامية، وفصائل الحركة على الساحة الإسلامية اليوم –ومن زمن ير قريب- من رمي الغير بالفسق والبدعة والضلالة والكفر، حتى غدت كلمات التفسيق والتبديع والتضليل وربما أصبح التفكير ديدن نفر من العاملين في الحقل الإسلامي، هذا وقد نصب كل واحد منهم من نفسه حكماً على غيره، دون أن يعمل فكره ليميز المحكم من المتشابه والقطعي من الظني، والثابت من المتغير، والمتفق عليه من المختلف فيه، ولعل أحد أسباب هذه الظاهرة هو عدم تربية شباب الصحوة على فقه الاختلاف وإغفالهم للرأي الآخر، واعتراضهم على الرأي المخالف.

والمقصود بالخلاف هو الخلاف في الفروع لا في الأصول، في الجزئيات لا الكليات، في الظنيات لا القطعيات، في المتشابه لا المحكم، في غير المنصوص عليه لا المنصوص عليه. وما أحسن ما قاله الشاطبي: فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريضة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الكليات دون الجزئيات، فذلك لا يضر هذا الاختلاف.. (الاعتصام للشاطبي / ج 2 / ص 168 ).

وأحسب أن هذا الاختلاف لم يأت اعتباطا بل هو مقصود في الشريعة كما قال الزركشي: اعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قصدا للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه…. (البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 119)).

ويمكن القول بأن هذا الاختلاف الواقع قدراً والجائز شرعاً، متعدد الفوائد ومنها ما ذكره طه جابر العلواني:

  1. أن يتيح ـ إذا صدقت النوايا ـ التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.
  2. في الاختلاف رياضة الأذهان وتلاقي للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.
  3. تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين. (أدب الاختلاف في الإسلام / طه جابر العلواني).

ومما لا يخفى على كل عاقل أن الاختلاف فطرة مركوزة في نفوس البشر، كما أن سنة كونية، فضلا عن كونه سنة شرعية يقتضيها الشرع والعقل والواقع، وقد ضربت لنا السنة النبوية نماذج عديدة من اختلاف الصحابة في وجهات النظر واتخاذ القرارت، بل كان الاختلاف واقعا وحاصلا بين يديه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان ومن بعدهم الأئمة العظام ببعيدين عن هذا المنهج الذي يجمع ولا يفرق، ويقبل رأي الآخر ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. يقول الشاطبي: ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم (يتفرقوا) ولا صاروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من (اجتهاد الرأي)، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا، فيه نصا (واختلفت) في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين، لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم، وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد… وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح، وأخوة الإسلام فيما بينهم…. الاعتصام (3/ 168).

ولكني هنا أسوق نموذجا معاصر بين علمين كبيرين من أعلام هذه الأمة، كل واحد منهما يمثل رأس مدرسة فكرية، وبين المدرستين ما بينهما من الاختلاف، يراه المنصوفون أنه خلاف في الفروع لا الأصول، وفي الجزئيات لا الكليات، غير أن بعض المتحمسين ربما يراه في الأصول؛ بل في أصول الأصول، وما أصابوا في هذا.

أما العلمين فهما العلامة ابن باز رأس المدرسة السلفية في عصره رحمه الله، وأما الثاني فهو العلامة القرضاوي رأسة المدرسة الإخوانية أو ما يطلق عليه التيار الوسطي والمدرسة الوسطية، الإخوان وربما غيرهم..وإن كانت الوسطية لا يستطيع أحد أن يحصرها في فكره أو مدرسته فقط.

وأدب الاختلاف بين الشيخين يظهر جليا من خلال أمرين:

الأول: رسالة تلقاها الشيخ القرضاوي تتعلق بكتابه (الحلال والحرام)، وهي شهادة إنصاف من الشيخ ابن باز لم يكن له على هذا الكتاب الذي تجاوزت صفحاته (400) صفحة في بعض النسخ سوى ثمان مسائل فقط، ثم يأتي بعد ذلك من يقول هذا كتاب (ألحلال والحلال) بئس والله ما قالوا.

وأعود لأنقل نص رسالة الشيخ ابن باز، وقد اطلعت على نسخة وقع عليها الشيخ ابن باز بخاتمه، وذكر الشيخ القرضاوي ملخصها في الجزء الثالث من مذكراته فقال: ومما أذكره أني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، خلاصتها: أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي “الحلال والحرام في الإسلام”؛ لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة أن “تفسح” له، وكلمة “الفسح” غدت مصطلحاً معروفاً في المملكة يُقصد به الإذن بنشر الكتاب ودخوله في السعودية.

فلا غرو أن ذكر الشيخ ابن باز بأدب العالم الكبير، ورفق الداعية البصير أنه يريد أن يفسح للكتاب لما فيه من نفع للمسلمين لسلاسته وجمال أسلوبه، وأخذه بمنهج التيسير، ولكن المشايخ في المملكة خالفوه في ثماني مسائل. وسرد الشيخ -رحمه الله- هذه المسائل الثماني، ومنها: ما يتعلق بزي المرأة وعملها، وما يتعلق بالغناء والسماع، وما يتعلق بالتصوير، وما يتعلق بالتدخين وأني لم أحسم الرأي فيه بالتحريم، وما يتعلق بمودة غير المسلم…

وقال الشيخ (بن باز) رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى لو تراجع هذه المسائل لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين… (انتهت رسالة ابن باز).

ولأن الرسالة كانت رسالة محفوفة بأدب الاختلاف، فقد قابلها كذلك الشيخ القرضاوي بأدب يماثل أدبها، ورقي يشابه رقيها، كما أنها زينت بجوانب فقهية وأصولية جاء فيها: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافاً في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك شيئاً؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلّى بعضهم وراء بعض.

والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديماً، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف وألفوا فيها كتباً، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”.

ومن هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيداً، مثل موضوع التدخين؛ فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح، إنما وهم من وهم في ذلك؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين؛ فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعاً عن التحريم.

وأما مودة الكافر فأنا لا أبيح موادة كل كافر؛ فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له، وفيه جاء قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المجادلة: من الآية 22]. محادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة. وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) [المائدة: 5]، فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم: من الآية 21]، وهل يُحرّم على الابن أن يود أمّه الكتابية؟ أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟ وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى.

على كل حال أرجو من فضيلتكم ألاّ يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلاً دون الفسح للكتاب، وها هو الشيخ الألباني يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة.. فهل تمنعون كتبه؟

وقد فسح لكتاب الشيخ من وقتها وظلت وما تزال ملء العديد من المكتبات الخاصة والعامة.

الثاني: مسألة السلام مع اليهود: وقد اختلف الشيخ القرضاوي حفظه الله مع الشيخ ابن باز رحمه الله لكن الاختلاف بين الرجلين لم يخرج عن كونه خلافا في الرأي أو استنباط الدليل، غير أن واحدا منهما لم يتعد أحدهما أدب الاختلاف، واحترام العلماء، وكان ذلك إثر فتوى نشرتها الصحف لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حول السلام مع إسرائيل، وسوف أقتبس من رد الشيخ القرضاوي ما يؤيد ما نحن بصدده من إنصاف المخالف، أما أي الفتوايين أصلح فله موضوع آخر.

جاء في صدر كلام الشيخ القرضاوي في الرد على الشيخ ابن باز : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد من كبار علماء المسلمين المرموقين في هذا العصر وفتاواه معتبرة في الأوساط العلمية والدينية، وهو رجل يوثق بعلمه ودينه -نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى-…

ثم يعود فيقول: فتوى الشيخ ابن باز التي نشرت حول السلام مع إسرائيل يخالفه فيها الكثير من علماء المسلمين وأنا منهم على الرغم من مودتي وتقديري الكبير له، ولكن كما قال الحافظ الذهبي عن شيخه الإمام ابن تيمية : شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه.

وفي رد الشيخ القرضاوي على تعقيب ابن باز رد يقول : فقد اطلعت على ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ويؤسفني أن أخالف سماحته في تعقيبه كما خالفته في أصل الفتوى وليس في العلم كبير، والحق أحق أن يتبع.

ويختم الشيخ هذا الرد بقوله : هذا وإن خلافي مع الشيخ عبد العزيز لا ينفي ما أكنه له من ود واحترم… وإني لأرجو من الشيخ أن يمعن النظر فيما أوردت من أدلة واعتبارات، عسى أن يراجع رأيه، فهو ـ فيما علمت ـ رجاع إلى الحق. (فتاوى معاصرة / ج3 / ص 478 وما بعدها).

وأخيرا فإننا جميعا –طلبة العلم- بحاجة إلى ممارسة ادب الاختلاف، والخروج من عالم التنظير إلى عالم التنزيل، ومن الخطب والحاضرات والندوات والملتقيات إلى عالم الأنفس والأشخاص، فلا يحمل بعضنا على بعض لمسألة وقع الاختلاف فيها ولن نستطيع رفعه، لاحتمال الاختلاف فيها، وتعدد الأدلة والفهوم والاستنباط. وها هو ابن تيمية يصيح فينا قائلا: وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة. (مجموع الفتاوى / ج 24 / ص 161)..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى