بقلم د. عبد العزيز بن محمد آلعبد اللطيف – (رابطة علماء المسلمين)
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها… وهذا الملف، يعالج أخطر وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة والعلم والأدب،… ما هي حقيقتهم… ما هي أقوالهم… ما هو حكم الشريعة في أمثالهم… ثم… موقف القوانين الوضعية من الردة.. وهل كانت سببًا في الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله -تعالى- أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله تعالى على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208]، كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:300].
فإذا كان الشخص مسلماً لله تعالى، والتزم بدين الله تعالى، فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح من سماء وأرض ونبات وحيوان من الاستسلام لله -تعالى- والخضوع له، كما قال سبحانه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آلل عمران:833].
وإذا كانت قوانين البشر مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب توجب مخالفتها عند أصحابها الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله تعالى، والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله -تعالى- إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو -سبحانه- الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية… فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا).
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكامها وتطبيقاتها، وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء في كل مذهب من المذاهب الأربعة يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة، أعاذنا الله منها.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587ه): “أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان” [7/134].
ويقول (الصاوي) المالكي (ت: 1241ه) في الشرح الصغير: “الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر” [6/144].
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977ه): “الردة هي قطع الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً” [4/133].
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: “المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً” [6/136].
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله -تعالى-: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21].
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل كما في عبارات متقدمي أئمة السلف أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة أيضاً قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله -تعالى- في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع الله -عز وجل-، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله -تعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله -تعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الاستهزاء بدين الله -تعالى-، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف.
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: “فإنه لو لم يقتل ذلك (المرتد) لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه” (الفتاوى: [20/102]).
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في موضعه(1).
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري -رحمه الله- أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعذِّبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدّل دينه فاقتلوه».
والمراد من قول: (بدّل دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85](22).
وقد التزم الصحابة رضي الله عنهم بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري -رضي الله عنهما-، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل(3).
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله -تعالى- في المرتدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يخفى موقف الصديق -رضي الله عنه- تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في (حوادث سنة 167هـ): “وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه”(4).
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: “وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته”(5).
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: “قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي”(6).
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في (حوادث 726هـ) حيث: “ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة”.
قال البرازلي: “وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: وكان هذا الرجل قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير: وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك”(7).
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر كـ (رشدي)، و(نسرين)، و(نصر أبو زيد)، و(البغدادي)، وأضرابهم أشنع من ردة أسلافهم كـ (الحلاج)، و(الهيثي)، والله المستعان.
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله -تعالى-، وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل وإن تاب بعد القدرة عليه.
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: “إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة)، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين…)(8).
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:
الجهل بدين الله -تعالى-، وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من المسلمين، مما أوقفهم بسبب جهلهم وضعف تمسكهم في جملة من المكفرات، فعلى الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله -تعالى-، عبر برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة، ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في الزمن المعاصر، ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) -رحمه الله- فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً(9).
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى أثناء التحذير من الردة وأنواعها عوارض الأهلية عند الحكم على الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين، حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي ذي النزعة الإرجائية الغالية، كماا ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون)، و(يسوغون) ذلك الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية في هذا العصر كان سبباً مساعداً في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان عند طوائف من المرجئة هو التصديق فحسب، ففي المقابل سيكون الكفر أو الردة هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً عن دين الله -تعالى- إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة مرتداً بمجرد استهزائه بالله -تعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دينه، كما لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف!!.
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!
وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، فلا يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله -تعالى-، لكن (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه “كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف”(10).
وإليك أخي القارئ واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: “وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ (ابن أخي عَجَب)، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة): (أبو زيد)، و(عبد الأعلى بن وهب)، و(ابن عيسى)، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد)، فقال (ابن حبيب): دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي (ت: 282هـ).
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن بن الحكم)، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول (ابن حبيب وصاحبه)، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: (ابن حبيب وأصبغ)، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبّهم”(11).
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ جل جلاله، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم في قرطبة فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي) حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر رعاك الله إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله تعالى على من تطاول على دين الله تعالى.
وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله تعالى بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة مثلاً في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً:
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير -الردة- كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا بواجب التبليغ لدين الله -تعالى-، وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير مما يضاده ويناقضه “ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين”(12).
_______________________
(1) تحدث الفقهاء -رحمهم الله- عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي.
(2) انظر: فتح الباري، [13/272].
(3) أخرجه البخاري.
(4) البداية [10/149].
(5) الشفا، [2/1091].
(6) البداية والنهاية، [11/143].
(7) البداية، [14/122].
(8) الصارم المسلول، [3/696].
(9) شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
(10) العواصم من القواصم، ص [247].
(11) الشفا، [2/1093]، [1094].
(12) هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص [36].