إحياء الفرعونية.. معارك خاسرة ولعب بالنار
بقلم قطب العربي
هذه معركة عبثية ما يكاد يندلع أوارها، ويتطاير غبارها، بفعل فاعل ولحاجة في نفسه، حتى تهدأ وتختفي، هي أزمة الهوية في مصر التي يبدو أن البعض لا يزال يعيشها أو “يعتاش” عليها. مصر أقدم دولة في العالم حسبما يظهر من التاريخ المكتوب (3000 سنة قبل الميلاد)، وقد مرت بها حضارات متعددة بدأت بالفرعونية وانتهت بالعربية الإسلامية مرورا باليونانية والمسيحية، ومن طبائع الحضارات الاستفادة من بعضها، والبناء على ما سبقها، كما أن كل حضارة تترك بصماتها في الأجيال المتعاقبة. هي إذن طبقات تطورت مع الزمن حتى وصلت إلى شكلها الراهن، وإذا كانت الحضارة العربية الإسلامية هي نهاية التطور الحضاري فإنها أصبحت هوية المصريين، وقد اعترف بذلك العقلاء من المسيحيين، مثل الزعيم والمفكر السياسي مكرم عبيد باشا، القائل: “نحن مسيحيون دينا، مسلمون وطنا”، كما أن دساتير مصر -منذ دستور 1923 الذي صاغه بكل رضا مسلمون ومسيحيون- نصت على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام.
هوية ليست طائفية
الهوية العربية الإسلامية لمصر ليست طائفية، وحتى إن كان ما يزيد على 90% من المصريين مسلمين، فهي لا تصادر حريات الآخرين ومعتقداتهم وثقافاتهم الخاصة، ولم تكن سببا في توترات طائفية أو مجتمعية في ظل مجتمع متسامح، أما الأزمات الطائفية التي شهدها المجتمع المصري قديما أو حديثا فقد حدثت نتيجة مواقف متطرفة لمسلمين أو مسيحيين لفظتها وحاربتها الغالبية من المسلمين والمسيحيين أيضا.
الحديث الآن عن إحياء الهوية الفرعونية باعتبارها الهوية الأصلية للمصريين جميعا هو لعب بالنار، وإحياء لفتن لعن الله من أيقظها، فالفرعونية حضارة اندثرت ولم يبق منها إلا مظهرها العمراني، وربما بعض مظاهر الاستبداد التي لا يزال الشعب المصري يعانيها حتى الآن، وربما يستهدف رعاتها الجدد التأصيل لاستبدادهم باعتباره ميراثا مصريا عريقا يستحق التمسك به والعض عليه بالنواجذ!!
ظهرت معركة الهوية في مصر خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين على يد بعض المثقفين العلمانيين، لكنها لم تصمد، ثم عادت مجددا عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 في إطار مكايدة سياسية للسلطة التي جرى الانقلاب عليها، وتوهّم أن الهوية الإسلامية تخصها وحدها!!، ثم تكرر الأمر مع بحث نظام يوليو الجديد عن شرعية ومشروعية وهوية يميّز بها نفسه، وهو الذي يبشر بجمهورية جديدة ذات عاصمة جديدة، وربما دستور وعَلَم جديدين قريبا، وبالطبع هوية جديدة، وقد وجد ضالته في ما وصفته أذرعه بالهوية الفرعونية، وشجعه على ذلك خصوم الهوية العربية الإسلامية سواء أكانوا علمانيين مسلمين أم مسيحيين. وأصبح جزءا من استراتيجيات النظام الجديد العزف على هذا الوتر، وإحياء تلك الهوية من خلال احتفالات كبرى تنفق عليها مئات الملايين، وتبرز فيها رموز تلك الحضارة وعقائدها الوثنية، وتُغنَى أشعارها وألحانها التي تمجد آلهة مزعومة من دون الله، مثل ترنيمة (الإله آمون) التي تُسقط صفات رب العالمين عليه في حفل طريق الكباش الأخير، وقد دعا البعض وزير التعليم إلى تدريسها وتحفيظها للتلاميذ في المدارس، تقول بعض كلماتها:
– واحد ولا ثاني له، واحد خالق كل شيء.
– قائم منذ البدء عندما لم يكن حوله شيء.
– والمخلوقات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.
– هو الأب والأم، أبو الآباء وأم الأمهات.
– لم يلد ولم يولد، لم ينجب ولم ينجبه أحد.
– خالق ولم يخلقه أحد.
نشر الوثنية
هكذا يتم نشر هذه الوثنية من جديد بأموال المصريين، وبقروض دولية ضخمة تكبل أعناقهم، وقبل عقدين فقط من الزمان حين كان هناك هامش قليل من الحرية، انتفض الشعب المصري ضد رواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري حيدر حيدر، لتضمّنها بعض الإساءات إلى الذات الإلهية ولنبي الإسلام وزوجاته، أما اليوم فيتم نشر هذه “التعبيرات الوثنية” دون أن يقدر أحد على مواجهتها، لكن ذلك لا يعني في كل حال الرضا والقبول بها.
الذين يتبارون في إحياء الفرعونية ونصوصها الميتة التي تمتد إلى ما يقارب خمسة آلاف عام، هم أنفسهم الذين تتنتفخ أوداجهم رفضا للنص الديني الإسلامي -والمقصود هنا القرآن والسنة- بزعم أنها نصوص قديمة مر عليها ألف وخمسمئة عام ولم تعد صالحة لزماننا.
من حقنا بل من واجبنا أن نأخذ من الحضارة الفرعونية أمجادها العمرانية التي لا تزال تبهر العالم حتى الآن، ولكن من واجبنا أيضا أن ندفن ما تبقى من تأثيراتها الاستبدادية ومظاهرها الاستعبادية وعقائدها الوثنية، ومن واجبنا أن نذود عن هويتنا الحقيقية وديننا وعقيدتنا. والشعب المصري لن يصمت كثيرا على هذا التشويه لهويته ومعتقداته، ربما هو يتعامل الآن مع الأمر باعتباره مجرد “هوجة مؤقتة” تأخذ وقتها كغيرها وتنتهي، لكنها لو تجاوزت فحتما سيتصدى لها مهما كلفه ذلك من أثمان.