مقالاتمقالات مختارة

أين مواقع المصلحـين حين الشدائد والفتن

بقلم أ. د. سليمان بن حمد العودة

لا بد قبل الحديث عن مواقع المصلحين حين الشدائد والمحن من تأكيد:

أ – سنة الله في الابتلاء، وهي سنةٌ ماضية في الأولين والآخرين، {الـم1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ١ – ٣].

وكلما عظُم الإيمان عظمت الفتنة: (أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يبتلى الرجلُ على حسب إيمانه، فإن كان في دينه صلابةً زيد له في البلاء)[1].

ب – بين المصائب والمعاصي:

ومع هذه السنة الربانية هناك سنة وقدر آخر حكم الله به وهو خير الحاكمين، ذلك هو الصلة بين المصائب والمحن والمعاصي والذنوب وعقوباتها وآثارها، والتقصير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك في خير القرون الذين قيل هم في (مصاب أحد): {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وفي الآية الأخرى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 36].

وهنا إحالاتٌ واتهاماتٌ للآخرين، والمُتهمون غير سالمين.. نعم إننا نزكي أنفسَنا أحياناً من حيث نشعر أو لا نشعر، ونظنُّ أن المصابَ بغيرنا، والمعاصي ليست من نصيبنا، وفينا خللٌ ولدينا تقصير.. قد ندرك بعضَه، وقد يغيبُ عنا الكثيرُ من عيوب أنفسنا، وحين تحلّ المصائبُ تدعونا بالقوة إلى أن نفتشَ في أحوالنا، ونتهمَ أنفسَنا اتهاماً لا يحبطُ ولا يقعدُ بها عن العمل، لكنه يصحح ويرشد المسيرةَ، وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ»[2].

ولابن القيم – رحمه الله – كلامٌ جميلٌ في المعاصي وأثرها.. انظره في الداء والدواء.

وثمة منكراتٌ قد لا يقيم لها بعضُ الأخيارِ وزناً.. وهي من المصائب والبلايا، ذلكم حين لا يتمعّرُ الوجهُ، ويضعف الإنكارُ.. وعنها قال ابن القيم: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارمَ الله تنتهك، وحدودَه تضيّع، ودينَه يترك، وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغبُ عنها، وهو باردُ القلب، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس)… إلخ كلام جميل في[3].

ويقول الشيخ حمدُ بن عتيقٍ – رحمه الله -: (لو قُدِّر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه… فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً.. ثم نقل الشيخ عمن حدثه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – أنه قال: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء (لحى غانمة)، وأنا أقول: إنهم (لحى فوائن)، فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم)[4].

فلا بد من مراجعة النفس، والتفتيش عن الأخطاء، والنظر في المناهج، وأسباب النكبات والمعاصي فينا وفي غيرنا.

ونعود للسؤال: أين مواقع الصالحين حين تقع الشدائدُ والفتنُ؟

والمقصود بالسؤال: استفسارٌ عن موقعهم في الأحداث، وجهودهم في دفع البلاء، وإسهاماتهم الإيجابية حين تقع الفتن، وهنا عدة وقفات (واجبات، مشاريع، مبادرات، مدافعات… إلخ).

وقد قيل: (وما المرءُ إلا حيث يضع نفسَه)، وأبلغ من ذلك وأصدق: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].

وهنا أسجل (من هذه الواجبات والمبادرات) ما حضر في الذهن، لأفتح الباب للإضافة والتسديد.

تحرير مصطلح (الفتنة) في المواقف العملية:

إذ إن تحريرَ المصطلحِ علمياً (نظرياً) تمتلئ به الكتب، لكن المهم هنا: تحريره في المواقف العملية حين الشدائد، فمن الناس من يتخذ من (الفتنة) وسيلةً للغياب عن المشهد حين تقع النوازل، ويُعفي نفسه من جهادِ الكلمة، وقولِ الحق، ودفعِ الباطل، فإذا ما بان للمسلم وجه الحق فلا يجوز له أن يتخلف عن البيان وفي وقت حاجته، وبما يقتضيه البيان (من حكمة، ومراعاة للمصالح والمفاسد…)، والمهم ألا يقعد حيث يجب القيام بأمر الله وعبوديته من الأمر والنهي.

الصبر حين البلاء:

فلا يمكن أن يَسْلَم أهلُ الإيمان من بلاءٍ على قدر جهادهم، وهو طريق الرسل وأتباعهم، وهنا لا يسوغ الجزع ولا الخور، ولا التسخط والقلق، بل لا بد من احتساب الأجر، وصلاح النوايا، والبشرى بقدر الله الشرعي، دون تمنٍّ للقاء العدو، أو تحميل للنفس من البلاء ما لا تُطيق، وفي الحديث الصحيح: (لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه، يتعرض للبلاء ما لا يُطيق)[5].

والناس يختلفون بين (العزيمة) و(الرخصة)، والمهم القدر الأعلى من الصبر، والحد الأدنى من المجاهدة.

(الذكر الحسن):

ومع ما في الصبر من عظيم الأجر لمن احتسب حتى (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة)[6]؛ إلا أن ذلك قد يكون غير منظور للناس، بل لصاحب البلاء نفسِه، لكن هناك ما يُسلي ويسري عاجلاً، ألا وهو (الذكر الحسن) لأهل البلاء والإيمان، قال ابن القيم: (مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَرْفَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُ، وَيُعْلِي قَدْرَهُ، وَلِهَذَا خَصَّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ 45 إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 45-46].

وقَالَ إبراهيم: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 84]، وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال الله {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [سُورَةُ الشَّرْحِ: 4]، ثم قال: فَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ)[7].

والواقع في القديم والحديث يشهد على ذلك، فكم من صادق شُهر اسمُه بسبب عداوة ومعاقبة الظالمين له، فوقع عليه من الظلم ما ذكّر به من لم يعرفه، وأحبه من لم يسمع منه..

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت

أتاح لها لسانَ حسودٍ

محكمات الدين أصول ومنطلقات في البلاغ والدعوة:

محكمات الدين لا يسع المسلم إلا التسليم لها، والعمل بها، وعلى المصلحين أن يُعنوا بها ويرسخوها لعامة الأمة وخاصتها، ويجعلوا منها ميداناً رحباً للحديث والتأليف، والشرح والبيان؛ إذ هي أقصر الطرق وأنفعها للبلاغ والإقناع، وهي أعظم حجة لقطع الطريق على أهل الريب؛ فتوحيدُ الله بالعبادة، والتسليمُ لشرعه، وتحريمُ الشرك، ومحبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعتُه فيما أحب المرءُ أو كره، وتثبيتُ أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وحفظُ الضرورات الخمس (الدين، النفس، المال، العرض، العقل)، والولاءُ للمؤمنين والبراءةُ من المشركين، والعزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، وإحقاقُ الحق، وزهوقُ الباطل، وتحريمُ الظلمِ والإثمِ والزنا والخمر والربا وسائرِ الفواحش، والأمرُ بالأخلاق الفاضلة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. ونحو ذلك من محكمات في الدين لا تقبل المساومة والجدل، وتمثل (أم الكتاب) كما قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، والأمُ هو الأكثر والأصل كما قال العالمون[8].

هذه المحكمات تتأكد الحاجة لبيانها وتعميمها كلما كانت الظروف داعيةً لها في أزمان الشدائد والفتن، وكلما حاول المبطلون اختراقها بأساليب ملتوية، وطروحات غريبة، ويحتاج كذلك للحديث عن هذه المحكمات في سبيل وحدة الأمة، إذ «الواجب تقديم الإسلام في التطبيق والدعوة من خلال المحكمات والأساسيات لا من خلال الاجتهادات والخلافات السائغة أو غير السائغة»[9].

وليس يخفى أن عالَم اليوم يموج بعقائدَ باطلةٍ، ومذاهبَ فكريةٍ منحرفةٍ، وفرقٍ ضالةٍ، وانفتاحٍ إعلاميٍ مهولٍ.. ومن هنا فعلى المسلمين كافةً، وعلى المصلحين خاصةً، أن يُعنوا بهذه المحكمات والمنطلقات الإسلامية، دليلهم قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)[10]، وميزانهم قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

ومن رام المزيد عن هذه المحكمات وأهميتها وتطبيقاتها، فليراجع ما كتبه (د. عابد السفياني: المحكمات حوار وتطبيقات).

العزلة المشروعة والمذمومة:

لا شك هناك عزلةٌ مشروعةٌ أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لمن؟ ومتى تكون؟ وكيف؟ هذا هو المهمُ، إذ قد يتصور طالبُ علم، أو قادرٌ على المساهمة في دفع الشر وإقرار الحق.. أنه معذورٌ باعتزالِ الفتنة، والغياب عن الأحداث.. وتلك قضيةٌ بين العبد وربه، فإذا ما اشتبهت على الإنسان الأمورُ إلى درجةٍ لا يعرف فيها أين يكون الحق؟ وأين يوجد الباطلُ؟ وأشهدَ اللهَ على ذلك، بعد تحري الأسباب الممكنة.. فهنا قد يسوغ للإنسان أن يعتزل، كما فعل بعض الصحابة حين الفتنة الواقعة بين المسلمين.. لكن الأصل الاختلاط بالناس، والمساهمة بالدعوة والإصلاح، ودفع المنكرات: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء: 11]، و«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[11].

وهنا نموذج وتصحيح للعزلة، ففي[12]: عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: خَرَجَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الْجَبَّانَةِ (الصحراء) يَتَعَبَّدُونَ، وَاتَّخَذُوا مَسْجِدًا وَبَنَوْا بُنْيَانًا، فَأَتَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ سَرَّنَا أَنْ تَزُورَنَا، قَالَ: مَا أَتَيْتُكُمْ زَائِرًا، وَلَسْتُ بِالَّذِي أَتْرُكُ حَتَّى يُهْدَمَ مَسْجِدُ الْجَبَّانِ، إِنَّكُمْ لأَهَدى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ صَنَعُوا كَمَا صَنَعْتُمْ مَنْ كَانَ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ، وَمَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟! ارْجِعُوا فَتَعَلَّمُوا مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَعَلِّمُوا مَنْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ.

قَالَ: وَاسْتَرْجَعَ فَمَا بَرِحَ حَتَّى قَلَعَ أَبْنِيَتَهُمْ وَرَدَّهُمْ.

تعميق الوعي بالحق:

فتلك مهمةٌ كبرى لأهل الإيمان، سلكها المرسلون وأتباعُهم، وأعلنوها لقومهم عبر (مصطلحات، وقيم، ونداءات، وتحذيرات متكررة) تملأُ آياتِ القرآن الكريم من مثل قوله تعالى (على ألسنة هؤلاء المرسلين والمؤمنين): {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف: 140]، {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38]، وحين يختلط على الناس الحقُ أو شيءٌ منه، فلا بد للعالِمين من البيان والبلاغ، ولا يجوز كتمانُه: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. إنه ميثاقٌ عظيمٌ أخذه الله على أهل الكتاب:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 178].

ومع بيان الحق لا بد من كشفِ الباطل، ورفعِ التلبيس والتدليس، وكشفِ الكذب، وفضحِ الخونة، واستبانةِ سبيل المجرمين، وأشدُ ما يكون التلبيس حين تقع الشدائدُ والمحنُ، وتحل الفتنُ، فيُصوّر الباطلُ حقاً وعكسه، والمعروفُ منكراً ونقيضه.. وهكذا.. ومن هنا تتحتمُ مسؤولية كشف الباطل والمبطلين (بسيماهم) وهو الأصل، أو بأسمائهم وأفعالهم إذا لزم الأمر، وقد جاء الإنكار في القرآن الكريم صريحاً: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 79].

وأهلُ العلم والدعوة، والفكرِ النزيه، والشرفاءُ، وأهلُ المروءةِ والكرمِ… هم المؤهلون لهذه المهمة الشريفة.

معركة الفكر والقيم في عمقها وأهدافها:

مما ينبغي أن يُتفطن له على الدوام وفي أزمنة الشدائد على الخصوص، أن رحى المعارك الدائرة في الفكر والقيم، وبين الأخيار وخصومهم، أعمق مما يتصوره البسطاء، ولا بد من كشف ما يريد أن يسطحه أهل الريب، ذلك أنهم وحتى لا يُتفطن لمكرهم يُبسطون طروحاتهم، ويلبسونها لبوس (التجديد) و(التطوير) و(الانفتاح)، أو غير ذلك من مصطلحات خادعةٍ، لتُمرر هذه الطروحات وتُقبل، ولا يجترئ معترضٌ عليها حتى لا يُرمَى بالتخلف والرجعية أو نحوها من ألقاب (تحييد) و(محاصرِة) للرافضين للفساد.. فليُنتبه لهذا جيداً.

وثمة أمرٌ آخر ينبغي التفطن له، وهو أهم، وذلك بتصوير الفكرة أو المشروع المراد بأبسط مظاهرِه، وعدم الإفصاحِ عن أهدافه العميقة، وذلك لسهولة تقبله حين يفصل عن توابعه وآثاره.. ولعله بالمثال يتضح المقال، وقضية المرأة نموذج صارخ، وخذ على سبيل المثال (قيادتها للسيارة)، فالأمر لا ينتهي عند القيادة، بل يراد الوصول إلى (الحجاب)، ويراد (تحرير المرأة من قَوامة الرجل)، ويراد (نشر الفساد، وابتزاز المرأة)، ويراد (سفرها بلا محرم) و(تصوير المرأة) وضرورة إيجاد (شرطة نسائية).. وهكذا قُل ما شئت من أمور ستتبع (قيادتها للسيارة)؛ ولذا فمن البساطة والتغفيل مناقشة الأمر مناقشةً فقهيةً تنتهي عند حدود (ألم تركب المرأة البعير؟)، أو (طرح الخلاف الفقهي في تغطية وجه المرأة)، أو حكاية (المرأة والسائق الأجنبي).. أو نحو ذلك.. مما لا يقيم أهلُ الريب له بالاً، بل يهدفون إلى ما أبعد من ذلك.. هذا نموذجٌ وقِسْ عليه غيرَه مما يطرح أحياناً، ويلبَّس في طرحه، أو يُهون من شأنه.. وعلى أهل العلم والفكر والرأي أن يُجلُّو الصورة، ويكشفوا مخطط الفساد.. وحتى يتأكد الأمرُ وفي قضية المرأة طرحت تباعاً (الاختلاط في المراحل الأولى)، و(المرأة والرياضة)، و(المرأة والأندية النسائية)، وأخيراً (حضور المرأة للمدرجات الرياضية)، ودمج المرأة مع الرجل، و(عمل المرأة في المستلزمات النسائية)… إلخ القائمة التي تؤكد أن القضيةَ (مشروعٌ متكاملٌ لتغريب المرأة) من التغفيل أن يفصل بعضُه عن بعض.. ولعل الأنظمة الصارمة والمدونة في سياسات بلادنا عطلت تنفيذ هذه المشاريع برهةً من الزمن، ولعل الأغلبية الساحقة وفي بلادنا كذلك والرافضة لهذه الطروحات الغريبة، تعطلها مستقبلاً، لا سيما إن انضم إلى ذلك وعود من المسؤولين في بلادنا بعدم الاستجابة لهذه المطالب المخالفة لقيمنا وأنظمتنا.

تمايزُ الصفوف:

ففي أزمان الأزمات والفتن، تتجلى المواقف، ويتمايز الناسُ، وإذا قيل لخير القرون على أثر مصاب أحد: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، فغيرهم بالتمييز من باب أولى، وهنا يتسنى لأهل العلم والدعوة أن يتعاملوا مع الناس حسب مواقفهم، وأن يرصدوا ويكتشفوا المواقف وأصحابها على حقيقتهم.

حتى لا يُخترق العلماء والأمراء:

هؤلاء هم أولو الأمر، وهم يُعلمون الناس ويقودونهم، يُسألون فيفتون، ويأمرون فيُطاعون، بصلحهم يصلح الناسُ، وباجتماعهم على الحق يسعد المجتمعُ، وبتعاونهم على البر والتقوى تأمن البلادُ والعبادُ، ومن حظهم وحظ المجتمع أن يوفقوا لبطانةٍ صالحةٍ تدلهم على الخير وتعينهم عليه، وقاتل الله (بطانة السوء)؛ فكم أفسدوا ما بين الحاكم والمحكوم، بل وبين العالم والأمير، ومن قرأ التاريخ بعمق وجد علاقةً بين صلاح الراعي وصلاح من حوله، ووجد أثرَ ذلك في العدل والاستقرار والرخاء، كما يشهد التاريخ على أثر بطانة السوء على أولي الأمر في حصول الفتن، وانقسام الناس، ونزع الثقة، وتأرجح الطاعة المشروعة، والمصلحون أقدر الناس على قراءة التاريخ، وبيان آثار القطيعة بين العلماء والأمراء، وأحرى الناس بنصح الأمراء، وتحذيرهم من بطانة السوء، وشؤم المنتفعين لأنفسهم على حساب مصالح المجتمع والدولة… ودعونا نضرب لنوعي البطانة نموذجاً من التاريخ، ونقرأ آثارهما:

أما نموذج البطانة الصالحة ففي الدولة (الأموية) ومع الخليفة (سليمان بن عبد الملك) – رحمه الله – حيث كان (رجاء بن حيوة) – رحمه الله – كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك، وهو ثقةٌ عالمٌ فاضلٌ، وقد أجرى الله على يديه الخيرات (كما نقل الذهبي في السير: 4/558 – 560)، وليس يخفى أن (رجاء) هو الذي أشار على (سليمان) أن يكون الخليفة من بعده (عمر بن عبد العزيز) – رحمه الله – في قصةٍ تمتلئ بها كتب التاريخ، ومعلوم ما حصل للمجتمع والدولة والأمة باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر عهده بالعدل والرخاء.

أما النموذج الآخر: فكان في الدولة (العباسية)، وفي زمن (المأمون والمعتصم والواثق)، حين وقعت (فتنة القول بخلق القرآن)، وامتُحن الناسُ، وأوذي العلماءُ، وحصل تفرق وشرورٌ وبلاءٌ وفتنة، وكان قطبا رحى هذه الفتنة من بطانة السوء:

أ. (بشر بن غياث المريسي)، قال عنه ابن كثير: شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون [البداية والنهاية: 10/118]، وقال كذلك: كان المأمون على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم (بشر المريسي)، فخدعوه وأخذ عنهم المذهب الباطل، ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهراً، وذلك في آخر أيامه.. [البداية والنهاية: 10/312].

ب. (أحمد بن أبي دؤاد)، وعنه قال الخطيب: كان موصوفاً بالجود والسخاء.. غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن، ثم نقل أنه ولي قضاء القضاة للمعتصم ثم الواثق، وكان (ابن أبي دؤاد) هو الذي يمتحن العلماء، ويدعو إلى القول بخلق القرآن.. [تاريخ بغداد: 4/142].

وقال الذهبي عنه: ابن أبي دؤاد: جهمي بغيض [الميزان: 1/97]، وقال في السير: كان ابن أبي دؤاد يوم المحنة أَلِباً على الإمام (أحمد) يقول: يا أمير المؤمنين، اقتله، هو ضال مضل [11/170]، ومعلوم ما جرى بسبب هذه المحنة من الشرور، حتى قال ابن كثير: وهذه المحنة التي هي أُسُّ ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن[13]، وفي النهاية، وبعد السجن والأذى، ينصر الله الحق بـ (المتوكل)، ويعلو ذكر الإمام أحمد، ويطلبه (المتوكل) مستشاراً فيعتذر.

أما ابن أبي دؤاد فيبتلى بمرض (الفالج)، فيبقى طريح فراشه، لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحُرم لذة الطعام والشراب والنكاح[14].

أما الخلفاء (المأمون والمعتصم والواثق) فيصف حالهم (المتوكل) حيث يقول حين كتب رجل رقعةً إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين، إن أحمد يشتم آباءك، ويرميهم بالزندقة. فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.. ثم أمر أن يضرب الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط، فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوطٍ؟ قال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف الرجل الصالح أحمد بن حنبل[15].

وإذا كان ما سبق نموذجاً للتأثير على الخلفاء، فالعلماء كذلك يتأثرون أو يُؤثر عليهم، وفي فتنة القول بخلق القرآن السابقة، وقع تأثيرٌ (أو اختراق) للعلماء حتى أجاب لهذه الفتنة طائفةٌ عد منهم ابنُ كثيرٍ ما يزيد على ثلاثين عالماً، ومنهم جهابذةٌ في العلم، أمثال: يحيى بن معين، ومحمدِ بن سعد (صاحب الطبقات)، وأبي خيثمة (زهير بن حرب)، وبشرِ بن الوليد الكندي، وأبي نصر التَمَّار… وغيرهم[16].

بل ذكر ابنُ كثير أن المأمونَ دعا إلى هذه الفتنة خلقاً من مشايخ الحديث، والفقهاءِ، وأئمةِ المساجد، وغيرِهم، فأجابوا؛ لأنه (وكما ذكر ابن كثير) كان يعزل من لا يجيب عن وظيفته، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء، وإن كان شيخَ حديثٍ رُدعَ عن الإسماعِ والأداءِ، ووقعت فتنةٌ صماءٌ، ومحنةٌ شنعاءٌ، وداهيةٌ دهياءٌ، فلا حول ولا قوة إلا بالله[17].

وهنا ينبغي أن يفرّق بين من أجابَ مُكرهاً، ولعل أكثر هؤلاءِ العلماءِ كذلك، ومن أجاب دون إكراه، ولهذا دافع الذهبي عمن أكره منهم، وعلق على كون الإمام أحمد لا يرى الكتابةَ عن أبي نصر التَمَّار ويحيى بن معين بقوله: «قلت: هذا أمر ضيق، ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملاً بالآية، وهذا هو الحق، وكان يحيى رحمه الله من أئمة السنة، فخاف من سطوة الدولة، وأجاب تقية»[18].

مدُّ الجسور وتجسير العلاقات مع شرفاء الناس وعامتهم والحذر من أهل الريب والتلون:

وهذا متمّم لما قبله، إذ لا يكفي (معرفة الخبيث من الطيب)، بل يمكن الاتصال والتنسيق والتعاون مع أصحاب المواقف المشرفة دعماً لهم، واستفادةً مما لديهم، وتعاوناً معهم على البر والتقوى، وتوسيعاً لدائرة أصحاب الحق، مع رصد خطوات الباطل وكشف المبطلين، وهل يخفى أن العامي من الناس قد يكون له دورٌ في تثبيت العالم الجبل، وقصة الإمام (أحمد بن حنبل) مع أعرابي (الرحبة) (جابر بن عامر) الذي قال لأحمد.. أنت إمامُ الناس فاثبت… إلخ القصة المشهورة.

بين المسكنات والاستراتيجيات.. لا بد من (المبادرة) حين الفتن لتسكنها، والتقليل من مساحة شرورها وتأثيرها، وذلك بالبيان العاجل، وحضِّ الناس على الثبات، والتثبيت، وعدم الاستعجال بالأقوال أو الأفعال إلا بدليل وتثبت: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وإيضاح الحق ولزومه، وكشف الباطل ورموزه.. وهكذا من خطوات عاجلة ومسكنة.. وثمة ما هو أبقى وأهم، ألا وهو التفكير بمبادرات طويلةِ الأجل، ومشاريع (عُمْرِية)، سواء كانت فرديةً أو جماعيةً، لا تتأثر بالأزمات، بل تسهم في علاجها بشكل مُعمّق، وهنا لا تُستنفد الجهود كلها في أُطرِ (الدفاع)، بل يكون لجهود (البناء، والمشاريع الاستراتيجية) نصيبٌ كبيرٌ في الإصلاح والدعوة، ونشر الحق ومدافعة الباطل.

وبين المشاغلة والدعوة:

إذ لا بد من (مشاغلةِ أهلِ الباطل) والاستمرار في الإنكار عليهم مشاريعهم الإفساديةِ والتغريبيةِ، وفتح الملفات كلما ظنوا أنها أغلقت واستقرت، وبأرقى الوسائل، وأنجع الطرق، فتلك مدافعةٌ مشرعةٌ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، ومع المشاغلة لا بد من استمرار سوق الدعوة، وعدم التوقف عن مشاريع الخير، وطرح المبادرات إثر المبادرات، فتلك تعطي فرصاً لانتشار الخير، وتمنحُ فرصاً للراغبين في عمل الخير، وتؤسس لأعمال ومشاريع مستقبلية يصعب تجاهلها أو إلغاؤها، وهي في النهاية من أمضى وسائل محاربة الباطل وتحجيم المبطلين.

الرقي بمستوى الخطاب الدعوي:

لا شك أن خطاب القرآن منطلق مهم في الدعوة والإصلاح، فالتأمل في آياته بعمق، ورصد تجارب المرسلين، وطرائق دعوتهم بوعي؛ يسهم في رفع الخطاب الدعوي، وثمة منعطفٌ مهم في الرقي بمستوى الخطاب الدعوي ربما كان غائباً أو ضعيفاً فيما مضى، وقد آن الأوان لتفعيله حاضراً ومستقبلاً، ألا وهو (ثقافة الحقوق) في الخطاب الدعوي، فنحن في زمن (المرافعات) و(المحامين) و(دعاوى الاعتراض)، و(المطالبة بالحقوق)، و(المنظمات والهيئات)… إلى غير ذلك، ومهما كان نصيب المصداقية منها، أو نسب قبولها، فيمكن استثمارها في الخطاب الدعوي المعاصر، أو غير ذلك من أنماط (مشروعة) للرقي بمستوى الخطاب الدعوي، وتجديد وسائله.

رصد الأزمات والتحري والدقة في رصد الأحداث وتسجيلها:

فما يقع اليوم سيصبح تاريخاً للغد، والأجيال المعاصرة للحدث إن احتاجت إلى معرفة الحقيقة دون تلبيس، فحاجة الأجيال القادمة التي لم تشهد هذه الأحداث أشد؛ لتستفيد من عبرها ودروسها، وحتى لا تبدأ الطريق من بنيان الأولى في أحداث تتكرر وتتشابه، وليس من فارق فيها سوى فارق الزمان أو المكان.

حرب الإعلام:

معارك اليوم تعتمد الإعلام، وتتكئ على آلاته الحديثة، وقنواته واسعةُ الانتشار، بالغة الأثر.. ومن هنا فلا بد لأصحاب الحقِ أن يأخذوا بنصيبهم الوافر من هذه الآلة المؤثرة في المعركة، فيدعموا (القائم المفيد)، وينشئوا (الجديد)، ويهتموا بوسائل الاتصال المجتمعية الحديثة، حتى تكون هذه وتلك عوناً لهم على بيان الحق، وكشف الباطل، وحتى لا يضطروا إلى وسائل أو مؤسسات إعلامية (لا يملكونها)، وقد تخونهم أحوج ما يكونوا إليها.. وهنا مسؤولية مشتركة، فإعلاميون متميزون يقترحون ويخططون، ومفكرون وعلماء يدعمون بعلمهم وفكرهم، وأغنياء ومنفقون يدعمون بمالهم، وشركات إعلامية لها سبق، وبيوتُ خبرة تتبرع بتجاربها وتقصر الطريق على المبتدئين.. وهكذا تتكامل القوى، ويتعاون الناسُ على البر والتقوى، وفي النهاية سيكون لهذا الإعلام دورٌ في محاصرة ترويج الباطل عبر آليات ووسائل إعلام فاسد، يعتمد الكذب وتزوير الحقائق، وفتنة الناس.

الفأل الحسن وحُسن الظن بالله:

فالفألُ الحسن دائماً وفي زمن الشدائد بالذات، نهج الأنبياء عليهم السلام وأتباعِهم، وأول الرسل صلى الله عليه وسلم تتقاصرُ القرون في دعوته، وصبره وحسن ظنه بربه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] حتى أخذهم الطوفان، بل بلغنا بالخبر الصادق أنه دعا قومه (ليلاً ونهاراً) (سراً وجهاراً) وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم قال لصحابه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وأُوحِي إليه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، وفي سيرته العملية دروسٌ في الفأل وحسن الظن، يكفي من ذلك أنه في غزوة (الأحزاب) وزلزلة أهل الإيمان يَعِدُ أصحابَه حين الاستعداد للمعركة وهم يحفرون الخندق بفتوحات ستكون في الشام، وفارس، واليمن، وفي نهاية المعركة يبشر المسلمين ويعدهم على أثر الهجمة الشرسة للأحزاب ويقول (متفائلاً) بمستقبل زاهرٍ للإسلام والمسلمين: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم)، وقد كان، فلم يغزُ المشركون المدينة بعد الأحزاب، وفي رواية: ففرح المسلمون واستبشروا[19].

وبين نوح ومحمد (عليهما الصلاة والسلام) موسى عليه الصلاة والسلام، يعِدُ قومَه (بني إسرائيل) ورغم الاستذلال والاستضعاف بالقوة والتمكين: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 128-129]، والنتيجةُ تحقق وعدُ الله، وصدق فألُ موسى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137].

إن على أتباع المرسلين أن يبعثوا هذه الروح المتفائلة دائماً، لا سيما حينما تنقبض النفوس وتصاب بالإحباط على أثر الضربات والصدمات المتتالية، وأن يربطوا الناسَ بخالقهم، فلا يقع شيءٌ في هذا الكون إلا بإذنه.

والدعاء سلاحٌ متين:

به يُكثر القليل، ويُهزم الجمعُ، ويتهاوى الظلمُ، وينتصر المظلومون، وطالما فرطنا في هذه العبادة والعبودية لله (الدعاء هو العبادة)، به استنصر المرسلون، وبه كشف اللهُ الضراءَ، ومنادي السماء يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، والرحمن يذكرنا برفع البأساء ويقول: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43].

ومن الدعاء المطلوب: التعوذ بالله من الفتن، وجماعها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وفتنة القبر، ومن فتنة النار)[20].

حتى لا يَخْلَقُ الإيمان:

فالإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد ثبت في الحديث: (إن الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)[21]، والواقع يشهد أن الأزمات والفتن تحرك الإيمان، فإما أن تزيده أو تنقصه، ومن علائمِ أهلِ الإيمان أن الفتن كلما اشتدت كلما زاد سوقُ الإيمان في قلوبهم، أوليس الله قد قال عن خيار الأمة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ومن علائم أهلِ الريب والنفاقِ أنها تضيقُ صدورُهم بالنازلات والمحن، وربما ودّوا أنهم خارج دائرة المكان، أو لم يكونوا في ذلك الزمان، وقد قال الله عنهم: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}، وفي الآية الأخرى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].

وكثرة العبادة برهان على الثبات:

فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، وإنما الإيمانُ عقيدةٌ، وتكاليفٌ، وعبادةٌ، وأياً ما كانت هذه العبادةُ خاصةً لذات الإنسان لتزكية نفسِه وفلاحِها، أو متعديةً لنفع الآخرين ودعوتهم.. فتلك مؤشرٌ على استقرار النفس، وعظيمِ الثقة بالله، والقربِ منه، والأنسِ بعبوديته، وحيث تشحنُ النفوسُ في الفتن وربما انشغلت بالقيل والقال، أو مجرد متابعة الأخبار، كان أجر العبادة في الهرج (الفتن) كهجرة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم كما صح الخبر بذلك: (العبادةُ في الهرجِ كهجرٍ إليّ).

مشاريع جماعية ورسم خريطة طريق مستقبلية:

وحين تكون الهجمةُ على أهل الإسلام جماعيةً، ومن أصحابِ المللِ والنحلِ، أو الأفكارِ الهدامةِ؛ فلا بد أن يكون اتقاءُ هذه الهجمة بشكل جماعي، يتداعى فيه المسلمون وبكافة شرائحهم وأعمارهم وأجناسهم للتعاون على البر والتقوى، والتناصرِ، والتناصحِ، وجمعِ الكلمةِ، وردمِ فجوات الاختلاف، ومن لم يستطع القيام بوحده بمشروع لخدمة الإسلام، يمكن أن ينضمَّ إلى غيره، وهكذا تتضافرُ الجهودُ، وتستثمرُ الطاقاتُ، ولا يبقى في المجتمع عاطلٌ أو مترددٌ، فالحكم لله، ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وعليكم بالجماعة فإن يدَ الله مع الجماعة، وإذا توحد من أصلهم الافتراق كان حقاً على أهل السنة والجماعة أن يتحدوا ويتعاونوا، ولا بد من الوعي بأن أعداءَ الأمة (يمرحلون) خصومهم، لكنهم في النهاية يستهدفون كلَّ من وقف رافضاً سبيلهم، مستنكراً هجمتهم، وإن بدأوا (بالثور الأسود) (فالأبيض على الطريق).

والحذر الحذر من الانتكاسة، والحور بعد الكور.. فالهداية فضلٌ من الله وتوفيقٌ.. والثباتُ على الحق حتى الممات فضلٌ ومنَّةٌ.. وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»[22].

لا بد من الوقوف عند أحاديث الفتن وتأمّل فقهها، ولا بد من الدروس والمحاضرة في الثبات وعوامله، ولا بد من أحاديث عن الانحراف عن صراط الله المستقيم ومخاطره.. وفي النهاية لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، والدعاء بالثبات مطلب.

 نعم، هم القدوات والمنارات، والظن بهم الثبات والتثبيت للناس، وحيثما زلوا أو ضعفوا كان الضعفُ والانحرافُ لمن وراءهم كبيراً.. لا بد من العلم والحذر من فتنة الشبهات والشهوات.. ولا بد من الإكثار من قراءة سير الثابتين، وفي مقدمتهم الأنبياءُ والنبلاءُ، ولا بد من تواصيهم بالحق، وتواصيهم بالصبر، وقبل ذلك وبعده لا بد من سؤالهم وإلحاحهم على ربهم بالثبات أسوةً بمن سلفهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

ألا يا عباد الله فاثبتوا.. وثبِّتوا تغنموا ويسلم غيرُكم.

تصحيح المصطلحات وقلب التهم:

ثمة مصطلحاتٌ يتلاعب بها المبطلون، ويُوصف بها البرآءُ من الناس، وفي كل حينٍ تُرحّلُ التهمُ إلى آخرين، حتى تتم محاصرةُ الأخيارِ، بل المتدينين بشكل عام، بهذه الألقاب المثيرة للمجتمع، مثل مصطلحات (التطرف)، و(الأصولية)، و(الإرهاب)، وهكذا من مصطلحات جديدة تروّج الآن، وما من شك أن (الإرهاب) منه محمودٌ كما في قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، ومنه مذمومٌ، وهو ما تجاوز به المرءُ حدودَ الله، وأرهب خلقَ الله بغير حق. وكذا (التطرف) مذموم لكن بشقيه (الغالي، والجافي).. وهكذا تُحرّرُ المصطلحات، ويُمنع تلاعبُ أهل الريب فيها وتصديرها.

ومن الجميل كذلك ومع تحرير المصطلح أن يُقلبَ على أهل المنكر منكرُهم، وتُرد إليهم بضاعتُهم، ويوصفون بما يستحقون، ومصطلح (الاسترهاب) مصطلح قرآني{وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]، وهذا المصطلح (الاسترهاب) خليق بمن يتهمون بغير حق، ويُرهبون بلا برهان، فهل نسوّق لهذا المصطلح الشرعي الغائب عن الساحة؟

ركنا الصدع بالحق وأقل درجات الإنكار:

ليس يخفى درجاتُ إنكارِ المنكرِ في السنة.. لكن هناك مقولة جميلة للذهبي حدد فيها ركنين للصدع بالحق فتأملوها، قال الإمام الذهبي – رحمه الله – في ترجمة (الإمام أحمد): (الصدع بالحق عظيمٌ، يحتاج إلى قوةٍ وإخلاصٍ، فالمخلصُ بلا قوةٍ يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يُخْذَلُ، فمن قام بهما كاملاً فهو صِدِّيقٌ، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله)[23].

فقه إدارة الأزمات:

لا بد من فقه في إدارة الأزمات يحافظُ على المكتسباتِ، ويحقق مزيداً من المنجزات، ويفرق بين ما يصلح في مكان دون مكان، أو زمان دون آخر، والقراءةُ الفاحصةُ للأحداث بعمقٍ يتجاوزُ الوقوفَ على مجرد الأسباب للأزمة إلى عمقها وآثارها، والموقف الشرعي منها، وكيف الخروج فيها بأفضل المكاسب وأقل الخسائر.. ومن تأمل في سيرة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – وجد فيها فقهاً وعمقاً لإدارة الأزمة حري بأتباعهم أن يقتدوا بهم.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى