أنتجوا ثقافة مشوهة.. هذه قصة سيطرة الغرب على تعليمنا
إعداد محمد شعبان أيوب
مما أُثر عن المفكر الجزائري مالك بن نبي أنه كان يرى أن سقوط دول العالم الإسلامي تحت نير الاحتلال العسكري بسهولة وضعف مقاومة إنما جاء كنتيجة منطقية لسنوات طويلة من الركود والكسل الحضاري، تلكم السنوات التي هيَّأت الشعوب الإسلامية إلى ما أسماه “القابلية للاستعمار”؛ “فالاستعمار لا يتصرَّف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف فسخّرنا لما يريد”[1].
هذه الدراسة النفسية لأوضاعنا كانت علمية منهجية استمرت عدة قرون قبل الاحتلال الفعلي في القرن التاسع عشر، وقد قاد لواءها المستشرقون كما يرى محمود شاكر الذي يؤكد أن هؤلاء المستشرقين كانوا ممن “لبسوا لجمهرة المسلمين كلَّ زيّ: زيَّ التاجر، وزيّ السائح، وزيَّ الصَّديق الناصح، وزيَّ العابد المسلم المتبتل؛ وتوغَّلوا يستخرجون كلّ مخبوء كان عنهم من أحوال دار الإسلام، أحوال عامّته وخاصّته، وعلمائه وجهّاله، وحُلمائه وسُفهائه، وملوكه وسوقته، وجيوشه ورعيته، وقوّته وضعفه… ومن هؤلاء ومن خبرتهم وتجربتهم، خرجت أهم طبقة تمخّضت عنها اليقظة الأوروبية؛ طبقة المستشرقين الكبار، وعلى علمهم وخبرتهم وتجاربهم، رَسَتْ دعائم الاستعمار، ورسخَت قواعد التبشير… والْتَقت حلقَتَا البِطان هذه المرّة على دار الإسلام”[2].
وإزاء هذه الغفلة من المجتمعات العربية قادت السيطرة الأوروبية على العالم الإسلامي إلى بناء دول إقليمية بيروقراطية ممركزة، وقد أفضى الاختراق الاقتصادي والرأسمالي الأوروبي إلى تجارة متزايدة استغلالية غالبا، وشجّع إنتاج المواد الخام، وقوّض الصناعات المحلية، ودأبت القوى الأوروبية على فرض أو إغراء آخرين بإيجاد مدارس حديثة، وعلى إعلاء شأن قيم الحضارة الأوروبية ممزوجة بأفضل الطرق الممكنة مع الثقافات المحلية الأصلية. هذه التغييرات الحاصلة في مجتمعات غير أوروبية انطوت على خلق أنماط جديدة من الإنتاج والتبادل الاقتصاديين وتكنولوجيات جديدة؛ بدورها كانت الدولة والبنى الاقتصادية الجديدة أساس نشوء وصعود نخب جديدة[3].
كذلك شكَّلَ التأثير الأوروبي حافزا على القبول بمنظومات قيمية جديدة؛ مثل تقدير الهوية القومية والمشاركة السياسية، والإدارة الاقتصادية، والحركية الأخلاقية، ولنظرة عالمية علمية جديدة، جميع هذه التغييرات تضمنت تبني أو إعادة خلق السمات الأساسية للحضارة الأوروبية في نسيج مجتمعات إسلامية أقدم[4].
أعادت “البندقية الاستعمارية” إذن تأسيس هُويَّات جديدة للعالم الإسلامي، تهدف في المقام الأول والأخير إلى ترسيخ التبعية والقيم الغربية الحديثة، وبدأت بالثقافة والتعليم، من خلال فرض رؤاها الثقافية لتفريخ عقول مقولبة لا تعرف العيش إلا في ظل منظومة الحداثة الغربية.
ويبدو من النظر في التقنيات التي استخدمها المحتل في العالم الإسلامي إبّان القرن العشرين، أن ثمة خطة كانت معدّة لهذا الغرض تتأصّل بمرور الوقت؛ فقد كتب ضابط عسكري فرنسي في الجزائر في تقرير عن انتفاضة أخمدتها قواتُه عامي 1845 – 1846م يقول: إن هناك طريقتين لتأسيس سلطة سياسية على سكان ما: طريقة القمع، وطريقة التربية. والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل، أما الأولى فتعمل على الجسم ولا بد أن تأتي أولا، “وحين نملكهم في أيدينا سيكون باستطاعتنا عندئذ أن نصنع العديد من الأشياء المستحيلة تماما بالنسبة لما نعيشه اليوم والتي ربما سمحت لنا بأن نأسر عقولهم بعد أن أسرنا أجسامهم”[5].
في مصر، كان محمّد علي قد سار خطوات كبيرة في مشروعه للتحديث لأهداف توسّعية خاصّة به، وكان اعتماده في إصلاح الجيش والتعليم على الفرنسيين، كما كانت البعثات التعليمية إلى فرنسا قد قطعت شوطا مهما في ذلك، انعكست على ثقافة المبتعثين ورؤيتهم للآخر الغربي؛ مثل رفاعة الطهطاوي في كتابه الشهير “تلخيص الإبريز”، فضلا عن وجود مدارس الإرساليات الفرنسية التي وصلت أعدادها في إحصائية 27/1928م إلى 179 مدرسة[6] وهذا ما أورده جرجس سلامة في كتابه تاريخ المجتمعات الإسلامية.
وبلغ تأثير الثقافة الفرنسية في مصر في ذلك العصر مبلغا جعل وزير المستعمرات البريطانية ألفريد ملنر يقرُّ بأن “ما استعارته مصر عن الغرب جاء أول ما جاء عن طريق فرنسا، وإذا كانت الطبقات العليا في مصر قد تعلَّمت فإنما كان ذلك بواسطة الفرنسيين، وتأثَّروا بآراء فرنسية، وأصبحت اللغة الفرنسية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية. وحتى الإنجليز الذين كانوا في خدمة الحكومة المصرية كانوا يكتبون الخطابات الرسمية إلى بعضهم باللغة الفرنسية، فإن سيطرة اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية كان من الممكن أن تُعطي فرنسا وضعا ونفوذا كبيرين في مصر، ولكن تصرفاتها السياسية قصيرة النظر، وأنانيتها جعلتها تفقد السيطرة التي كان من الممكن أن تكون لها على المتعلمين المصريين”[7].
لم يكن أمام الإنجليز إلا وضع نظام صارم يجعل مصر خاضعة للتبعية الثقافية كما العسكرية لعقود قادمة، وذلك من خلال السيطرة على التعليم وإعادة تنظيمه في كل مستوياته، وكانت البداية في ذلك بتعليم العلوم باللغة الإنجليزية حصرا، ولم يأت العام 1905م إلا “ونتج عن تعليم كل العلوم باللغة الإنجليزية أن الطالب المصري وهو بين 14، 15 من عُمره يُحسن اللغة الإنجليزية ولكنه لا يجيد لفظها ومع قلّة محفوظة من مفرداتها؛ لأنهم يكثرون من تعليمه أصول اللغة، ويُقللون من تعليمه الإنشاء فهو يجيد القراءة والكتابة بالإنجليزية، حتى لقد قيل: إن اطلاع الطالب المصري على اللغة الإنجليزية يزيد كثيرا على اطلاع الذين يتعلمونها في مدارس حكومة إنجلترا بالذات، ولكنه يُدرك كل هذا بعد أن يخسر كل شيء آخر حتى اللغة العربية وخسارته فيها عظيمة جدا”[8].
وقد كان إمعانا من الإنجليز لترسيخ التبعية الثقافية التغريبية أن استقدموا القس دوجلاس دنلوب الذي كان يعمل في مدرسة الإرسالية الإنجليزية بالإسكندرية معلِّما ثُم نُقل إلى نظارة المعارف مفتّشا، ثم أصبح مسيطرا على الوزارة تماما، وقد وجّه هذا الـمُنصِّر السياسة التعليمية في مصر في ظل رعاية تامة من حاكم مصر الحقيقي آنذاك اللورد كرومر ومن جاء بعده، واستمر في منصبه الخطر ذلك أكثر من ثلاثين سنة[9].
لقد ظلّ التعليم في القارة الأفريقية في أيدي “المبشّرين” أكثر من قرن ونصف، ولم تكن المدارس التنصيرية تهتم بالبيئة الأفريقية، وإنما ركزت جل اهتمامها على البيئة الأوروبية والحياة الأوروبية من أجل ترسيخ قيم الغرب وثقافته حتى منذ الطفولة المبكرة؛ فقد كانت أغاني الأطفال أوروبية في كلماتها ومضمونها وتوجهها[10].
تلك السياسة في ترسيخ التبعية الثقافية بالسيطرة على التعليم هي ذاتها التي اتبعها المحتلون في كل العالم الإسلامي باختلاف مشارب المحتلين وقومياتهم، وسرعان ما ظهرت أجيال لا ترى غضاضة في اتباع ثقافة المحتل، والإيمان بحضارته، وإذا أعلنوا نقدهم له؛ كان بألطف خطاب، وأحسن عبارة، ففي المغرب الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي كتب أحد المثقفين المغاربة الكبار، ورئيس تحرير إحدى المجلات حينها قائلا: “ما يرجع لمحرري مجلة (مغرب) من المغاربة الذين لا يُعبّرون في الحقيقة إلا عن أفكار مواطنيهم ولا يُعبّرون في الواقع إلا عن العقلية السائدة في الأوساط المغربية بلا قيد؛ فإنه من الجنون أن يرموا بالعداوة لفرنسا إذ في الحقيقة إنما هم مغاربة مخلصون في وطنيتهم، مجاهدون بقلمهم وفكرهم في سبيل نصرة قضية بلادهم ضمن حقوقها الطبيعية، وفي دائرة حُسن التفاهم مع الأمة الفرنسية العادلة والمحترمة للعهود، الوفية بالعهود، الثابتة على تأدية رسالة النصح والإرشاد”[11]!
إن أخطر ما قام به المحتل تنشئة جيل من التابعين المؤمنين “بتقدمية” الغرب، و”تخلف” الحضارة الإسلامية، وكان من نصيبنا هجوم بعض المتغربين من بني جلدتنا على الإسلام والعروبة، “وتعييرنا بالتخلُّف، واستغلال التقدم الأوروبي في تحطيم معنوياتنا والطعن في تراثنا ومقوماتنا… قام أسلوب العملاء على تحطيم معنوية الشرق حتى لا تتكرَّر التجربة اليابانية عندما آمن اليابانيون بقوميتهم وحضارتهم وتراثهم، ونقلوا كلَّ أسباب التقدم الغربي، وكان هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم لخدمة المستعمر، وتخريب الحركة الوطنية والتشكيك في قيمنا وحضارتنا، يُغطون مواقفهم الخيانية ببعض القضايا الفكرية التي لا أهمية لها”[12].
أما تجليات هذه الهيمنة الثقافية فبرزت في قيام الصحف المؤيِّدة للمحتل، وفي بعض الأحزاب السياسية التي دعّمت بقاءه خشية من عودة “الاحتلال” العثماني من جديد، وكان حزب الأحرار في مصر على سبيل المثال الذي أُنشئ كجهة مناوئة للحزب الوطني، “كان يحتفل بيوم الاحتلال البريطاني” على مصر[13]!
بل إن هذه الوسائل التي اتبعها الفرنسيون -مثل باقي المحتلين- في غرب أفريقيا المسلمة، “جعلت الناس في السنغال (على سبيل المثال) يفكرون ويتصرفون بالأسلوب الفرنسي، وفي آخر الأمر كان في إمكانهم أن يتركوا تصرفاتهم التقليدية وأن يلحقوا بسكان المدن الساحلية كمواطنين فرنسيين”[14]!
وهكذا ما بدأ القرن العشرون في البزوغ، ومر نصفه الأول إلا وترسخت الهيمنة الثقافية، والتبعية المطلقة لتعليمنا ثقافة وفكرا ومنهجا، وجعلت السؤال الذي يلح على العقل، يتمثل في كيف يمكن أن نتخلص من هذه الهيمنة وآثارها في عالمنا العربي؟
(المصدر: ميدان الجزيرة)