مقالات مختارة

أهمية علم المناسبات في القرآن الكريم

بقلم محمود حسن عمر

تعرَّض كثير ممن تناوَلوا موضوع المناسبة لذكر أهميتها، ومنهم الإمام البقاعي، وأبو جعفر بن الزبير، وقد تشابهت أقوالهم في الحديث عن أهمية علم المناسبات، وكان بينها قواسم مشتركة ومن ملامح أهمية علم المناسبة:

1- فَهْم مراد الله تعالى في كتابه، وعدم الوقوع في اللبس أو الخطأ أو التأويلات المغالى فيها؛ يقول الدكتور صلاح الخالدي: “استند كثير من القدامى والمعاصرين على هذا الجزء من قوله تعالى على لسان العزيز: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28] في القول بأن ذلك تقرير إلهي بأن كيد النساء عظيم؛ حيث غفلوا عن أن القائل هو العزيز، وكون القرآن أورد قوله لا يعني بالضرورة موافقته عليه، وكم قد اقتبس القرآن من أقوال الكفار والمنافقين! فضلاً عن أن هذا القول من العزيز دليل على ضَعف شخصيته وعجزه أمام انحراف زوجته”[1].

2- أن المناسبة في أحايين كثيرة تكون مفتاح معرفة حِكَم القرآن ودُرره:

والدليل على ذلك قول الإمام الرازي: “إن أكثر لطائف القرآن مُودعة في الترتيبات والروابط”[2]، وقد أكد البقاعي أن المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف، بديعة الرصف، عالية الأمر، عظيمة القدر[3].

وقال الشيخ عبد الحميد الفراهي: “ولَمَّا كان أكثر الحِكَم ومعالي الأمور مَخبوءة تحت دلالات النظم، فمَن ترك النظر فيه ترَك من معنى القرآن مُعظمَه”[4].

يقول الدكتور طارق مصطفى محمد: “ويجد القارئ أن المفسرين والمشتغلين بعلوم القرآن والدراسات القرآنية، كثيرًا ما يتوقفون عند السر في اختتام آية ببعض الأسماء الحسنى واختتام غيرها بغيرها، وكذا التوقف عند ما أسْمَوْه براعة الاستهلال بالنسبة لسورة معينة، أو حُسن اختتامها، والمعنى من تتالي آيتين أو سورتين، زائدًا على القول السابق في تفسير كل منهما على حِدَة، ومثله في ترتيب المواضيع في الآية الواحدة، كالسر في ترتيب أركان الإيمان في الآية الكريمة ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ… ﴾ [البقرة:285]، أو الحكمة في ترتيب وجوه البر في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ… ﴾ [البقرة:177]، والمعاني من كون الفاتحة في أول المصحف، والمعوذتين في آخره”[5].

3- التناسب عامل فعَّال في إظهار الإعجاز القرآني وأحد ركائزه:

التناسب كما مرَّ وجه أصيل من وجوه الإعجاز القرآني، ودليل آخر على ربانية هذا الكتاب العظيم، وأنه معجز كله؛ يقول البقاعي في: “وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب”[6].

وقد قال الشيخ أبو بكر النيسابوري: “إن إعجاز القرآن البلاغي لم يرجع إلا إلى هذه المناسبات الخفية والقوية بين آياته وسوره، حتى كأن القرآن كله كالكلمة الواحدة ترتيبًا وتماسُكًا”[7].

4- المناسبة تكشف أهمية الأمور وقدرها:

وقد مثَّل الدكتور طارق مصطفى لذلك بقوله: “ومثال ذلك: معرفة سر اقتران طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله تعالى في كثير من الآيات، ومغزى مجيء الزكاة بعد الصلاة في عدة مواطن من كتاب الله، وأهمية الإحسان بالوالدين؛ إذ جاء تاليًا للأمر بالتوحيد في أكثر من موطن”[8].

وينقل الدكتور محمد عناية الله سبحاني عن الإمام عبد الحميد الفراهي الهندي قوله: “وقد عظُم بيان الجمعة عندي حين علِمت كيف مهَّد الله قبلها من ذِكر تسبيح ما في السموات والأرض، وصفاته الحسنى، وفضله على الأمة، وخُسران اليهود على استخفافهم بحُكم الله، فقد رغَّب، ثم رغَّب، ثم رهَّب، ثم ذكَر أحكام الجمعة”[9].

5- ومن أهمية علم المناسبات دفْع ما يُتوهَّم أنه تَكرار في القرآن:

تحدث كثير من المفسرين والبلاغيين عن التكرار، وذكروا أن القرآن خال من التكرار، وأن ما به مما يُوهِم وجود التكرار، فإنما هو تشابه، وقد تحدث البقاعي عن التناسب وأهميته في دفع توهُّم التكرار بقوله: وبه يتبيَّن لك أسرار القصص المكررات، وأن كل سورة أُعيدت فيها قصة، فلمعنى ادُّعِي في تلك السورة، استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سِيقت له[10].

يقول الشيخ سيد قطب: “ويحسب الناس أن هناك تَكرارًا في القصص القرآني؛ لأن القصة الواحدة يتكرر عرضها في سور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة أو حلقة من قصة قد تكررت في سورة واحدة – من ناحية القدر الذي يساق وطريقة الأداء في السياق – وأنه حيثما تكررت حلقة، كان هناك جديد تُؤديه ينفي حقيقة التكرار”[11].

6- يساعد علم المناسبة في ملاحظة اقتباس النبي وصحابته من القرآن ونظمه:

توجد أحاديث كثيرة وُجِد فيها تناص ومناسبة مع كثير من آيات القرآن الكريم، يقول الدكتور محمد عناية الله سبحاني: “فإذا تأمَّل الباحث نظامَ الآيات ورباط معانيها، ثم وصل إلى ما يجد له تأييدًا في كلام النبوة وآثارها – ازداد بذلك ثقة وارتياحًا إلى ما فتح الله عليه من خزائن حكمته، كما ازداد انشراحًا واقتناعًا بصحة ذلك الحديث الذي وجد له أصلاً في تنزيله”[12].

ومن أمثلة ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، فمَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاءٌ))[13].

فهذا الحديث مستفاد أو مُسترفد من قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30، 31].

ففي الآيتين أمرٌ للمؤمنين والمؤمنات بحفظ الفرج وغَضِّ البصر؛ خشية الوقوع في الزنا، وفي الحديث أمر بالزواج للمستطيع، وأمر بالصوم لمن لا يستطيع خشية الوقوع في الزنا، فحدثت بذلك مناسبة وتناصٌّ بين الآية والحديث، فالآية مثَّلت رافدًا للحديث، ومَعين أخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

————————————————-

[1] القصص القرآني؛ للدكتور صلاح الخالدي، ج2، ص 127، دار القلم، دمشق، ط1، 1419هـ – 1998م.

[2] التفسير الكبير؛ للرازي، ج 4، ص 110.

[3] نظم الدرر؛ للبقاعي، ج 1، ص 8.

[4] دلائل النظام؛ للشيخ عبد الحميد الفراهي، ص 38.

[5] التناسب في سورة البقرة؛ للدكتور طارق مصطفى محمد، ص 57.

[6] نظم الدرر؛ للبقاعي، ج 1، ص 7.

[7] الفصل والوصل؛ للدكتور بسيوني عرفة، ص 39، مكتبة الرسالة، القاهرة.

[8] التناسب في سورة البقرة؛ للدكتور طارق مصطفى، ص 58.

[9] إمعان النظر في نظام الآي والسور، ص 19.

[10] نظم الدرر؛ للبقاعي، ج1، ص 8، بتصرف يسير.

[11] في ظلال القرآن؛ للشيخ سيد قطب، ج1، ص 64.

[12] إمعان النظر في نظام الآي والسور؛ للدكتور محمد عناية الله سبحاني، ص 258.

[13] البخاري كتاب الصوم، حديث رقم (1905).

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى