مقالاتمقالات مختارة

أهمية التفسير الموضوعي في ترشيد الفكر الإسلامي

أهمية التفسير الموضوعي في ترشيد الفكر الإسلامي

بقلم طارق طه مكرم الله

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ الفرقانَ على عبدِه ليكونَ للعالمينَ نذيرًا، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ، الذي أرسلَه ربُّه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيرًا.

أما بعدُ!

فلا يخفى على أحد منا المستجدات التي تمر بها الأمة الإسلامية، من معطيات التقدم الفكري والحضاري، وفي المقابل ما تعانيه من أزمات متلاحقة، وما تواجهه من فتن متعاقبة، وما تكابده من أعداء متربصين، يمكرون لها ليل نهار، ولا سبيل للعصمة منها إلا بالعودة إلا القرآن الكريم الذي فيه هدىً وتبيانًا لكل شيء، فهو أُسُّ وجود الأمة المعنوي، ومبنى هُوِيَّتِها الحضارية، وقِوام كينونتها الاجتماعية، وقد تعددت لدي علماء الأمة سبلُ التعامل مع القرآن، وتنوعت عندهم مناهجُ فهمه استنباطًا وتنزيلًا، وما زعم أحدٌ منهم أنه استنفد معانيَه، وبلغ الغاية في استنباط أحكامه، ذلك أنه: ﴿لوكَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف:109].

وفي هذا السياق من مكانة القرآن في حياة المسلمين ووجودهم، اهتم العلماء بالبحث في قضايا المنهج -أو المناهج- الأنفع في فهم الخطاب القرآني، واستجلاء رسالته ودرك معانيه، فظهر مصطلح التَّفسير الموضوعي، بوصفه يمثل نمطًا علميًّا ومنهجيًّا جديدًا في الاستجابة للتطورات الحديثة، التي استجدت في حياة المسلمين، باعتباره منهجًا يساعدُ المفسِّر على استجلاء نظريات القرآن وقواعده في شتى شئون الفكر والحياة.

ولقد رأَيْنا علماءنا الكبار قد عَنُوا عناية كاملة بتفسير القرآن الكريم تفسيرًا جمع بين كل جهة في الكلام من مطول إلى مختصر، ومن واسع تعرض للمذاهب الكلامية والعلمية وبيان آراء الفرق والمذاهب، ومن ضيق اقتصر على البيان المطلوب، وأقل ما يقال في هؤلاء الأعلام أنهم أناس طوَّعَ الله لهم الزمن، وحباهم بفضل من عنده، حتى أفنوا أعمارهم في خدمة القرآن الكريم، فجزاهم الله عنا وعن القرآن خير الجزاء.

وهذا المنهج في التعاطي مع القرآن يسميه البعض التفسير العام، وهو ما يطلق عليه البعض بالتفسير التجزيئي أو الترتيبي، أو الموضعي، أو التحليلي كما هو مشهور عند معظم المشتغلين بالتفسير، والمراد بهذا المنهج هو الذي يتناول فيه المفسر القرآنَ الكريمَ ضمن إطاره آية فآية، وَفقًا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف؛ حيث يفسر القرآن الكريم قطعة قطعه، فيبتدأ المفسر بسورة الحمد، وينتهي بسورة الناس.

أما المراد بالتفسير الموضوعي فهو عبارة عن: الكشف الكلي عن قضية قرآنية بحسب الطاقة البشرية، أو بتعبير آخر هو الدراسة التي تطرح موضوعًا من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بموقف قرآني بصدده.

وعن طبيعة العلاقة بين المنهجين يقول الشيخ الغزالي: «وأنبه إلى أن التفسير الموضوعي لا يغني أبدًا عن التفسير الموضعي -التجزيئي- بل هو تكميل له وجهد ينضم إلى جهوده المقدورة»

وينبغي أن يكون واضحًا أن الفصل بين المنهجين ليس حديًّا على مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير، وذلك لأن المنهج الموضوعي بحاجة إلى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن إطار الموضوع الذي يتبناه.

وبناء على ذلك؛ فإن التفسير الموضوعي القائم على الخروج بمركب نظري من النصوص التي تدور حول موضوع واحد، متوقف على القيام بتجربة تجزيئية حول كل عضو من أعضاء هذا المركب؛ لأن المركب النظري يتوقف على أجزائه العضوية توقف الكل على أجزائه، ولكن المنهجين على أي حال يظلان على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما وأهدافهما وحصيلتهما الفكرية.

وعلى الرغم من شيوع هذا المنهج في التفسير، فإن أثره في رأي البعض كان سلبيًّا. ومن المأخذ على هذا المنهج الآتي:

أولًا: من ناحية الهدف؛ فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير، هو فهم مدلول الآية التي يواجها المفسر بكل الوسائل الممكنة، أي أن الهدف تجزيئي، لأنه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني، ولا يتجاوز ذلك غالبًا.

ثانيًا: من ناحية الحصيلة المعرفية؛ من خلال هذا المنهج في التفسير سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي، دون أن نكتشف أوجه الارتباط، والتركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، ودون أن نحدد نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة.

ثالثًا: من ناحية الأثر ويتمثل فيما يلي:

فقد أدت حالة التناثر ونزعة المنهج التجزيئي إلى ظهور المتناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، إذ كان يكفي هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه، لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع، كما وقع في كثير من المسائل الكلامية، كمسألة الجبر والتفويض. وهو ما نجده الآن لدى بعض الفرق والتيارات الذين يجتزؤون الآيات فيكفرون ويبدعون أو يقعون في الأحكام الاستنتاجات الخاطئة. كما أن هذا المنهج قد دفع المستشرقين للوقوع في الأخطاء التي قالوا بها من التكرار، وافتقاد الترابط في القرآن، والسبب في ذلك يرجع إلى دراستهم لبعض الآيات القرآنية، وبترها عن أسباب النزول، وقطعها عما قبلها وما بعدها، واعتبارها وحدة حسابية في القرآن، لا جزءًا مكملًا موضحًا ومتمًّا لأخواتها من الآيات.

رابعًا: من ناحية دور المفسر؛ فإن دور المفسر في هذا المنهج سلبي، فهو يتعامل مع النص القرآني دون أي افتراضات أو أطروحات مسبقة، ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ، وما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة، ودور النص هنا دور المتحدث، ودور المفسر هو الإصغاء والتفهم، وهذا هو ما نسميه بالدور السلبي؛ حيث يجلس المفسر بين يدي النص القرآني ليستمع فقط بذهن مضيء، بفكر صاف، وبروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها بينما يكون القرآن ذا دور إيجابي، حيث أن القرآن يعطي حينئذٍ، وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره.

خامسًا: من الناحية العملية؛ فإن شوط التفسير العام طويل جدًّا، لأنه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وهذا الشوط بحاجة إلى فترة زمنية طويلة أيضًا، ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الاعلام إلا عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته.

وللخروج من هذه الأزمة المنهجية في التفسير، وتفادي هذه السلبيات والتناقضات. كان على العلماء عامة -وأئمة التفسير خاصة- أن تتوجه أنظارهم إلى موضوعات القرآن، وتصحيح طريقة النظر فيه؛ باستعمال المنهج الموضوعي في فهم القرآن، وردِّ ما يثار حوله من شبهات.

وعن أهمية التفسير الموضوعي ومسوغات وجوده، فهي تكمن في الغاية التي يرموا لتحقيقها إذ يستهدف التفسير الموضوعي من القيام بهذه الدراسات، تحديد موقف نظري للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلامية لموضوع من موضوعات البحث في الحياة، أو الكون، أو الإنسان، وإيجاد صلة تفاعل ورابطة وثيقة بين القرآن وحركة الحياة، لأن في القرآن ما يمكن أن نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض، لتكوين فهم إسلامي قرآني صحيح.

وبناء على ما سبق؛ فإن الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام أصبح حاجة حقيقية ملحة، خاصة بعد غياب المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في المجتمع وفقدان النظريات الارتكازية الاجمالية التي كانت حاضرة في أذهان الناس في عصر النزول بسبب عدم التطبيق العملي، وبروز النظريات الحديثة التي أعقبها تفاعل كبير وتدافع بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، بكل ما يملك هذا الإنسان من رصيد عظيم، ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات الحياة، إن هذا التفاعل حينما وقع بين إنسان العالم الإسلامي، وإنسان العالم الغربي، أدى بالإنسان المسلم إلى أن يجد نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لابد من تحديد موقف الإسلام من هذه النظريات، ومن أجل ذلك كان لابد من أن يستنطق نصوص الإسلام، ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.

وأشير هنا أن المنهج الموضوعي يتميز بخصائص وسمات ترجحه على المنهج العام في التفسير، وتساهم في ترشيد الفكر الإسلامي والنهوض به وهي:

أولًا: من ناحية الهدف والغاية؛ فهو يتميز بتحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية لموضوع من موضوعات الحياة أو الكون.

ثانيًا: من حيث الحصيلة المعرفية؛ فهو الطريق الوحيد للحصول على النظرية القرآنية لأنه لا يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية فقط، بل يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات من أجل الوصول إلى مركب نظري قرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات موقعه المناسب، وهو ما نسميه بلغة اليوم النظرية، مما يساهم في التصدي للتيارات المتطرفة التي تتلاعب بالنص القرآني بما يخدم مصالحها، كما يساعد في دفع الكثير من الشبهات التي أثيرت حول موضوعات القرآن، كمسألة عدم وجود ترابط في القرآن، وغيرها من المسائل المثارة، والتي لا أشك أن التفسير الموضوعي سيغلق كثيرا الأبواب التي فتحها غلاة المستشرقين، ومن تأثر بهم من بعض المثقفين في عالمنا الإسلامي، وبهذا سنضيق كثيرا من منافذ الغزو الفكري للمتربصين بالقرآن الكريم.

ثالثًا: من حيث الدور الإيجابي للمفسر، القائم على الحوار مع القرآن واستنطاقه بدلًا من الاستماع إليه، فهو لا يبدأ من النص، بل من واقع الحياة، فيركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية، أو الاجتماعية، أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ونقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني، ويبدأ مع النص القرآني حوارا على شكل سؤال وجواب، المفسر يسأل والقرآن يجيب، والهدف من ذلك أن يستكشف المفسر موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث من أفكار واتجاهات.

رابعًا: من حيث الصلة والتفاعل بين القرآن وحركة الحياة، حيث أن التفسير الموضوعي يمثل حالة من التفاعل مع الواقع الخارجي، وليس منعزلًا عنه، إذ أن المفسر يبدأ من خلاله بالواقع الخارجي، ثم ينتقل إلى القرآن الكريم، ثم يعود إلى الواقع الخارجي مرة أخرى بنتاج بحثه، فيلتحم القرآن مع الواقع، ومع الحياة، مما يجعل القرآن الكريم ملبيًا -وبشكل مستمر- لكل متطلبات الحالة الإنسانية والاجتماعية، بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد المفسر على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع، ومن هنا تبقى للقرآن قدرته الدائمة على القيمومة، والعطاء المستجد الذي لا ينفد، والمعاني التي لا تنتهي، التي نص عليها القرآن نفسه ونصت عليها الاحاديث.

خامسًا: من الناحية العملية، هو أن شوط التفسير الموضوعي قصير، ولا يحتاج إلى فترة زمنية طويلة، ومرافقة القرآن الكريم من البداية إلى النهاية، بل غاية الأمر هو اختيار موضوعات من القرآن، واستعراض ما يتعلق بذلك الموضوع، وما يمكن أن يلقى عليه القرآن من أضواء، مما يعزز الإقبال على القرآن الكريم وموضوعاته، ودراستها بيسر، واستيعاب أحكامه ومقاصده، دون الحاجة إلى اللجوء للتفاسير الكبيرة، ومن خلاله تتجلى حقائق قرآنية وسنن إلهية في الكون والحياة ما كان للإنسان أن يقف عليها بغير هذا اللون من التفسير.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى