مقالاتمقالات المنتدى

إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري | الجزء الرابع

إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري | الجزء الرابع

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

مقدمة

تحتاج الأمة، اليوم، إلى إعادة بناء مفاهيمها القادرة على ضبط مسار الحياة للفرد والجماعة المسلمة, وحفظ العلاقات التراحمية والأصول القيمية التي تأسس عليها بنيان مجتمعها, والتي تمكنها من الشهود الحضاري في زمن العولمة السائلة، والانتقال بهذه المفاهيم بعد تجديدها لتتحول من  معارف نظرية لدى النخب إلى ممارسات منتجة في واقع كل أبناء الأمة تسهم في النهوض بواقعنا الراهن وما يطرحه من مشكلات ومعضلات.

وإذا كان من غير الممكن لأي مجتمع بشري، أن يحقق شهوده الحضاري، أو يستمر فيه، إلا إذا قام على مفاهيم واضحة، تحدد مقاصده الكبرى وترسم خطاه المرحلية وتضبط وسائله العملية، وتحدد أدواره ووظائفه في الحياة. فإن مجتمعنا الإسلامي ليس استثناء من ذلك الشرط.

ومن ثم، فنحن، إن شئنا اليوم، أن نجدد مجتمعنا المعاصر ليستقيم على هدى النموذج الأول في فهمه وتطبيقه للشهود الحضاري، وينغرس في عصره ويحقق مقاصد وجوده في زمانه، فلابد أولاً أن نقيم بناء هذا المجتمع ونبني مداميكه ونؤسس قواعده على نفس الأسس المتينة التي بني عليها مجتمعنا الإسلامي الأول مفهوم الشهود الحضاري.

لذا، يحاول في هذا المبحث وضع تصور نظري وعملي لإعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري، وتجديده وإخراجاً قرآنياً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين واقتراح آليات تشغيله في واقعنا، مستعينا بالتراكم العلمي الذي استفدناه من محاولة الغزالي وعلماؤنا المعاصرين، وصلاً بين الواقع والتراث في زماننا لتحقيق نهضتنا الأصيلة.

1- لماذا إعادة بناء المفهوم ؟

ا-أثبتت تجربة الأمة خلال القرنين الماضيين، أن مشكلة مجتمعاتنا العربية، ليست الاستبداد والفساد فقط, لكنها مشكلة بنيوية حضارية، تتعلق بفقدان الشروط اللازمة للانطلاق الحضاري الآمن نحو المستقبل. ولهذا يحتاج النهوض من جديد، إلي تقييم لواقع المسلمين الراهن, وتحديد منطلقات الرؤية الفكرية والسياسية التي ستقود الأمة في الحالية، والمستقبل القريب والبعيد علي حد سواء, وتجديد المفاهيم وتنزيلها واقعاً يحس به كل انسان مسلم حتى يتحقق بشهوده الحضاري. وفي مقدمة تلك المفاهيم، مفهوم الشهود الحضاري.

ب- ثبت، يقيناً، أن السبب الرئيس لمشاكلنا في الماضي والحاضر، هو عدم مشاركة كل انسان مسلم، في: صنع، وتنفيذ، وتقييم سياسات الأمة؛ سواء علي المستوي الأمة أو المحلي، على الوجه الصحيح، وبالوعي المنتج لرشادة القرارات المتخذة. وثبت، يقيناً، أيضاً، أن الفشل سيظل هو الثمرة الوحيدة، لأي محاولة للإصلاح وعبور فجوة التخلف التي وقعنا فيها ما لم يؤمن الإنسان المسلم بدوره الحقيقي ورسالته في هذه الحياة، والمتمثلة في مفهوم الشهود الحضاري.

وقد رسخ، في اعتقادنا، أن الفشل الذي منيت به الأجيال السابقة من المسلمين، في تحقيق النهضة حتى اليوم، يعود بالأساس، لغفلة وإهمال تلك الأجيال، عن بناء مفهوم الشهود الحضاري في نفوس وعقول أجيال المسلمين المتتالية منذ تراجع بانتهاء عهد الراشدين-إلا قليلا من الفترات التحقق القليلة- في تاريخنا الطويل.

ج- بناء المفهوم، سيسهم في إعادة بناء وحدة الأمة من جديد، ذلك أن اجتماع هذه الأمة شرط من شروط الشهود الحضاري وثمرة من ثمار غرسه في نفوس وعقول وقلوب أبنائها. فالوحدة واجب أمر الله به تعالى والفرقة طارئة فهي عرض وليست أصلاً. ومن ثم يكون ترسخ المفهوم في عقول وقلوب أبناء الأمة من الفرق المختلفة مدخلاً متينا لإعادة بناء وحدتنا من جديد. وإلى الاعتصام بحبل الله جميعاً “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”[1] ، “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون”[2]

د-هناك الكثير من الآثار الفكرية والسلوكية التي حدثت بتأثير غياب مفهوم الشهود الحضاري عن عقل الأمة ونفسيتها. فمثلا، نجد أن “الفردية” و”الاستعداد لقبول الاستبداد” و”قلة الاهتمام بالعالم من حولنا”  وافتقاد بعدي العالمية والبشرية لدى الإنسان المسلم. واستدعاء المفهوم سوف يسهم في تدارك تلك الآثار السلبية.

ه-كما أن عولمة الدنيا القائمة على الليبرالية المتوحشة ، تحتم على المسلمين للتحقق بشهادتهم على العالمين بتبليغ قيم الإسلام لهم، وحضورهم شاهدين لبناء جديد عادل للنظام العالمي.

 

 

 

 

2-لماذا مفهوم الشهود الحضاري تحديداً؟

ما الذي يدعونا لاستخدام الشهود الحضاري بدلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما فعل الغزالي، أو العمران الحضاري كما فعل طه جابر العلواني وغيرهم.

هناك أسباب متنوعة لاستخدام الشهود الحضاري تدعونا لذلك من أهمها:

ا-وضع عملية التجديد الشامل للأمة على أسس البناء الأولى في العهد النبوي واستخدامات القرآن له.

ب- قدرة المفهوم على تجاوز النظريات المسكوكة، أو تلك التي استنفذت قدرها الاحتياطي على البقاء المنتج، وشموليته في احتواء الفكرة الإسلامية .

ج- قدرته على الإسهام المعرفي الحاسم في تشييد نظريات جديدة في المجال الإسلامي والعالمي.

د-تأسيس فقه شمولي بتكوينية مفاهيمه القرآنية وتشييد فهم قرآني للعالم، بعيداً عن فهم الجمود أو التغريب اللذين غيبا المفهوم تماماً في واقعنا.

ه-وصل الأمة بتراثها القرآني بشكل جديد، فمفهوم الشهود الحضاري ينتمي للتراث بمعناه الشامل القرآني والتاريخي. وإعادة استخدامه، سيفتح أمام الاستفادة من التراث بشكل مبتكر واكتشاف كنوزه وتطويرها لتناسب زماننا. وأن نرى التراث الإسلامي بنظرة جديدة منصفة وكيف اجتهد سلفنا الصالح في التنظير لواقعهم وابتكار التطبيقات النافعة له، فننسج على منوالهم بما يناسب زماننا.

و-كما يمكننا هذا المفهوم من إعادة كتابة تاريخ الصحب الكرام والمبرزين من عظماء تاريخنا الذين تحققوا بالمفهوم في مختلف المجالات العلمية والعملية بطرق جديدة تكشف عن تمثلهم للمفهوم وإن لم يستخدموا لفظه ، حتى يقبل شبابنا على تاريخهم ويقرأوه بعيون جديدة وبرؤى جديدة، تعيد له حياته وتجعله مكوناً رئيسياً من مكونات شخصياتهم، ونبراساً هادياً لهم في خطوات حياتهم.

3-إجراءات إعادة تجديد وبناء المفهوم في زماننا

تفترض عملية بناء مفهوم “الشهود الحضاري” منا القيام بمجموعة من الإجراءات.

ا-سيرة المفهوم تاريخيا وتطوراً ومآلاً.

وهو ما قمنا به في الفصلين الأولين وخلاصته: البحث عن دلالات المفهوم في بداياته، ومن ثم الوصول الى تجريد للمفهوم يعبر عن حقيقته وجوهره ، بعيداً عن التباسه بخبرات أو دلالات لحقت به في تطوره. وتتبع تطور المفهوم في بيئته الأصلية القرآنية ، وكيف تم سحبه من معانيه القرآنية الى معان ضيقة.

وبعد أن كان مفهوم الشهود الحضاري، حاضراً بقوة كقاعدة معرفية واعتقادية رفعت الإنسان المسلم إلى سماء التطبيق المثالي لمعاني الإسلام المتمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل الأمة وبلاغ الرسالة وتحقيق العدل والإحسان بين أبناء آدم شهوداً على العالمين. عدت عليه عوادي الزمن وتفريط الجماعة المسلمة الناتج عن تفرقها وتشرذمها وتشوش مفاهيمها، فغاب أو تم تغييبه بفعل هذه العوامل مجتمعة. وقد حاول الإمام الغزالي إعادة النظر في المفهوم وتجديده من خلال كتابه إحياء علوم الدين ونجح جزئياً في استرداد المفهوم لكن المحاولة لم تكتمل لأسباب بسطناها في مكانها في الفصل الثاني. ثم عاود مفكرونا التعامل مع المفهوم في عصرنا ومحاولة تأصيله كما بيناه، وأوضحوا ضرورة تطويره وترويجه بين أبناء الأمة.

ب-الرجوع إلى جذور المفهوم في اللغة

الشاهد في اللغة، هو الحاضر في مكان محدد، ويشهد حدثاً معايناً ثم يبينه بالإخبار عنه ويثبته بالقول. فالشاهد إذن هو محل الدقة والعدل ونقطة تحول الواقع المرئي الملاحظ إلى فعل لغوي ينقل الحقيقة ويسجلها في تحقيق علني وقانوني. وهو ما يكسب الشاهد وضعا مميزاً على مستوى البشرية وعلى مستوى المجتمع[3].وهو مفهوم، يتفق تماماً مع مفهوم الشهود الحضاري.

ج- إعادة بناء المفهوم من مصادره

– القرآن المجيد

محاول إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري، محاولة عمادها التأمل في القرآن والسيرة النبوية الشريفة وسيرة عصر الراشدين ومن تبعهم بإحسان من أجيال الأمة من السابقين، حيث تكتنز تلك المصادر الكثير من الإمكانات التنظيرية والتأصيلية لاستشراف ملامح رؤية جديدة للمفهوم تستحضر كافة عناصر الواقع المحلي والعالمي وتجتهد للوصول إلى القواعد والآليات التي كانت وراء تطبيق المفهوم على الحياة اليومية للرسول الكريم-عليه الصلاة والسلام وصحابته، وأن نستلهم من ذلك رؤية متكاملة تسهم في إعادة بناء المفهوم وتجديده وتشغيله ليتناسب مع ظروف زماننا.

فالقرآن المجيد، يعطينا منظومة مقاصدية كاملة يستند إليها المفهوم في مسيرته باتجاه الغائية والقيم التي يهدف الشهود الحضاري لتحقيقها, والتي تتمثل في تحقيق غاية الحق تعالى من الخلق. فالقرآن الكريم، يشتمل على النظرية العامة ويضع الخطوط العامة الشاملة لمجالات الحياة, ويبين للناس الرؤية الكلية الحاضنة لمسألة “الشهود الحضاري” وما يتصل بها من شروط. وهو، من خلال قيمه وعقيدته التوحيدية وأحكامه وتكليفاته يتجه بالأساس لتحقيق مفهوم الشهود الحضاري لدى الفرد والأمة المسلمة.

– الرسول

الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال صورته وحياته التي سجلها تاريخنا الإسلامي في سيرته وسنته الصحيحة، هو المصدر الثاني لبناء مفهوم الشهود الحضاري. فهو ترجمة عملية للهدى القرآني في بناء المفهوم، من خلال سلوكيات إنسانية مضمنة في المواقف التاريخية بأبعادها المكانية والبشرية المحددة.

-التاريخ الإسلامي

ويعد استحضار التجربة النبوية ومؤسساتها في إخراج جيل الصحابة، والجوانب الإيجابية في تجارب الراشدين الأربعة، ومن تلاهم من الحكام العدول في تاريخنا، جزءاً لا يتجزأ من عملية بناء مفهوم الشهود الحضاري. فهذا المصدر الخصب المليء بالنماذج الواقعية للمفهوم، يعلمنا كيفية إخراج هذه الأجيال وتنشئتها على المفهوم، ومن خلال المزج بين هذا المصدر والمصدريين الرئيسيين، يمكننا أن نستخرج نموذجاً تشغيلياً للمفهوم في زماننا.

د-منظومة المفاهيم المرتبطة بالمفهوم

مفهوم “الشهود الحضاري”، مفهوم عابر للحقول، ينتمي إلى الدين بمعناه الشامل كرؤية للحياة لا جانب واحد منها فقط. وهو ما يجعله مرتبطاً بمفاهيم كثيرة، لا بد من التعامل معها وتشبيكها به في سعينا لبناء وعي الإنسان المسلم من خلال هذا التشبيك. ومن أهم هذه المفاهيم:

مفهوم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي التوحيد، وكيف ارتبط بها ونبع عنها مفهوما: الميثاق، والعهد، اللذين عاهد الله من خلالهم الإنسان على الحفاظ على التوحيد خلال مسيرته على الأرض. وكيف ترتبط هذه المفاهيم الثلاث بمفهوم الاستخلاف الذي يمثل نتاجاً طبيعيا لهاً، ولا يتحقق إلا بتحقق الإنسان بهذه المفاهيم وحفاظه عليها في معتقده وممارسته العملية. وهنا، تدخل مفاهيم: الأمة، والإخراج، والخيرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعالمية، والعالمين، والرحم الإنسانية، والتعارف، والخاتمية، والظهور للدين الإسلامي وللجماعة المسلمة، وأن تحقيق المفاهيم السابقة هو شرط تحقق أمة الإسلام بالخيرية والإخراج للعالمين.

ومن خلال تطبيق مفهوم الشهود الحضاري، في شموليته الحاضنة لكل المفاهيم السابقة في الداخل أي داخل الأمة الإسلامية. وفي الخارج، عبر الدعوة للإسلام الدين والنظام العادل على المستوى الإنساني. وربط هذا المفهوم بهذه المفاهيم السابقة بطريقة إبداعية، يدركها عقل الإنسان المسلم في مرحلة نضوجه وعطائه-وخصوصاً نفر الشهود الحضاري-، حتى يتحقق الإسلام كرحمة الله للعالمين، بما هو فعل انقياد وتسليم لله، نابع من القلب، ينتج إيماناً وإحساناً وحباً لكل مخلوقات الله ورحمة بها.

ه- التعريف الإجرائي للمفهوم

نحاول هنا تعريف المفهوم إجرائياً حتى نتمكن من ضبطه وتحويله إلى آليات عمل تسهم في تشغيله في واقعنا.

نعني بالشهود الحضاري: الرؤية الكلية للكون: إلهه وإنسانه وأشيائه المستمدة من القرآن والسنة الصحيحة الثابتة وتطبيقات عصر الراشدين التي أسهمت في بناء حضارة الإسلام وتقديمه نظاماً اجتماعياً بنى أمة ومهد لنظام عالمي يقوم على العدل والإحسان والكرامة والمساواة بين أبناء آدم. وهو عملية يتمكن المسلم الملم بمكوناتها والوعي بجوانبها من الحضور في عالمه الاجتماعي الإسلامي، فاعلاً أصيلاً في نموه وارتقائه والمحافظة عليه من عوادي الجمود أو التحريف والغلو. والحضور في عالمه الإنساني الفسيح، يخبر عنه خبراً صحيحاً ويخبره خبر السماء الصحيح عن التوحيد ويدل الناس على الخير ويصنع نظاماً إنسانياً يتمتع بالعدل والإحسان ومظلة الأمان لكل أبناء آدم.

 

ثانياً: تشغيل المفهوم

صارت المفاهيم تُبنى على الأرض، ولم تعد تُبنى فقط في الكتابات البحثية والعلمية، فالكتابات البحثية والعلمية توظف لخدمة الواقع وتطويره وتحسينه في عالمنا، وهو ما كان عليه الأمر في بواكير الإسلام وهو ما جعل المفاهيم وتطبيقها يجتمعان معاً دونما فرقة في الرسول والذين آمنوا معه من المؤمنين الذين أخرجهم الله للناس خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ورسوله ويبلغون رسالاته. وهنا تصير القضية الأساسية هي: إجرائية المفهوم على الأرض في زماننا تحتاج إلى جهود متكاملة وخطوات محسوبة حتى يصبح المفهوم واقعاً

لذلك، فإن بناء قاعدة النهوض والشهود الحضاري، وبناء الإنسان المسلم: سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، ليكون نواة المجتمع الجديد، هو الطريق نحو شهود حضاري للأمة، وهو الجسر الآمن، الذي تعبر عليه أية محاولة لجعل عالمية الإسلام وخيرية الأمة واقعا، وأي محاولة لبناء أمتنا من جديد لتتأهل لهذا الدور وتقيم تلك الوظيفة.

وتقترح الدراسة الخطوات التالية لعملية تشغيل المفهوم في واقع الأمة،

1- مأسسة المفهوم: تجهيز حاملات الشهود(مؤسسات الشهود الحضاري)

تحتاج المفاهيم إلى مؤسسات تحملها حتى تتحقق واقعاً في حياة الناس. مؤسسات، تضطلع بتحديد وظائف المفهوم وتداعياته وتنبه إلى أهمية المفهوم وقيمته وتخاطب المؤسسات المعنية العلمية والمدنية والتنفيذية في الأمة، وتنظم الجهد الجماعي لخدمة المفهوم، وهي نوعان:

  • المؤسسات التي ستقوم بتحقيق المفهوم واقعاً، كل واحدة منها حسب دورها المرسوم لها وطاقاتها المتاحة لها، بحيث تتكامل جميعها وتتعاضد لتخرج لنا إنسان وأمة الشهود الحضاري كمخرجات نهائية لها. تنضوي تحته مجموعة مؤسسات داخل كل قطر إسلامي على أن تكون لكل فرع من فروع بناء الشهود الحضاري مؤسسة جامعة تتفرع منها المؤسسات القطرية حتى يتحقق التنسيق الحضاري ويتوحد المنهج فيخرج المنتج كما نريد. تهيئة ما يُستَبدَل به القعود الحضاري بالشهود الحضاري من مناهج وأدوات وبرامج.
  • المؤسسات التي تضطلع بدور الترويج ونشر المفهوم بين أبناء الأمة وفي العالمين.

أولا: المؤسسات التي تحمل المفهوم

تقوم بتوفير مناهج وأدوات لتهيئة الأمة لتقبل المفهوم تجهيز المحتوى(معنى ومغزى الشهود الحضاري. وحتى تحقق المناهج ذلك لا بد لها من التدرج مع الإنسان المسلم في مراحل حياته ونشأته على مراحل ثلاث، تضع لكل مرحلة منهجها الملائم لها، كالتالي:

نشر مفهوم الشهود الحضاري بين المسلمين يجب أن تأخذ قضية المناهج أهميتها وأولويتها عند الشروع في إعادة بناء المفهوم على أرض الواقع. فالمناهج المستمدة من القرآن والسن وتاريخنا وتاريخ الخبرات التاريخية المعاصرة لنا هي المنوط بها ترقية الأمَّة في الإدراك والإحساس بالمفهوم تبنيه في ممارسة حياتها اليومية.

وهي التي تنبه حسّ الأمَّة بآلام غيابه ، ومن ثم تلزمنا وتحملنا على البحث في كيفيات تحقيقه في ذواتنا ومجتمعاتنا وعالمنا. وهي القادرة-إن كانت على قدر التحدي-، في شغل أفكار كلِّ طبقاتها، حتى تنضج تماماً في فهمها وهضمها وتمثلها للمفهوم، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال شرف الشهود الحضاري في كل طبقاتها كما حدث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وهي تتنوع بحسب المراحل العمرية والعقلية التي تخاطبها، كالتالي:

1-مؤسسات مؤسسات تعامل مع مرحلة اكتشاف الذات

ونقصد بها مرحلة الطفولة العمرية والعقلية، فهي تشمل مخاطبة الأطفال والنشء قبل مرحلة الشباب، بالإضافة إلى ملايين المسلمين الذين ضاعوا بسبب الفقر والجهل من الأميين ومتوسطي الثقافة من النساء والرجال الذين ظلمتهم ظروف الأمة الحالية.

والنظرية القرآنية تخاطب الطفل والعوام، بخطاب سهل بسيط ويدخل القلب والحس بسهولة كبيرة نتيجة تيسيره للذكر. فالقرآن يمتلك خطاباً يتدرج مع هذه الفئة حتى يترقى في مراحل النمو الفكري نحو التمييز فالتكليف فالشهود.

وكان للنبي،-عليه الصلاة و السلام- شأن عظيم في معاملة الأطفال والعوام من أهل البادية على وجه حولهم إلى نماذج قدوة خلال فترة حياته المباركة عليه الصلاة والسلام، فأرسى-صلى اله عليه وسلم- قيماً حاكمة ومقاصد حافظة وأحكاماً فاصلة, وطرائق حياة مع الصغار والعامة ولهم وبهم. وقد أرسى عصر الراشدين، مؤسسات ناسبت عصرهم للتعامل مع هذه الفئة إعدادها أفضل إعداد.

واليم، فإن المؤسسات المقترحة للتعامل مع هذه الفئة، عليها أن تنسج على هذا المنوال، لتخرج هذه الفئة على أفضل صورة لمفهوم الشهود الحضاري بما يتناسب مع وعيها واستيعابها، فالبناء الفكري للأمة على مفهم الشهود الحضاري لا يجوز أنْ يكون مقصوراً على الخواصأو السباب والراشدين فقط، بل لا بدَّ من تعميمه وعلى حساب الإمكان ليكون في متناول الأطفال وعامة الأم سوادها الأعظم الذين يمثلون الرأي العام.

ويمكننا هنا أن نقترح:

1-كتب ومطويات وأفلام ومسلسلات وغيرها من التطبيقات المستحدثة والتي تجذب هذه الفئة من أجل تلقينهم ما يلزمهم في مرحلتهم تلك من معاني الشهود الحضاري في الإسلام

2-تطوير مجالس القرآن وللسيرة وحياة الصحابة ورجال الإسلام الذين تحققوا بمفهوم الشهود الحضاري تعليم العقيدة من خلال الفطرة والتاريخ في القرآن.

وهذه المناهج تتاح للمدارس المدارس الخاصة والحكومية الابتدائية والثانوية وتوفر لعامة أبناء الأمة بوسائل التواصل الحديثة ومن خلال قنوات الإسلام اليومية في المسجد.

2-مرحلة مرحلة تحقيق الذات

وهي مرحلة الشباب والنضوج لبناء الوعي الشامل لكافة شباب الأمة، ووعيهم التام بقواعد وأسباب الحركة التاريخية. فيتحقق الوعي بالأبعاد العقيدية وأركان العقيدة وأصولها وعلاقاتها بأصول القوة، وقوانين الحركة التاريخية. والوعي بالعلم، والإيمان بأنه ركن لا يصلح شيء بدونه، وأن الأمة تكتسب من عناصر القوة ومصادرها بقدر ما تكتسب من العلم ويحتاج هذا كله إلى قاعدة معرفية واسعة تشمل: الأدب، والثقافة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والفن.

ومن أهم ملامح المناهج المقترحة لهذه المرحلة:

1-الإعلاء من شأن مصالح الجماعة على حساب المصالح الضيقة.

2-الشعور بآلام تراجع الأمَّة، والتعرف على أسبابه، واقتراح الحلول لذلك.

3-كما أن من أهم أدوار تلك المناهج مع الشباب، أن تقوم بعملية تنظيم هذا البحر الهائج من المعلومات، الذي انفتح على أمتنا، وانفتح عليه أبنائها من كل الأعمار، وعلى وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، والتي صارت تلازمهم في حلهم وترحالهم، عبر التليفونات المحمولة والتطبيقات الأخرى الأكثر حداثة، ليستفيدوا منها في ترقية أذواقهم، والانفتاح على النافع من ثقافة عصرهم، وإدراك ما غمض عليهم من تحولاته وتغيراته، وقراءة خرائطه، وفك طلاسم سياسات قواه الكبرى، التي تقاسمهم ثرواتهم ومقدراتهم وبلادهم، وتعين عدواً غاصباً يربض على أرضهم التي اغتصبها منهم.

4-الوعي بأهمية المال والدور الخطير الذي يؤديه في بناء أسباب القوة للأمم وتشييد قوتها. والوعي بخطورة كبائر تمكين أعداء الأمة من أموالها ومواردها.

5- يجب أن تحتوي هذه المناهج عبر آلياتها ووسائلها المتنوعة على رسم صورة المجملة، لكل شخصية أو جماعة مسلمة تحققت بالشهود الحضاري، من لحظة الإسلام حتى لحظة الممات عليه، هادفة إلى الإجابة على أسئلة كثير من شبابنا اليوم عن حياة هؤلاء، وكيف تغيرت بإسلامهم، وكيف غيروا الدنيا عندما تغيروا حتى وصل إلينا الإسلام، وكيف أسهموا كل حسب قدرته واجتهاده في بناء أمة الإسلام وحضارته وكيف يستفيد منهم كل شبابنا حسب قدراتهم ومؤهلاتهم ويقتدوا بهم لنصنع جيل النصر المنشود؟

6-كما يجب أن ترسم تلك المناهج، خريطة واضحة تعبر عن منظومة القيم الإسلامية التي آمنوا بها، وكيف تم ترسيخها بداخلهم، وكيف تحولت إلى ومؤسسات وتصرفات  تقاسموها وآمنوا بها، وكانت بمثابة الدليل الهادي لهم في كل المواقف والأزمات والتصرفات التي مرت بهم، وكيف نستعيدها لشباب اليوم مثل: العدالة، الحرية، المساواة، التكافل، الوطنية، الرحمة، والعفو، وغيرها.

7-أن تبين تلك المناهج، كيف استطاع هذا الجيل، تحويل كلمات القرآن المجيد، تلك الكلمات الجديدة التي علمتهم الكيفية التي يجب أن نعيش معاً في المجتمع، إلى ممارسات صارت جزءً من نظام الحياة اليومي لهم، وكيف خالط القرآن لحومهم ودماءهم، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت. فتكونت أمة مؤمنة، بعضهم أولياء بعض كالجسد الواحد، يكفل بعضهم بعضاً ويضيف كل منهم إلى رصيد أخيه، لتجتمع للأمة كامل القوة والمنعة والهيبة والشهود الحضاري.

5-وكيف يمكن لشبابنا أن يكونوا أمثالهم اليوم في تعامل جديد مع القرآن يستفيد من تطورات عصرنا وكيف نعرض مشكلاتنا عليه وكيف يكون جزءاً من تكويننا ونظام حياتنا، بل كيف ينظم لنا حياتنا اليوم؟ وكيف يبدأ كل شاب وفتاة ومن أين يبدأ ليكون على طريق النور الذي سار عليه الصحب الكرام، فخرجت لنا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.

6-أن تبين تلك المناهج، كيف يقرأ الشباب المسلم سيرة هؤلاء، اليوم، بعيداً عن التهويل والتهوين وبعيداً عن التقديس الذي يجعلهم فلتات لا تتكرر ثانية في واقعنا المعاصر، أو التدنيس الذي يراهم نماذج مشوهة. وكيف يستفيد شبابنا من سيرتهم لزماننا في حياتهم العملية اليومية، كل في مجال عمله ومجال تأثيره ومدى قدراته، وكيف ينوعون أدوارهم في الحياة مثلما نوع هؤلاء الصحب الكرام، ويكتشفوا قدراتهم وقابلياتهم ويديرونها ويستفيدوا منها في خدمة دينهم وعالمهم، بكل ما يستطيعون وفي جميع الظروف- مهما ضاقت- ليبنوا كما بنوا وينشئوا كما أنشأوا لنا. 7- أن تطرح هذه المناهج، مداخل جديدة لقراءة جديدة للقرآن المؤمن، تفتح وعيهم على معنى الشهود الحضاري فيه، وكيف  يقرأ  الإنسان المسلم في سورة الفاتحة “رب العالمين” على الأقل 17 مرة يومياً، ثم لا يصبح شاهداً على العالمين؟

7-وكيف يمكن لشبابنا أن يولدوا أفكاراً من: القرآن، والسنة، وحياة عصر الراشدين ومن تبعهم بإحسان ومن خبرات زمانهم، لمؤسسات لمجتمعاتنا اليوم -كما فعل أسلافهم- تحقق التماسك الاجتماعي وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية وتسهم في إعادة بناء اجتماعنا الإسلامي وتحقق شهودنا الحضاري من جديد.

8-وعلى هذه المناهج أن تنسج مواقف على شكل متتالية في كل شخصية أو جماعة نعرض لها، وكيف تحققوا بالإيمان وعملوا بالعقيدة، فتحقق للأمة وجودها وشهودها الحضاري ووصل إلينا الإسلام خالصاً نقياً، حتى يتشربها شبابنا ويؤمنوا بها، فتتحقق لهم رؤية إيمانية شبيهة بما تحقق لصحابة رسول الله، فنستعيد للأمة لحمتها ووحدتها وقوتها المفقودة منذ قرون.

9-أن تعمل هذه المناهج، على إعادة بناء الثقة المفقودة بين الإنسان المسلم، وبين رسالته ودوره العالمي، وإعادة الناس للمجال العام، وتفعيل مشاركتهم اليومية والمستمرة في الشأن الاجتماعي والثقافي، الممهد لفتح المجال الدعوي بشكل صحيح، من خلال تدريب ودفع وتشجيع وتبني النابهين من الأجيال الجديدة والمخلصين، ليتقدموا الصفوف لقيادة مجتمعات الأمة نحو العيش والحرية والكرامة والشهود الحضاري.

3- مؤسسات سيادة أو عزة الذات: تجهيز الشاهد( إنسان الشهود الحضاري)

وهي مؤسسات، تتخصص في تربية أفراد مخصوصين، يتم انتقاؤهم على مهل وترشيحهم من أفاضل رجالات الأم وأوثق مؤسساتها، ليكونوا نخب الشهود الحضاري، والمنغرس في قلب العالم شهوداً ورحمة وعدلاً في سبيل الله والمستضعفين في الأرض يحررهم ويطلق طاقاتهم.

ويلاحظ في اختيار هؤلاء شروطا تتمثل في: الذاتية بدافع من الفرد وإرادته المؤمنة ليكون شاهدا وشهيدا، وقدرته ورغبته على المشاركة المجتمعية-أي التشبيك والمأسسة-، ونزوعه إلى العالمية عبر ربط المؤمن بفضاء عالمه الواسع لصناعة التاريخ صياغة المصلحة العامة لأبناء آدم، مثل آبائها الستة الذين بعثهم رسول الله لملوك وحكام زمانهم بعد صلح الحديبية .

تدريب وتأهيل وإخراج مسلمين متحققين بالشهود الحضاري، وهم فئة منتقاة من مجمل نظامنا التعليمي والثقافي ومن مختلف جهات عالمنا المسلم، يكتشفوا بالمتابعة والتعهد والرعاية الفائقة، وإعدادهم  بالتكوين المعرفي، والوعي التاريخي، وإدراك الحاضر، والانغراس في قلب مجتمعاتنا، والشعور بمعاناتها واحتياجاتها، وفهم تكوينها العقلي والنفسي للارتقاء به إلى مرحلة الرشد، لا للارتقاء عليه في سبيل العرش، لبناء حاضر ومستقبل الأمة.

والقادرين على: تنفيذ سياسات وبرامج، يمكنها أن تحول خطاب الكرامة الإسلامي، إلى واقع ملموس يحسه كل مسلم وكل إنسان يعيش في مجتمعاتنا المسلمة أو خارجها. تصديقاً وتطبيقاً لمعاني الآيات: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”[4].

ويمكن اقتراح بعض معالم المناهج التي توجه لهم، مثل:

1-أن تعمل تلك المناهج على تربيتهم كما ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، عبر تلاوة الكتاب وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية، وهو ما يحتاج منا مناهج وآليات لعمل ذلك اليوم في ظروف الدولة الحديثة ونظمها والعولمة وإكراهاتها وفرصها. فكيف نرسخ بداخلهم التوحيد الخالص دون أن خطة أو مشروعاً جاهزاً ينفذونه، ونتركهم يتأثرون بالمنهج ويجدوا بأنفسهم غير خطة لعملهم لتحقيق الشهود الحضاري، ونتابعهم ونقومهم.

2-أن نحرص تلك المناهج، على أن يمتلك هؤلاء “النفر” عقول استراتيجية عمرانية، تدرك وتمتلك أدوات التفكير المنهجي الشرعي بعمقها الاجتهادي التنزيلي بعد إدراك تصورها, وتمتلك في الوقت نفسه أدوات العلوم الاجتماعية بمستوياتها النقدية لإحداث مقاربة حقيقية تقرأ فيها هذه العلوم, وتغربل في ضوء تصورات الوحي وسننه ومقاصده وقواعد شريعته, حتى يمكنهم التفاعل الإيجابي مع واقعهم وعالمهم وزمانهم، وتحقيق شهود الأمة المعرفي العالمي لتكون خطوة أساسية لتغيير العالم, وتكون لدينا القدرة على تقديم مفاهيم أمتنا في ركب التدافع الحضاري حول التمدن والعمران والتحضر والمعرفة وشتى صنوف التصورات”[5].

3- أن تعمل المناهج الموجهة إلى هذه الفئة على إعدادها لتنفيذ برامج عملية تهدف لتكوين جيل جديد من العلماء والدعاة المتخصصين في مفهوم الشهود الحضاري القائم على التوحيد الإسلامي.

النوع الثاني من المؤسسات

1-مؤسسات إعلامية وإعلانية للترويج للمفهوم وتسويقه

هذه المؤسسات، مهمتها تغيير الواقع وتهيئة الواقع الاجتماعي إلى إمكانية تلقي المفهوم. من خلال فنون الإعلام والإعلان والدعاية للمفهوم في السياقات الاجتماعية والعلمية المختلفة. تجهيزاً وتحضيراً لتشغيل المفهوم في المرحلة التالية.

فهذه المؤسسات وظيفتها تتمثل في: إشاعة التفكير في المفهوم- أهمية وضرورة وأسباب التعامل معه.

ويمكن اقتراح بعض الوظائف والمهام، مثل:

1-إعداد كتب علمية مبسطة عن مفهوم الشهود الحضاري القائم على التوحيد الإسلامي، تناسب كافة الأعمار والثقافات، يمكنها أن تتحدث بلسان القرآن عن المفهوم وتوصله سهلاً واضحاً لعقول وقلوب المتلهفين من المسلمين، ومن غير المسلمين الباحثين عن الكرامة والعدل من ملايين المتعبين في الأرض.

3- إعداد مواد إعلامية شيقة وجذابة ومقنعة لتعليم المفهوم، يمكن أن تستعين بها مدارس النشء المسلم وغير المسلم.

5-تطوير أبحاث واستطلاعات رأي عام مقارنة حول مفهوم الشهود الحضاري القائم على التوحيد في علاقته: بالتعديد، والحلولية، وديانات العصر الجديد، والديانات الآسيوية، بما يبين الفارق الكبير بينه وبينها ومزايا تبنيه عن كافة دعوات الإنسانية الصادرة عن مفاهيم تخالف المفهوم في منطلقاته وأسسه.

المعوقات في عملية تشغيل المفهوم

في نهاية هذه المحاولة البحثية لإعادة بناء وتشغيل مفهوم الشهود الحضاري ليسهم في إعادة تجدد أمتنا في عصرنا وتحققها بالتحضر الشاهد على العالمين، لا بد لنا من التذكير بأهم العقبات التي ستواجه أي جهد هادف لبناء المفهوم وتشغيله في واقعنا، من أهم تلك المعوقات:

1-الصراع السياسي بين أبناء الأمة، سواء بين السنة والشيعة، أو بين الحكومات ومعارضاتها، أو بين العلماء والحركيين السياسيين، أو بين الرؤية السلفية والرؤية الوسطية، أو بين الإسلاميين والعلمانيين.

2-غياب إمامة الأمة العلمية والحضارية، التي تقف حجرة عثرة أمام الإنسان المسلم ليجتازها وهي تحتاج إلى فهم جديد تقوم به مؤسساتنا حتى يتخلص الإنسان المسلم من عقدة التخلف.

3-غياب علم يختص بهذا الأمر يقوم عليه ويراكم الدراسات ويبني عليها ويدقق في تاريخنا وتاريخ الأمم من حولنا عن كيفيات تحققها كلياً أو جزئياً بالمفهوم وآليات ذلك.

6- تمكن الفردية المفرطة بين الأفراد وداخل الأسر، في جميع مجتمعاتنا الإسلامية فيظل حداثة سائلة وعولمة متوحشة.

 

تأملات في المفهوم: خبرة شخصية

هذه السطور تعبر عن مفهومي للشهود الحضاري وسبب اهتمامي به ومصادره(القرآن-السنة-الغزالي الكبير والصغير-مالك بن نبي) وكيف أثر في حياتي الشخصية، وكيف حاولت ترجمة المفهوم في حياتي ليفعل فعله في حياة أمتنا، وهو ما أعطى لي الحافز لأظنه المفهوم المفتاح الهام لأي محاولة للنهوض.

كان، كل ما أعرفه، وأومن به، كما تعلمته من الأسرة ومعلمي في المدارس، ومحفظي القرآن وشيوخ المساجد التي كنت أتردد عليها، أن عمل الخير أمر طيب يدخل الإنسان الجنة ويكسبه قيمة وسمعة حسنة في مجتمعه ويحفظ عليه نعم ربه فلا تزول، ليس إلا، غير أن شعوراً بالعطاء تسرب إلى قلبي من تربيتي البيتية على يد أمي وسيرة ابي رحمه الله الذي مات وأنا في سن الطفولة المبكرة، وما رأيته من شيخي الذي كان يحفظني القرآن ومعلمي في المرحلة الابتدائية الذين كانوا يبذلون قصارى جهدهم لتعليم كل من أقبل عليهم في دروسهم، دون نظر إلى مقابل مادي ينتظرونه.

لكن، العامل الحاسم في ترسخ مفهوم الشهود الحضاري في حياتي، هو قراءتي لشيخنا محمد الغزالي رحمه الله، الذي دلني على الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، فتعرفت على معنى الانتماء للإسلام وكانت كتاباته تدخل القلب مباشرة فتفعل فعلها، فتعلق قلبي بالأمة بعد أن تعلق بحب الخير للأقربين، واطلعت من خلاله على مآسيها، وعلى ما يجب علي تجاهها.

كما فتح لي الإمام أبي حامد، نافذة على التصوف فعشت سنيناً في رحاب الله بقلب مفتوح أثرت معي حتى يومي هذا.

وكان لقائي بكتب مالك بن نبي قد تكامل مع قراءة الغزالي وغيره من المفكرين المسلمين، فترسخ لدي مفهوم الشهود الحضاري، وأنه الأساس للنهوض وبدأت في التفكير في المؤسسية كضمان لاستمرارية وجماعية العمل للأمة.

وبدأت أمارس دوري في مجتمعي، لكي أكون جندياً من جنود نهضتها، من خلال هذا المفهوم الذي كان يترسخ يوماً بعد الآخر، ومرحلة تلو الأخرى كلما زادت حصيلتي المعرفية فيما يتعلق بالمفهوم وتطبيقاته في تاريخنا وما يرسخه معلمينا ومفكرينا في نفوسنا منه وفيما اكتسبه من خبرات عملية في سعيي للإصلاح في حدود طاقتي ونطاقي المكاني .

ومع الوقت، توسع نطاق المفهوم من العمل الإغاثي للعمل الخدمي للعمل التنموي وصولاً للمعنى الحضاري للمفهوم الذي لم يكتمل حتى اليوم بسبب المعوقات الكثيرة من أهل ومصالح ذاتية وتعقيدات مؤسسات رسمية وصراعات سياسية وقيود دولة وقوانينها وغيرها من المعوقات.

وهكذا انطلقت مع زملاء لي، في قريتنا، أنشأنا جمعية للنهوض بالثقافة؛ وكنا في نهاية المرحلة الثانوية، لدراسة مشاكل مجتمع القرية والنهوض بثقافة أهلها، وتغيير العادات الخاطئة بينهم، ولفت انتباه الجميع؛ وخصوصاً الشباب، إلى أهمية العمل الاجتماعي والسياسي والثقافي للنهوض بمجتمعاتنا.

فأصدرنا، مجلة حائط وعلقناها في المساجد؛ لم يتسن لي رؤيتها حتى الآن، لأن الأمر وصل إلى أهلي وأهاليهم، فهددونا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ووأدت الفكرة في مهدها، لكن الحلم ظل كامناً في الصدور، يخرج للنور كلما لاحت له بادرة أمل، يدفعه ويغذيه مفهوم الشهود الحضاري دائماً، فداومنا على التجمع الأسبوعي، نتبادل ما نقرأه، وما يمكن أن نفعله لتغيير مجتمعاتنا، ونجحنا في بعض الأمور وفشلنا في أخرى، خضنا معارك سياسية، ونظمنا ندوات للحديث عن قضايا الأمة، ورتبنا دروساً لتقوية الطلاب، ونظمنا رحلات، واكتسبنا خبرات، وحلمنا بعمل جمعية أهلية تجمع أنشطتنا ونجحنا في ذلك، منذ أكثر من عشر سنوات، ونجحت الجمعية في عمل أنشطة تربوية وتثقيفية جيدة، ومازالت مستمرة، تعاني وتحاول الاستمرار .

 كان منطلقنا في هذا كله، هو حتمية دورنا في مجتمعاتنا، الذي اكتسبته من مفهوم الشهود الحضاري، نظراً لما نراه من الخُلف الرهيب بيننا وبين ديننا وقيمنا وتاريخنا الرائع من ناحية، وبيننا وبين عالمنا الذي يسبقنا بسنوات ضوئية كثيرة من ناحية أخرى.

كما أن تجربتي خلال الربع قرن ماضي في محاولة فهم وتغيير واقعنا الإسلامي والنماذج الفكرية والعملية التي قابلتها من عامة الملمين وخاصتهم الذين تحققوا بالمفهوم أو الذين خلوا من جوهره أكدت لي بما لا يدع مجالاً للشك أن تمثل المفهوم وهضمه بشكله القرآني الرسولي وتطبيقاته الصحابية هو وحده القادر على تحقيق الخروج الكبير لأمتنا من حالة التراجع التي هي عليها الآن، ليس هذا وحسب بل هو،أيضاً، بداية خروج عالمنا من أزمته التي يشكو منها الجميع، كما أن المفهوم قد عالج لدي كل المشكلات المتعلقة بتكديس الأشياء ومنكرات العادات كما يسميها الغزالي، من رسوم اجتماعية فارغة أو متع مهلك هالكة مثل الملاهي التي كنا نذهب إليها فرحين.

إنسان مسلم، عشت عمري، الذي قارب على الخمسين، أحلم بوحدة عربية وتضامن إسلامي، ومصر قوية عفية تنافح عن عروبتها وإسلامها، وتقدم للإنسانية نموذجاً راقياً من ثقافتها ومعتقداتها، التي أهدت للإنسانية التوحيد الخالص، والقيم الروحية الخالدة، والدين الذي يجيب على سؤال الوجود : من أين؟ وإلى أين؟ حيث الله في كل مكان.

وستعيش بعدنا أجيال، آتية بقوة إلى الغد، أريد لها أن تؤمن بمفهوم الشهود الحضاري الذي أنتج حضارتنا المسلمة. فمتى أدركت هذه الأجيال وتمثلت المفهوم واعتنقت جوهره، ستقترب، حتماً، من نقطة البدء الصحيحة، التي انطلق منها أجدادهم الأول؛ في مهد حضارتنا العربية الإسلامية فمضوا نحو التقدم. إن عودة المفهوم، إلى ساحات المجتمعات المسلمة، هي الضمانة لجعل التغيير ممكناً، ولدحر الاستبداد والفساد والاستعمار والفكر التقليدي الملازم لهم.

إن الالتفات الصحيح لعبر الماضي، وحقائق الواقع، ومتطلبات المستقبل، تفرض علي المثقفين المسلمين، فرضاً، أن يراجعوا تجاربهم مع المفهوم، حتى يمكن لهم أن يستعيدوا مساره الصحيح، وحتى تتعزز فرص العودة الصحيحة للمفهوم في واعنا المعاصر، الذي يحقق للأمة أهدافها، وحتى يسهموا في تحقيق نهضة وتنمية، عزت طويلاً علي التحقق، في ظل الماضي الأليم، والحاضر البائس الذي عشناه.

لقد أعطى المفهوم، للأمة في دور نشأته العزة والمنعة والتمكين والشهود، وجلب بقوة تأثيره وشمول معناه ملايين من البشر، اتجهوا صوب ميادين الحياة مؤمنين. وقد آن لهذا المفهوم، الآن، أن يعود إلى جنبات مؤسساتنا المسلمة بدءاً بالأسرة حتى الدولة، ليعطي القوة والقدرة لأجيال الشباب المسلم القادمة، لتتقدم على الطريق الصحيح الذي أخطأته أجيالنا.

فالشهود الحضاري، وحده، القادر على معالجة أمراض الأمة ونواقصها ونقاط ضعفها، وهو وحده القادر، بالعلم والثقافة والإخلاص، المتسلحين بالحيلة اللطيفة، وبالأسلوب الأحسن، وبالمتابعة والملاحظة العميقة لكل الآفات، بهدوء وروية الفلاح الحكيم، على تنقيتها من أشواكها الفكرية والعقدية، والنفسية، والعقلية، والمادية الاستهلاكية، التي تخنق نبتتها الطيبة، وتحقيق نهضتها وشهودها على العالمين.

نتائج الدراسة

مفهوم الشهود الحضاري، مفهوم مركزي في حضارتنا الإسلامية، تتوقف عليه صور مستقبلنا القريب والبعيد. فالمجتمع المسلم، مجتمع رسالي، وهو مجتمع الشهود الحضاري، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور إلى العدل، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الضيق إلى السعة. إنه مجتمع، ملتزم بقضية الإسلام وأهدافه في تحقيق الإنسان: المكرم، الحر، المتعاون مع بني دينه ووطنه وجنسه عموماً، ليحيوا جميعاً حياة طيبة، ملؤها الأمن والأمان والاطمئنان وعبادة الرحمن.

ومجتمع، هذا دوره وتلك غاياته وهدفه، يتحمل أفراده مسؤوليات، تتجاوز حياتهم الخاصة وكيانهم الخاص، لابد  له من مؤسسات تقوم به، ينتجها أفراده. فالإسلام عندما جاء، أكد على ضرورة التنظيم المؤسسي والجماعي للأمة، من أدنى صوره إلى أعلاها، وأعاد تشكيل فكر العربي المسلم وتحول به من حكم الفرد أو العائلة أو الصفوة، إلى حكم المؤسسات الاجتماعية الممثلة للإرادة العامة.

لكن عملية بناء هذا المفهوم، في قلوب وعقول وواقع المسلمين عملية شاقة، تحتاج إعادة تمهيد للأرض: ناسها، ومؤسساتها، وأساليب فلاحتها، مواعيد ريها، والقائمين بهذا كله، ثم تحتاج بذوراً جديدة (مؤسسات)، ومعالجات مخصوصة للجذور القديمة والسوق والأغصان (المؤسسات القديمة للتنشئة المجتمعية)، حتى تثمر ثماراً طيبة (الإنسان المسلم الجديد)، بدلاً من الثمار المسممة، أو العطنة التي تنتجها اليوم.

وهي الأفكار التي حاولنا تتبعها من خلال سيرة مفهوم الشهود الحضاري ومسيرته خلال تاريخ الإسلامي، وتوقفنا عن لحظات ثلاث في عمر المفهوم: لحظة نشأته وتكونه وتطبيقه واقعاً في حياة جيل الصحابة والراشدين، ولحظة تجمده في القرن الخامس الهجري ومحاولة إعادة بنائه وإحيائه على يد الإمام أبي حامد الغزالي، واللحظة الثالثة في محاولات بعض مفكرينا إحياء المفهوم في عصرنا الراهن، كل ذلك حتى نحاول إعادة بناء المفهوم وتشغيله العودة الراشدة الصادقة المخلصة للقــرآن، وإعادة تأسيس المفهوم الشهود من خلاله.

وإعادة قراءة “القرآن والسنة والسيرة وعصر الراشدين ومن تبعهم بإحسان”، التي تكشف عن تصور دقيق في هذا الصدد، ليلاقي لحظة قادمة في عمر أمتنا نرجو أن تكون قريبة يعود فيها المفهوم ليسكن القلوب والعقول والنفوس، وبالمؤسسات الإسلامية ليتحقق واقعاً يجعل أمتنا شاهدة على العالمين بخيريتها ورياديتها في عالمها. ما حاولنا بيان النقلة الفكرية والعملية التي يمكن للمفهوم أن يحققها بعد إعادة بنائه، وبيان أهم التحديات والعقبات التي تواجه عملية إعادة البناء.

وقد تبين لنا من خلال البحث، أنه:

 1-لا يكفي أن يعلن المرء أنه خليفة الله في الأرض ليكون كذلك، لا بد أن يقوم بعمل حثيث ومتواصل على الأرض لإثبات ذلك. ووفق هذا المعيار التفاعلي، يمكن قراءة مفهوم الشهود الحضاري الذي رسخه الإسلام في المسلمين الأوائل ثم عدت عليه عوادي الزمن وتقلبات الأحداث الناتجة عن ضعف المسلمين وفرقهم وانفراط عقد مؤسساتهم الحافظة لقواعد اجتماعهم.

2-من دون وعي حقيقي، للإنسان المسلم، لحجم مشاكله، وقضاياه وهمومه، والعقبات التي تحول بينه وبين تحقيق آماله، في: الحرية، والعدل، والأمن، من خلال معارف دينية ودنيوية سليمة متجددة، لن تتحقق نهضة، ولن يقوم المسلمون في عالمهم برسالة، مهما تغيرت الأنظمة، وتبدلت الوجوه والأشخاص الحاكمة، الحساسية الإنسانية العالمية إن سلبت فلا أمة ولا مستقبل.

3-أن الإنسان صاحب الوعي الحضاري الضحل أو الغائب، لا يسمح له، بالكشف عن وجهة نظره وإيصالها، وأن الانفصال الحاد، بين الإنسان المسلم، وبين المعارف المطلوبة، لبناء وعيه الفاعل، الذي يهيئه لمواجهة الحياة والتعارف مع الأحياء، سبب رئيسي في حالة التيه الحضاري للأمة.

3-أن مفهوم الشهود الحضاري، كما بينه القرآن المجيد، وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان، هو أرقى أنواع الفلاحة والفلاح لأي مجتمع يتطلع إلى الحياة الطيبة وقيادة العالم. ومجتمعاتنا الإسلامية، تحتاج إلى عملية فلاحة جديدة، لكل أفرادها ومؤسساتها، تستند إلى مفهوم الشهود الحضاري. فحديقة أمتنا ، قد عانت الكثير من فلاحين لا يعرفون طبيعة التربة، ولا حاجات أشجارها ومن بذور غير صالحة للإنبات في تربتها وإن أثمرت لا تثمر إلا فردية وأنانية وسلبية واستهلاكية.

4-إن الدور الجديد والوظيفة المنتظرة لمفهوم الشهود الحضاري، هي أن يكون البذرة الصالحة التي ستثمر شجرة الأمة الجديدة الشاهدة على العالمين، إن وجدت الفلاح الجديد، الملم بطبيعة الأرض والأشجار والبيئة التي تنمو فيها حديقتنا المسلمة، حتى يخلصها من أمراضها والسموم التي انتشرت فيها. وإن قدر لهذا الطرح أن تتبناه مدارس الإصلاح الإسلامي اليوم من الانتشار بين أبناء الأمة لتغيرت وجهتهم نحو قضايا الأمة وهمومها، وصارت جزءاً  من سلوكهم اليومي وتصرفاتهم العملية في كل قراراتهم الحياتية اللحظية والمستقبلية.

 

 

خاتمة

التنشئة على مفهوم الشهود الحضاري، اليوم، هي مهمة كل إنسان مسلم تحقق بهذا المفهوم وعياً وتطبيقاً، حتى تستطيع أمتنا أن تتجاوز أزمتها الحضارية الراهنة. فإخراج ذلك الإنسان، القادر على أن يجيب بكل صراحة عن إشكاليات عالمه الإسلامي وعالم أبناء آدم ويشهد عليهم. ذلك المسلم الأمتي الإبراهيمي: حاكماً ومحكوماً، ذلك النجم الحقيقي للأمة، الذي يدلها على الطريق نحو الشهود الحضاري. إنسان الشهود الحضاري، الذي يرتقي بالأمة من مرحلة ” الوجود” إلى مرحلة” الشهود هي المهمة الأولى اليوم، وهي مهمة شاقة وطويلة ومستمرة لأمد غير قليل.

لكن تحقق ذلك يحتاج إلى إجابات على أسئلة كثيرة تصب في صالح تشغيل المفهوم وترسيخه في مجتمعاتنا المسلمة قبل الوصول إليه، من أهمها:

كيف يمكن لشبابنا أن يستعيدوا نضارة إيمانهم بعد ذبول طال قروناً عديدة ويعلموا أن لهم حقوق، وعليهم واجبات تجاه أمة ينتمون إليها، ودين ينتسبون إليه، ورب يحاسبهم على كل تلك النعم التي أنعمها عليهم؟

وكيف يمكن تقديم القرآن، كعملية تواصل تعبر كل سورة منه عن تقدم ضمن عملية بناء مفهوم الشهود الحضاري؟

وكيف نحفر في تراثنا وواقعنا، لنصل إلى جذور الثقافة العدمية، التي غزت مجتمعاتنا، والتي تدعو لقيم: الاستهلاك، والاستملاك، والانكفاء على المصالح الضيقة والنجاة الفردية، بمفهومها الديني والدنيوي، والتي تترسخ يوماً بعد الآخر، في نفوس أبناء مجتمعاتنا العربية، الذين تعج بهم: ملاعب الكرة، والمولات، والسينمات، والملاهي والشواطئ، وغيرها من أماكن اللهو، التي باتت جزءاً من الحياة اليومية لفئات تتزايد يوماً بعد الآخر من العرب؟

وكيف يستوعب شبابنا سيرة مفهوم الشهود الحضاري في الصدر الأول، وكيف تكون لحظة بلحظة ويطبقوه في زماننا؟ وكيف يمكنهم أن يروه من منظور جديد يحقق فيهم ما تحقق لصحابة رسول الله من رؤية شاملة للدين والدنيا؟ وكيف يستمد كل واحد وواحدة منه زاداً وهدى يمكنه من استغلال ما حباه الله من طاقات وإمكانات مهما صغرت في سبيل تحقيق إنسانيته المؤمنة الموحدة وإضافة لبنة في بناء الأمة المسلمة في زماننا؟

وهل كتب التربية الدينية  ومناهج العقيدة والتربية المتداولة بين أبنائنا وعامتنا وشبابنا، والتي تقدمها مختلف مؤسسات الأمة، تفي فعلاً بمتطلبات بناء إنسان مسلم حقيقي في لحظتنا الراهنة؟ وما هو مدى قدرتها على بناء تصور صحيح ورؤية للحياة تنطلق من مفاهيم الإسلام عن الإنسان المستخلف والأمة الشاهدة المؤتمنة؟

وكيف يمكن التعامل مع الاتجاهات التي لا ترى في تأسيس وعي شامل للمسلم جزء من إيمانه والممارسات الكثيرة لعلماء وفقهاء وفتاوى عن حقيقة المسلم ورضى الله عنه وعلاقاته بنمط حياته اليومية وتفكيره وممارساته؟

وكيف يمكن تغيير خريطة العقل المسلم من الإغاثة باعتبارها عنوان العمل الصالح إلى التنمية وتحقيق الشهود الحضاري وحتى الإغاثة إعادتها إلى مفهومها في العهد النبوي الدفع للعمل لا للكسل؟

وكيف لأمة الإسلام أن تستغل ثرواتها لتحقيق العدل الاقتصادي، وكيف يمكنها أن تحول آيات قرآنها وسيرة نبيها ووقائع تاريخ دعوتها البيضاء، إلى أفكار وبرامج وكتابات وتطبيقات تنشر التوحيد بين العالمين، في عالم يبحث عن إيمانه الضائع، وفطرته التي طمست تحت أهوال المادية الطاغية، وتشويهات الأديان التي تسبب فيها سدنتها المحرفون كلهم جميعاً.

وكيف يمكن تحقيق تكافل اجتماعي بين أبناء آدم في ظل العلاقات الظالمة داخل الدول وبين الدول بعضها البعض، وفي ظل سيادة مفاهيم مثل الوطن أولاً في غالبية دول العالم؟ وكيف يمكن أن تتخلص البشرية من قبضة المتمكنين من أرزاق وخيرات الأرض؟

وكيف يمكن لأمتنا وللأمم المستضعفة أن تدخل ميدان المنافسة الإنتاجية العالمية، وسوق الغبن الرأسمالية، بروح الدعوة وحكمة الدولة وعقلها؟ وكيف يمكن وبأي أدوات نستطيع أن نتضامن مع المستضعفين في الأرض، وكيف يمكن لهؤلاء المستضعفين أن ينجوا من ربقة المتحكمين في أقوات البشر الثلاثة الكبار: البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية؟

وهناك، أيضاً، الأسئلة الأكثر أهمية المتعلقة بإعادة بناء البيت المسلم، والتي تتمثل أهمها فيما يلي: كيف يمكن إعادة توحيد وبناء الأمة الإمام في ظل تصاعد حدة التلاسن والشقاق السني الشيعي على كافة المستويات الحكومية والشعبية والعلمائية؟ وكيف إن تغاضينا عن ذلك أن نحقق تجنيد العامة داخل أمتنا وبث الوعي الحضاري فيهم وبناء الطليعة المجاهدة القادرة على تحريك أمتها نحو التغيير الجذري في ظل حالة السيولة السياسية والحرب على كل ما يمت لقيم والكرامة بصلة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من السلطات الحاكمة وأدواتها الإعلامية والتعليمية وفي ظل غياب فقه الأولويات لدى غالب الحركات السياسية التي تتصدر الحديث عن الإسلام؟

وكيف يمكن دفع الأمة نحو هجران الخرافة، والنفاق في العقيدة، والنفاق الاجتماعي، و”دين الانقياد” للحاكم، والاستقالة من الاهتمام بأمر الأمة، والسكوت والإمساك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكسل عن العمل، واستهلاك ما لا نُنْتِجُ، إلى غير هذا من الأمراض الموروثة عن فتنتنا الداخلية، أو المعدية بواسطة الاستعمار والغزو الثقافي الاقتصادي الحضاري؟

وكيف السبيل إلى إقامة دولة الرحمة والعدل الشامل، حيث يجب أن يتصدر العدل كل المطالب في ظل فهم مغلوط لمفهوم الدولة لدى الحكام والمكومين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ وكيف يصبح إيماننا بحقوق الإنسان ليس مجرد مناشدة لفظية ولا حمولة أيديولوجية يتخفف منها المرء عندما يغيب المراقب وتسنح الفرصة؟

وكيف يمكن أن نقتحم عالمنا، ونتحدث بمفاهيمنا-وفي القلب منها مفهوم الشهود الحضاري، ونخاطب به كل إنسان، بكل لغة يفهمها؟ وكيف يمكن لأمة القرآن أن تصبح في مركز الثقل في حركة المستضعفين في الأرض، وملاذ ثورتهم على الظلم والباطل والاستكبار. وما هي الآليات والأدوات والموارد والاستراتيجيات الموصلة إلى ذلك؟

وهل يمكن لمقاربة إسلامية، تنطلق من مفهوم الشهود الحضاري، أن تجيب على أسئلة عالمنا الملحة والقلقة المذعورة من الظلم والتفاوت والعنصرية والطبقية البغيضة، في الشمال والجنوب وتغادر” النقاش الفلسفي والنظري عن إنسانية واحدة، والانطلاق إلى المسألة وشروط تحقيقها وحدودها والعوائق التي تعرقل تحقيقها في واقع تلك المجتمعات؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها مما لم نطرحه، تمهد لدخولنا إلى ساحات التنافس مع المقاربة الغربية الفاسدة لحقوق الإنسان التي حكمت تاريخ عالمنا طيلة القرنين الماضيين السياسي من ناحية، وتمكننا من المشاركة في تأسيس “ميثاق الرحم الإنساني بين أبناء آدم” القائم على مفهوم الشهود الحضاري من ناحية أخرى. مما يضع أقدامنا على أول الطريق الموصل إلى خطاب الكونية والرحمة للعالمين وتتميم مكارم الأخلاق وتحقيق كرامة الإنسان.

كل هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، تحتاج منا، الإجابة عليها، حتى يمكننا العودة بالحياة للمفاهيم، التي أنتجت مجتمعاتنا العربية المسلمة : الاستخلاف، والعمران، والعدل، والتوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعادة المجتمع لدوره، ومؤسساته لوظائفها، وأبنائه لواجباتهم.

 

 

 

 

 

 

 

[1] آل عمران 103

[2] المؤمنون 52

[3] مشهور، هبة.الشهادة في القرآن الكريم، على موقع خطوة للتوثيق والدراسات، على الرباط التالي:

الشهادة في القرآن الكريم

[4] الأنفال72-75

[5] عزت، هبة رؤوف. نحو عمران جديد، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2015م،  ص236

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى