مقالاتمقالات مختارة

إِضَاءَاتٌ مَنْهَجِيَّةً فِي قَضَايَا مُلِحَّةٍ (ح4).. تَصَرُّفَاتُ العُلَمَاءِ بَيْنَ كِيَاسَةِ الأَثْبَاتِ وَحَمَاسَةِ الأَحْدَاثِ

بقلم نور الدين درواش (عفا الله عنه بمنه وكرمه)

تَصَرُّفَاتُ العُلَمَاءِ بَيْنَ كِيَاسَةِ الأَثْبَاتِ وَحَمَاسَةِ الأَحْدَاثِ (فِي تَصَرُّفَاتِ العُلَمَاءِ التِي قَدْ  يُظَنُّ أَنَّهَا خِلَافُ الحَقِّ)

يُخيل لكثير من الشباب المتحمس الثائر أن العالِمَ الراسخ في علمه والصادق في دعوته ورسالته ومواقفه؛ هو الذي يصدع بالحق مهما كلف الأمر، والحق ان العالم حق العالم هو من يراعي عند اجتهاده مآلات الأفعال وما يترتب عليها من مصالح تستجلب، أو مفاسد تدرأ ثم يبني أحكامه بحسب ذلك إقداما أو إحجاما.

ومعلوم أن العالم في كلامه أو سكوته يحرص على ما انْبَنَتْ عليه الشريعة؛ من السعي لتحصيل الخير و تكثيره، ودرء الشر وتقليله،

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما تترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره” [الجواب الصحيح(6/17)].

بل إنها تأمر عند تزاحم المفسدتين بدفع المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، وعند تزاحم المصلحتين بإهمال الدنيا رجاء تحصيل الكبرى.

قال رحمه الله في موضع آخر: “إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما” [مجموع الفتاوى(20/48)].

ومناط ذلك القدرة والإمكان، فلا تكليف يعلو على الوُسعِ وفوق طاقتك لا تلام، قال أيضا رحمه الله تعالى: “والرسل صلوات الله عليهم بعثوا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان” [مجموعة الرسائل والمسائل(5/23)].

فالعالم أيا كان موقعه قربا أو بعدا من السلطان، ينطلق من هذه القواعد العظيمة للشرع ويصدر عنها في تصرفاته، وإن أوذي في خاصة نفسه سواء من قبل العامة، أو من قبل الحكام، وفاقد العلم لا يُجَاوز نَظَرُهُ أرنبة أنفه، ولا يهمه إلا إشباع رغبته العاطفية ونفسيته الحماسية وإن هلك الناس بتصرفه الأرعن البعيد عن الشرع والمفتقر للروية والتعقل وبُعد النظر.

والعالم قد يفعل أو يتكلم بما هو في الأصل -عند فقدان موجب  ذلك القول أو الفعل- باطل، لكن يكون  موقفه محمودا ومرضيا باعتبار ما يدفع من الباطل أو الظلم أو الفساد الأعظم، أو باعتبار ما يُحَصِّل من المصالح التي  لا يراها العاطفيون الحماسيون المندفعون؛ ويمثل شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله-  لذلك فيقول: “فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا، فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا” [مجموع الفتاوى (20/55)].

فالناظر لفعل هذا المتوسط في ذاته يراه ظلما وجورا وربما حكم على صاحبه بأبشع الأحكام، فجَرحَه باللسان وأسقطه من الحُسبان ونفر منه الأنام، لكن الخبير بالواقع  يعذره ويحمد صنيعه لأنه في الحقيقة ما توسط في الظلم وإنما توسط في دفع شطره.

قال العلامة الشوكاني: “ومع هذا فالمتصل بهم [أي السلاطين] من أهل المناصب الدينية، قد يغضي [أي: يغص الطرف] في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات، لا لرضًا به، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع”.

فتأمل أخي حفظك الله في هذا التأصيل العظيم من  هذا العالم الرباني الإمام، ولا يستخفنك الأحداث الصغار الذي ما شموا رائحة العلم ولا تربعوا في مجالس أهله، فإنهم مع صدقهم وصلاح نواياهم، وعواطفهم الجياشة للأمة الإسلامية وقضاياها لا يحسنون التقدير ولا التقرير ولا التصرف.

ثم ضرب الإمام الشوكاني لذلك مثلا فقال: “كما يُحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، على أن ذلك الرجل يُضْرَبُ بالعصا على شريطة اشترطها السلطان، وهو أن يكون الذي يضربه ذلك العالم، فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون في مثل ذلك للفرجة، فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غيرُ مَلُومِين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك؟ ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا، عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضي عنه” [رفع الاساطين، ضمن الفتح الرباني(9/4681)].

فيا لله كم عالم سني صادق شاب في التوحيد والسنة؛ أسيئ به الظن في ما هو دون هذا بآلاف الدرجات، فانتُهك عرضه وأُكل لحمه من قِبَل صغار الشباب الذين أعماهم الحماس والاندفاع فقدموا لأعداء الأمة أعظم خدمة وهي إسقاط أئمة الإسلام الراسخين في العلم، المرابطين في مديان العلم والتعليم والدعوة.

فمن للعلم وقد أسقطتم أئمته؟

ومن للدعوة إلى الله وقد سودتم أمام العالم وجوه فرسانها؟

ومن لشباب الأمة وقد نحيتم مراجعهم وقدوراتهم؟

ومن للأمة وقد طعنتم ملاذها الوحيد للهداية بعد الله عز وجل؟؟

ثم قال رحمه الله بعدما ساق أمثلة أخرى: “إذا عرفت هذا، وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة، في بعض الحالات، وكذلك الأحوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر، ويتبين أنها من أعظم الطاعات، وأحسن الحسنات، فكيف ما كان منها محتملاً؟ هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار، ويقتحم عقبة المُحَرَّم من الغيبة أو البهت وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكرًا، وكون ما أمر به معروفًا؟ وهل هذا إلا الجهل الصراح، أو التجاهل البواح؟” [المصدر نفسه:(9/4683)].

والذي يرجع للسيرة النبوية يجد من دلائل هذا التأصيل الشيء الكثير، ومن أوضح الأمثلة على ذلك تصرفه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وتنازلاته التي لم يستسغها كثير من الصحابة، والتي لو صدرت من غيره مع  كمال يقينهم فيه صلى الله عليه وسلم لظنوا به ظن السوء، وقد عد الإمام ابن القيم من فوائدها:” أَنَّ مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَدَفْعِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، فَفِيهِ دَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.” [الزاد(3/272)].

ومن جميل القصص التي قصها علينا كتاب الله عز وجل والتي تصلح شاهدا للموازنة بين المصالح والمفاسد ليس فقط في الأمر والنهي، بل في تولي الولايات والمناصب؛ قصةُ سيدنا يوسف عليه السلام.

قال شيخ الإسلام: “ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب. أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به} الآية وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم”20/56-57.

إن قُصارى ما قد يجده الطاعنون في أهل العلم هو موقف(سلبي الظاهر) أو اثنان، أو فتوى (جائرة  الصورة) أو اثنتان، أو تحذير من فضيلة لا تُدرى ملابساته، أو تنفير من طائفة لا تُدرك دوافعه ودواعيه وأسبابه… و”لعل العلماء الذين ترى سكوتهم تنازلا –وربما رأيته كتمانا وخيانة– أبعد نظرا منك وأعرف بالمصالح والمفاسد، وأعرف بالقواعد والأصول، وما يترتب على المواقف والتصرفات”[منهج السلف الصالح، للحلبي، ص:283].

فنسأل الله الفقه في الدين والبصيرة في سلوك سبيل المؤمنين ومن لم يصل لهذا الإدراك أو لم يره حقا ولا صوابا فلا أقل من أن يصمت عملا بوصية الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو لِيَصْمُت” [متفق عليه].

وحتى لا يُتخذ هذا الأصل العظيم؛ وهو بناء الأحكام مع رعاية المصالح والمفاسد؛ ذريعة  للتسيب في الفتاوى والشذوذ في المواقف، أنبه إلى أن إعمال هذه القواعد ليس لكل أحد وإنما هو  للعلماء الذين عرفوا بالرسوخ العلمي، والخشية والتقوى، مع سلامة الأصول وصحة منهج الاستدلال.  والمصلحةُ المعتبرة  هي ما كان منظورها  الشرع لا ما يعارضه من ذوق أو هوى أو عاطفة أو ما شابه…

والله ولي التوفيق.

(المصدر: هوية بريس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى