إطلالة على التفسير والمفسرين في بلاد شنقيط
ذاع صيت تفسير “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”، لمؤلفه العلامة الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الجكني (ت: 1393 هـ)، بين المشتغلين بالقرآن الكريم وعلومه حتى صار هذا التفسير العظيم وكأنه التفسير الوحيد في بلاد شنقيط (موريتانيا)، ولكن الحقيقة أن “أضواء البيان” -رغم شهرته وأهميته وقيمته العملية- ليس التفسير الشنقيطي الوحيد، بل هناك عدد لا بأس به من التفاسير الشنقيطية (الموريتانية) التي اهتم أصحابها بتفسير القرآن واتجاهاته المتعددة، واعتمد بعضهم أسلوب النظم فيما اعتمد آخرون أسلوب النثر، فأصبحت هناك تفاسير شنقيطية منظومة وأخرى غير منظومة.
ويبدو أن من الأسباب التي أدت إلى عدم انتشار التفاسير الموريتانية المتعددة أن علم “التفسير في بلاد شنقيط لم يحظ بأي عناية من الدارسين والباحثين”[1]، رغم أنه يستحق العناية والصيانة في كل زمان ومكان. وحرصاً على لفت الانتباه إلى ضرورة العناية والاهتمام بتاريخ علم التفسير في بلاد شنقيط، قام الدكتور محمد بن سيدي محمد مولاي بتأليف كتابه “التفسير والمفسرون في بلاد شنقيط”[2] وتناول من خلاله تاريخ المفسرين الشنقيطيين وتفاسيرهم خلال ما يربو على أربعة قرون.
في هذه المقالة سنحاول أن نسلط الضوء على جوانب من تاريخ علم التفسير في بلاد شنقيط، حيث سنتحدث عن نشأة هذا العلم وخصائصه واتجاهاته ومراحله ورجاله من القرن الثاني عشر الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري، على أن نختم بصورة عن حركة التفسير الشنقيطي في الوقت الحاضر.
نشأة التفسير في بلاد شنقيط
في بداية الحديث عن نشأة التفسير في بلاد شنقيط لا بد من القول إن هناك جملة من الأسئلة تطرح نفسها، منها: متى رأى التفسير النور بالربوع الشنقيطية؟ وما بوادره الأولى؟ والحق أننا عندما نريد تقديم إجابة دقيقة، فإن الموضوعية ستفرض علينا الإقرار بأن تحديد البداية الفعلية لنشأة التفسير في بلاد شنقيط مسألة فيها صعوبة كبيرة ومجازفة واضحة، وقد صرّح المؤلف بهذه الصعوبة في سياق حديثه عن الإرهاصات الأولى لهذا العلم، وقال إن من الأسباب أن التاريخ الثقافي الشنقيطي لم يكتمل تدوينه بعد.
ورغم ذلك يبدو أن المؤلف توصل من خلال بحثه إلى أن الإرهاصات الأولى للتفسير في بلاد شنقيط يمكن أن تكون بدأت مع العهد المرابطي وقدوم عبد بن ياسين (ت: 451 هـ) الذي أسس داراً للعلم والخير سماها “دار المرابطين”، والظاهر أن المؤلف توصل إلى هذه النتيجة بناءً على أنه “يفترض أن تكون هنالك دروس في التفسير شفهية على الأقل تسمح للباحث أن يرجع بواكير عملية التفسير إلى هذه الحقبة، لأنه يستبعد أن يكون خطباء المرابطين، كابن ياسين وأضرابه، لا يتعرضون في خطبهم لتفسير آيات الجهاد والعقائد والأحكام مثلاً”[3].
وإذا اعتبرنا أن هذا التحديد يمثّل تاريخاً تقريبياً للإرهاصات الأولى للتفسير في بلاد شنقيط، فإننا سنجد أن هناك سؤالاً آخر يطرح نفسه أيضاً، وهو: ما الذي دفع إلى تأخر ظهور التفسير في بلاد شنقيط؟ والحقيقة أن هذا السؤال مشروع وكنا قد أشرنا في مقدمة هذه المقالة إلى سبب يمثل جزءاً من الإجابة عليه، بيد أننا يمكن أن نضيف هنا أسباباً أخرى، فقد ذكر المؤلف أن هناك جملة من الأمور التي فعلت فعلها في تأخير ظهور التفسير في بلاد شنقيط، منها: عزلة البلاد الشنقيطية وانقطاعها جغرافياً عن مراكز الثقافة وعواصم العلم في الدول الإسلامية، والاعتماد على الحفظ والتلقين مع قلة وسائل والتوثيق والتدوين، بالإضافة إلى ظاهرة تهيّب التفسير التي تعتبر ظاهرة عامة في المشرق والمغرب، وتعود جذورها إلى قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار”.
خصائص التفسير في بلاد شنقيط
عندما ننظر في التفاسير الشنقيطية سنجد أن هناك خصائص أسلوبية ومنهجية وفكرية في تفاسير المفسرين الشنقيطيين، ولا نعني بهذا أن هناك خصائص خاصة بالمفسرين الشنقيطيين دون غيرهم من المفسرين في البلدان الأخرى، وإنما نعني الأساليب التي استخدموها في تفاسيرهم حتى ولو شاركهم فيها غيرهم -كما يقول المؤلف- وعكست خصائص أسلوبية ومنهجية وفكرية محددة، وسنعرض هذه الخصائص على النحو التالي.
الخصائص الأسلوبية: إن أول نوع من هذه الخصائص هو الخصائص الأسلوبية، والظاهر أن أسلوب المفسرين الشنقيطيين انقسم إلى أسلوبين: أسلوب النظم وأسلوب النثر، وسيلاحظ قارئ التفاسير الشنقيطية أن أسلوب النظم وهو الغالب على التفاسير الجزئية والموضوعية، لأن أصحابها يهتمون بناحية معينة من التفسير كجمع الغريب والمشكل وغيره، ومن التفاسير الشنقيطية المنظومة تفسير “مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله”.
أما أسلوب النثر فهو “الأسلوب الذي اتبعه أصحاب التفاسير الطويلة الذين يحتاجون إلى التوسع في البحث، وإسناد الأقاويل إلى قائليها، وتفصيل المعلومات”[4]، ومن الأمثلة على هذا النوع من التفاسير الشنقيطية: “الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز” لليدالي، و”الريان في تفسير القرآن” للمجلسي، و”أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن” للشنقيطي، ويتميز أسلوب هؤلاء بقوة السبك وجزالة اللفظ وجودة التراكيب.
الخصائص المنهجية: يبدو أن المفسرين الشنقيطيين اختلفوا بخصوص الإعلان عن المنهجية المتبعة في تفاسيرهم، فمنهم من أوضح منهجه الذي سار عليه مثل “الذهب الإبريز” لليدالي، و”أضواء البيان” للشنقيطي، وبعضهم لم يبيّن منهجه بشكل واضح، ومن هؤلاء: الشيخ محمد بن محمد سالم المجلسي في تفسيره “الريان في تفسير القرآن”، ويمكن القول إن من أهم الخصائص المنهجية التي تجمع بين المفسرين الشنقيطيين: العناية باللغة، وكثرة النقل عن السابقين، وكثرة الاستطراد.
الخصائص الفكرية: إذا كان لا بد من ذكر خاصية فكرية تجمع بين المفسرين الشنقيطيين، فهي أنهم “عموماً مالكيون وينطلقون جميعاً من الفكر السني الذي يعتمد في تفسيره القرآن على أسس واضحة، تقوم على الأثر، وعلى اللغة، وعلى الرأي الذي لا يصطدم بالنصوص، ولا ينحرف بالآيات القرآنية عن سياقها، وخلت تفاسيرهم من التيارات المنحرفة وآراء الفرق الضالة، التي تفسر القرآن على وفق أهوائها ومعتقداتها الفاسدة”[5].
اتجاهات التفسير في بلاد شنقيط
تتمثل اتجاهات التفسير في بلاد شنقيط في خمسة اتجاهات، وهي: الاتجاه الأثري ومن الأمثلة عليه تفسير “أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن” للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والاتجاه اللغوي ومن الأمثلة عليه تفسير “الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز” للشيخ محمد اليدالي، والاتجاه الفقهي ومن الأمثلة عليه تفسير “التيسير والتسهيل لمعرفة أحكام التنزيل” لمحمد يحيى بن سليمة اليونسي، والاتجاه الصوفي وتوجد أمور عديدة تحيل إلى هذا الاتجاه في أكثر من تفسير، مثل: تفسير الشنقيطي، وتفسير اليدالي، وتفسير محمد المامي بن البخاري.
وهذا الأمر يدفعنا إلى القول إنه من الصعب أن يوجد تفسير شنقيطي يعتمد على اتجاه واحد وخلوّ من بقية هذه الاتجاهات الأخرى، فهناك تشارك بين هذه التفاسير المتعددة فيما يتعلق بالاتجاهات التفسيرية، فتفسير “أضواء البيان” الذي قدمناه كمثال على الاتجاه الأثري لا يخلو من الاتجاه اللغوي، وتفسير “الذهب الإبريز” الذي ذكرناه كمثال على الاتجاه اللغوي توجد فيه إشارات تدلّنا على الاتجاه الصوفي، وهكذا دواليك.
ومن هنا، يمكن أن نجد في أحد التفاسير الشنقيطية أكثر من اتجاه تفسيري، ويبدو لنا أن هذه المسألة ليست خاصة بالتفاسير الشنقيطية وحدها، بل لعلها ظاهرة عادية موجودة في عدد من التفاسير الأخرى القديمة والحديثة، فتفسير الآية القرآنية قد يجعل المفسر ينتقل من الاتجاه اللغوي إلى الاتجاه الفقهي مثلاً، لأن الهدف المطلوب من المفسّر هو تفسير الآيات القرآنية وتوضيح معانيها ومقاصدها وليس التزام باتجاه معيّن دون غيره من الاتجاهات.
المفسرون الشنقيطيون في ق12 هـ – ق14 هـ
يبدو أن الثقافة الإسلامية العربية في بلاد شنقيط كانت على موعد مع نهضة علمية في القرن الثاني عشر للهجرة أشاد بها بعض المؤرخين، وكان من الأمور البارزة في هذا العصر ظهور علماء شنقيطيين في مجال علم التفسير وكان عددهم يزداد مع الوقت، ولهذا نجد المؤلف يتناول في الباب الرابع تاريخ التفسير ورجاله في بلاد شنقيط خلال حوالي أربعة قرون من خلال أربع مراحل، استعرض في كل مرحلة أبرز المفسرين الشنقيطيين الذين اشتهروا بعلم التفسير:
المرحلة الأولى: التفسير في القرن الثاني عشر للهجرة، وقد برز في هذا العصر علماء اشتهروا بعلم التفسير، من بينهم: محمد موه بن عبد الرحمن التيشيتي (ت: 1135 هـ)، ومحمد بن أبي بكر الولاتي المحجوبي (ت: 1137 هـ)، وسيد عبد الله بن محمد العلوي (ت: 1143 هـ)، ومحمد بن الطالب الخطاط (ت: 1165 هـ)، والشيخ محمد اليدالي (ت: 1166 هـ)، ولكن هؤلاء -حسب المؤلف- لم يبقَ لهم أثر باستثناء الشيخ محمد اليدالي (ت: 1166 هـ) صاحب “الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز”، الذي يعد تفسيره أقدم أثر تفسيري عثر عليه المؤلف وتناوله بالدراسة والتحليل ما أمكن[6].
المرحلة الثانية: التفسير في القرن الثالث عشر للهجرة، وقد عثر المؤلف في هذا العصر على أحد عشر مفسراً، وحاول إعطاء صورة كاملة عن هذه التفاسير، إلا أنه ركز على تفسير “الريان في تفسير القرآن” للمجلسي باعتباره أكبر هذه التفاسير على الإطلاق، ومن العلماء الشنقيطيين الذين اشتهروا في هذا القرن بعلم التفسير: عبد الله بن الفاضل المعروف ببلا الشقروي (ت: 1223 هـ)، والشيخ سيد المختار الكنتي (ت: 1226 هـ)، ومحمد امبارك بن حبيب الله بن الأمين اللمتوني (ت: 1290 هـ)، ومحمد بن حنبل الحسني (ت: 1300 هـ)، ومحمد بن سالم المجلسي (ت: 1302 هـ).
المرحلة الثالثة: التفسير في القرن الرابع عشر، ويبدو أن هذه المرحلة من أهم مراحل التفسير في بلاد شنقيط، فقد أصبح التفسير في هذا القرن أكثر شمولاً وتنوعاً من القرون السابقة، وبالتالي تميّز بأمور عديدة، منها: وصول مؤلفات التفسير فيه إلينا بكمية كبيرة، وظهور أغراض جديدة لم تكن في المراحل التفسير السابقة مثل التفسير البياني والتفسير الأثري[7].
وقد أورد المؤلف في هذه المرحلة حوالي 31 من أبرز رواد التفسير الشنقيطيين في هذا القرن، منهم: أحمذو بن زياد الديماني (ت: 1322 هـ)، ومحمد مولود بن أحمد فال اليعقوبي الموسوي (ت: 1323 هـ)، والعلامة محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي (ت: 1330 هـ)، وامحمد بن أحمد يورا الديماني (ت: 1340 هـ)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي الجكني (ت: 1393 هـ) صاحب “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”.. إلخ.
حركة التفسير في الوقت الحاضر
أما المرحلة الرابعة من المراحل الأربع التي أشرنا إليها في المحور السابق، فتتمثل في حركة التفسير في الوقت الحاضر، وقد خصص المؤلف الباب الخامس والأخير لهذه المرحلة، حيث ركز على النشاط التفسيري في الوقت الحاضر، فناقش بعض القضايا وبيّن ألواناً جديدة من التفسير مثل: التفسير الموضوعي، والتفسير العلمي، ووحدة الخطاب.
وقد تحدث المؤلف في هذه المرحلة عن المفسرين الشنقيطيين المعاصرين، ومن أبرزهم: الطالب اخيار بن الشيخ بوننّ، وعثمان بن الشيخ أحمد المعالي، ثم أشار إلى المجالس العلمية ومحاضرات العلماء الشنقيطيين حول التفسير، كما تحدث عن التفسير في المعاهد الدينية الموريتانية، وقام بمقارنة حول “التفسير بين الماضي والحاضر”، ثم ختم كتابه بملحق يتضمن أسماء بعض المؤلفين ومؤلفاتهم في علوم القرآن الأخرى غير التفسير.
[1] محمد بن سيدي محمد مولاي، التفسير والمفسرون في بلاد شنقيط، 8.
[2] أصل هذا الكتاب رسالة علمية أعدها الدكتور محمد بن سيدي محمد مولاي، عضو هيئة الفتوى في وزارة الأوقاف بالكويت، لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط، وصدرته الطبعة الأولى عام 2008 عن دار يوسف بن تاشفين.
[3] المصدر نفسه، 74
[4] المصدر نفسه، 90.
[5] المصدر نفسه، 100.
[6] المصدر نفسه، 20.
[7] انظر، المصدر نفسه، 20.
(المصدر: إسلام أونلاين)