مقالات

أين الطريق للأمة الواحدة؟

بقلم مهنا الحبيل.

كان هذا السؤال محل اهتمام مركزي من قبل جمع كبير من العلماء والباحثين والمثقفين المسلمين، في حينها لم يكن مصطلح الإسلاميين رائجا بل المسلمين، وإن ورد المصطلح فهو يعني نخبة المهتمين بإعادة وحدة الأمة الممزقة.

وهو الوحدة التي تصدعت بعد عزل السلطان عبد الحميد عام 1909، قبل أن تسقط السلطنة نهائيا، كرمزية للوحدة ولا أقول الخلافة، لأنه من الخطأ الشائع منح مصطلح الخلافة الشرعية منذ العهد الأموي وتثبيته، دون تحقيق لمناطه الشرعي والإصلاحي، حيث يستند إلى إمام أجير يُصلح شأن الأمة ولا يستبد بها أو عليها.

هذه الصدمة لم تكن حصرا على الفريق المناصر للسلطنة العثمانية، بل شملت حركة الإصلاحيين الإسلاميين الذين تألموا كثيرا، من تأخر الإصلاحات في الدولة العثمانية ومحاربتها لهم، والذي ساعد التكالب الأُممي ضدها، وأوجد فجوات كبيرة في هيكل الدولة من الأستانة إلى أقصى أقاليمها، حيث شعر الجميع بعدها أن هذا التفكك يقود إلى مستوى خطير من تهيئة الاجتياحات التي تحققت بالفعل عسكريا، ثم انسحبت وبقيت سياسيا.

وهي اليوم تعود في صورة عسكرية متعددة تحت ذرائع مختلفة، بعد أن سقطت الأمة في أمراضها الداخلية، من أدخنة ثقافة غربية، لا تفيد الإنسان بل تُضيعه، إلى غلو جامح توحّش مدنيا قبل عسكرته.

وفي وسط كل المسارات، كانت تكمن قوة الاستبداد التي فتكت بكل محاولة لصناعة مجتمع قوي في أقطار المسلمين.

ويعود سؤال البحث اليوم في ظل عاصفة شديدة، من الاجتياح السياسي والعسكري، الذي بدأ ولم ينته، وفي أجواء فشل عن تحقيق أي حد أدنى للتنسيق بين أقطار المسلمين، ولو لحساب مصالح تجمع أمن الشعوب وأمن الحكومات على أمل صد هذه العاصفة التي تتقدم بصورة مقاتلة روسية وعمامة إيرانية، رغم جغرافية طهران التي تنتمي للشرق الإسلامي، لكن الحقيقة أن الغرب القديم، كما يُطلق عليه، لا يزال اللاعب الأصيل في المنطقة.

وفي هذا السياق جاء إقدام أنقرة أخيرا على بدء اتصالات مع تل أبيب، وهي اتصالات حقيقية مهما بررها البعض وأوّلها، ولكن غير صحيح ما روّجه البعض إعلاميا من استهدافها لـ حماس، لكنها مؤشر على الوضع الذي وصلت له أنقرة في الشعور بالخذلان الخطير.

ولسنا هنا في معرض الملامة للعداليين، ولا نُسقط قدرتهم المتمرسة على المناورة، والخروج من هذا التهديد الذي تدفع به أوروبا وطهران أحلام القيصر الأحمق، لكننا نطرح مسار تفكير مهم، هو من مسؤولية المثقف، الذي يجب ألا تجره حفلات التصفيق عن توصيف الحقيقة والبحث عن الدواء، برؤية العقل لا حماسة العاطفة.

إن هذا الموقف لحزب العدالة المتفهمة دوافعه والضغوط الشرسة التي تحاصره، وهي ضغوط تُصرح مباشرة بالحاجة إلى إنهاء تجربة الحركة الإسلامية في تركيا، أو ما يُسمى بالأردوغانية، لا يمنع من التذكير بالحاجة الماسة لوعي الإسلاميين وتأملهم العميق، والتوازن المسؤول في تقدير هذه الاتصالات والاتفاقات مع الإسرائيليين لدى حزب العدالة ولدى غيره من الأطراف.

نعم هناك اختلاف كبير بين من يعقد اتفاقات لأجل تأمين ظهره وسحق شعبه، ولاعتبار الجسور مع تل أبيب شراكة له مع المشروع الغربي تدافع عن نظامه، مقابل حصاره للمقاومة الفلسطينية وتوهين الصف العربي والمسلم، وبين تجربة سياسية صعبة عبرت توازنات مهمة من خلال المشروع الديمقراطي، وحصلت على شرعيتها السياسية بأصوات الشعب، ولكن موازينها مع القوى الخارجية، والحصار الإقليمي لها، لا يجعل لها إلا خيارين: المناورة السياسية الصعبة مع أطراف معادية تاريخيا للأمة، أو مواجهة المتطلب الدفاعي للدولة ومشروعها الديمقراطي الجديد الذي يقوده إسلاميوها، ولكن مع قاعدة شعبية مختلفة الميول، لم تفوّضهم لحروب كبرى، وإن قادت الأحداث لها دون خيار، وهو موجود في تاريخ تركيا القديم والمعاصر، دون إسلامييها الجدد.

لكن المنظور الإسلامي اليوم يجب ألا يهرب من هذه الزاوية وأن يخرج من تقديس تجربة إسلاميي تركيا واجتهاداتها، ومنها مد جسور العدالة مع تل أبيب، لغرض العبور من هذه المرحلة كبعد أولي، وإن كان الطريق المائي الدولي لـ غزة الذي يتبناه العدالة مشروعا إستراتيجيا، يُسقط معادلة الحصار، لكنه لم يكن البعد الرئيس في الاتفاق الأخير بين تل أبيب وأنقرة.

ولذلك، فـ الحالة الإسلامية تحتاج إلى كثافة وعي وهدوء، وتخفيض الرؤية العاطفية الجامحة، وإعادة تقييم التجربة الناجحة والمؤثرة جدا في تركيا، كمسار اجتهادي لم يُكمل حقبته بعد، وأمامه تحديات صعبة، لم ينته مشهدها الكبير.

إن هذا الحال يكشف اليوم بجلاء أن واقع الدول القُطرية لا يمكن أن يحقق الحد الأدنى من الصمود، وأن الحاجة إلى تكتلات الأمة ضرورة عقلية واضحة كما أنها فريضة أممية جامعة، وهو سؤال الإسلاميين الأوائل الذين عاصروا الصدمة، وشعروا بتأثيرات سايكس بيكو.

لكنهم سعوا بما يستطيعون لردم هذا التفرق، وحاولوا إحياء مهام الوحدة الأممية، في نقل التضامن والتبرع بين أطرافها، واستثمار تركيبة الصراعات المختلفة لتكون جسورا لعبور المساعدات، وخاصة لتحقيق الاستقلال، أمام القوى الاستعمارية.

وتحدي اليوم يبدو أصعب، وما جرى من محاولة نهوض وبعث فكرة الإسلام في الأمة من جديد، انتشر بصور مختلفة، بعضها يحمل عناصر انشطار وتقسيم للمسلمين، وبعضها يبالغ في نظريته الأيديولوجية حتى يكاد أن يُحلها مكان الإسلام، مع وجود خيرية ومساهمة لهذه المدرسة وتلك، لكن شراسة صراع بعضها لم يكن وليدا للاستبداد وحسب، ولكن لإشكاليات ذاتية في هذه المدارس والحركات.

أما العنصر القاتل فهو حصار أو وأد الاستبداد لكل حركة تجديد فكري وإصلاح سياسي، رغم أن هذا الحراك سعى جاهدا ليتجنب التصادم ويسعى لصناعة مجتمعه ثقافيا، على أمل أن تنهض أقطار المسلمين وطنيا، ثم تتشكل في اتحاد أممي قادر على مواجهة مثل هذه التحديات والمؤامرات.

إن الإيمان بالنزعة الدينية التكفيرية لدى الغرب المسيحي، ومؤامراته ضد أمة الشرق كان واضحا طوال فترة مسيرة الاستقلال، وهو تكفير اجتماعي عنصري وليس إنسانيا، لأنه يُصر على فرز الشرق من معادلة الحضارة الجامعة، ويمارس تكفيرا دينيا محضا قد يختفي خلف علمانية المؤسسة الغربية، ولكنه يعود ويظهر في سياساتها وخطاباتها بكل وقاحة، بوجود الراهب المسيحي المتطرف وبغيابه.

ولم يكن ذلك خافيا عن مبشري النهضة الإسلامية -وهذه النقطة مفصل مهم للغاية- بل كان هذا التعصب والتشدد المسيحي الغربي موجودا مرصودا في أعينهم، وكتاباتهم، إلا أنهم رأوا أن حفلة الخطب التي تشتعل في حاضر العالم الإسلامي، وتُلقي كل اللوم على المستعمر السياسي والعسكري، وتُهمل أوبئتها، كانت في ذاتها مرضا، يعيق دعوات الصناعة الذاتية للشرق الإسلامي قُطريا وأمميا وإنسانيا، لغالبية الأمة ولطوائف الشرق المتعددة ولرسالته لإنسانية العالم.

وكان هذا الهاجس يقوم على عقيدة نضالية حضارية، لثلة من العلماء والمثقفين المسلمين، من تحالف النهضويين المتعددي المشارب، بأن هذا الطريق هو مشروع صناعة البنية التأسيسية، التي تمنح الأرض والإنسان، العقل المسلم المعاصر الراشد، لتُبنى عبره الأسس والمقدمات الانتقالية لطريق الأمة الواحدة.

أمة واحدة لا يختزلها مصطلح خِلافة، وهي فراغ واحتراب ذاتي بشع، أو تخلف وثيوقراطية مريضة، ولكنه هيكل وحدة يقوم على مؤسسة جامعة متكافلة في اتحاد إسلامي عام، لا مؤسسات علاقات عامة باهتة بين منظمة وجامعة، وليست مؤتمرات موسمية، ولكن قوة ذاتية متحدة، تعلن للخصوم أحقيّتها الطبيعية التي لا تنتظر شروطهم، وإنما تطرح رؤيتها الموحدة، بخطاب الإسلام للعدالة الإنسانية الجامعة.

والسؤال هنا، ليس إعادة حكايات الحُزن والإحباط أمام نهر الدماء، وتعدد النكبات، لكنه في مدار محدد يتساءل ويُذكر: هل أَنجزت طاولة الفكر الإسلامي المتطلب الثقافي للمشروع؟ وهل يُعذر القلم الإسلامي النهضوي من كل طيف شرقي، بسبب محاصرته من قطاع الطرق المستبدين ومن الشعبوية الساذجة؟ أم أن الفكرة هي مقدمة لرحلة المشروع، والأمة التي لا مشروع لها ولا وحدة جامعة تبنيها؟

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسملين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى