أضواء على حياة الشيخ عبد الحق الأعظمي – رحمه الله –
إعداد أ. محمد يحيى القاسمي (الأستاذ بجامعة شاهي، مراد آباد)
شهد العام الهجري 1438وفاة عدد لا يُستهان به من العلماء الجهابذة العباقرة من شتى أنحاء العالم من الهند وباكستان و بنجلاديش وما إليها، ممن كانوا يقومون بإسداء الخدمات العلمية الدينية، على نطاق واسعٍ ومستوى رفيع استأثرت بهم رحمة الله العامَ.
ومن بين هؤلاء العلماء الأجلاء الجديرين بالثناء والذكر سماحة الشيخ الداعية الكبير الأستاذ عبد الحق الأعظمي/ رحمه الله الذي شغل منصب رئاسة الحديث بالجامعة الإسلامية العريقة: دارالعلوم/ ديوبند فترة طويلة ممتدة على أكثر من ثلاثة عقود، وذلك عن أهلية ولباقة وكفاء ة شاملة.
كان الفقيد رحمه الله يحبني كثيرًا كما كنت أحبه جمّا. وهذا الحب الذي يكنه قلبي نحوه دفعني – حتى بعد مضي عدة شهور على وفاته – إلى تقديم هذه السطور المزجاة حول حياته، وذلك إيفاء لبعض حقه من الحب والإجلال والتقدير.
والواقع أن كتابة بضعة سطور حول حياته كانت أمنية تراودني منذ أن وافاه الأجل المحتوم في نحو الساعة السابعة والنصف في الليلة المتخللة بين يومي الخميس والجمعة بين 30/من ربيع الاول و1/من ربيع الآخر المصادف 30-31 من شهر ديسمبر في عمر يناهز 90/عامًا حتى أكون بذلك مبديا عما سنح لي مع الفقيد من بعض فرص اللقاء والصحبة معه والقراءة عليه، والاستفادة من منهله العلمي الفياض.
في 30/من شهر ربيع الأول يوم الخميس قمت بزيارة شخصيةٍ لمدينة «باره بنكي»، فبينما كنت أستعد لصلاة العشاء إذ بدأ جوالي يرنُّ بشدة، فإذا بي واحد من أصدقائي منذ الطفولة يتصل بي، يستفسرني عن وفاة سماحة الشيخ، فقلت له مندهشًا بأني لست من العلم في شيء، ولكن هل عندك من شيء؟ فقطع المكالمة.
نعم! انتهى الاتصال، ولكنه تركني يذهب بي الوساوسُ كل مذهب، فما إن مضت دقائق حتى تواترت الأنباء عن وفاته عبر وسائل الإعلام مما جعلني أتاكد من أن شيخي وأستاذي الذي كان يحبني حبا نابعًا من الصدق والإخلاص، والذي كنت أحبه حبا صادرًا عن غاية إعجاب واحترام قد ارتحل إلى رحمة مولاه. فنعيه كانت لي صدمة قاسية مست ضميري – وضمائر كثير من أمثالي – في أعماقه، ولكن صبرت حيث لا يجد الإنسان في مثل هذا الموطن إلا إلى الصبر سبيلاً، وذلك مسترجعًا، وداعيًا له بالمغفرة والرحمة ولأهله وذويه ومعتقديه ومحبيه وطلابه بالصبر والسلوان.
حدثتني نفسي مرارًا بأن ارتحل إلى مدينة ديوبند – حيث كان من المتقرر تكفينُه وتجهيزُه وتدفينُه – أحمل جنازته، أودعه إلى مثواه الأخير غير أنني – كما أسلفت – كنت بمدينة باره بنكي، وهي بعيدة من مدينة ديوبند، على أن القطار الذي حجزتُ فيه المقعد مسبقًا كان متأخرًا عن موعده المحدد ست ساعات أو خمسًا، وعلاوة على ذلك كان الامتحان النصف السنوي يجري فعلاً في الجامعة القاسمية شاهي بمدينة مرادباد، فهذه عدة أمور عادت مجتمعة معًا في وقت واحدٍ وخيبت أملي.
ولكن أفادني بعض من حضر جنازته بأن عددًا كبيرًا وجمًّا غفيرًا من المسلمين – الذين يبلغ عددهم نحو ثلاثين ألفًا من العامة والخاصة – حضر الصلاة عليه فشيعَه إلى مثواه الأخير، ثم توريةَ جثمانِه بالمقبرة القاسمية الشهيرة الديوبندية – التي تضم في أحضانها عددًا كبيرًا من رجال العلم والفكر والدعوة والصلاح والورع والتقوى – والجدير بالذكر أنه قد حضر الجنازةَ مثلُ هذا العدد الكبير في الوقت الذي قد غادر عدد لا بأس به من الطلاب والعلماء والأساتذة والموظفين الجامعةَ الإسلاميةَ دارالعلوم/ ديوبند وما جاورها من المدارس الإسلامية، إلى بيوتهم بمناسبة عطلة الامتحان النصف السنوي، التي كانت تجري فعلًا في معظم المدارس الإسلامية الأهلية في تلك الأيام، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان عدد من صلى عليه – فيما أرى – أكثر من هذا العدد المذكور أعلاه مرات كثيرة، وتحقيقًا لما كان يتمناه الشيخ منذ قديم الزمان تمت تورية جثمانه بالقرب من ضريح شيخه وأستاذه المجاهد المناضل البطل الجليل المحدث الكبير حسين أحمد المدني/ رحمه الله الذي يُطلَق عليه «شيخ الإسلام» في شبه القارة الهندية، وقد صلى على الفقيد بالناس رئيسُ جمعية العلماء لعموم الهند وأستاذ الحديث النبوي الشريف بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند فضيلة الشيخ أرشد المدني /حفظه الله ورعاه.
زرت الشيخ لأول مرة في حياتي عند ما تم التحاقي بالصف السابع العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند عام 1999 للميلاد فوجدت الشيخ وإن كان قد أدركه الشيء الكثير من الهرم وكبرت سنه إلا أنه كان موفور النشاط والقوة يتمتع بالصحة والسلامة، وكان يمتلك من الصوت الجهوري ممايجعله في غنى عن مكبر الصوت، أراه يختلف من سكنه العائلي الكائن بـ«تشته» مسجد إلى مبنى الجامعة الإسلامية: دار العلوم/ديوبند بهدف إلقاء الدروس على الطلاب يمشي معتمدًا على عكازه الجميل مشية تتسم بالتواضع وهضم الذات مرتديا جبته الفضفاضة البيضاء، على رأسه قلنسوة جميلة مدورة بيضاء، يعلو وجهه المشرق من الوقار والمهابة ما يزيده رونقًا وجمالًا يسترعي انتباه كل غادٍ ورائحٍ.
قد قرأت على الشيخ هذا العام الدراسي الأول الجزء الثاني من مشكاة المصابيح فكان الشيخ يلقي درسه على الطلاب، والطلابُ يستمعون إلى درسه بآذان صاغية بكل شوق ورغبة، وكان درس الشيخ ينم عن مدى سعة إطلاعه وغزارة علمه وغاية إتقانه لا سيما علوم الحديث ومدى استظهاره للمواد الدراسية إلى جانب حبه له صلى الله عليه وسلم ، ومن أبرز ما كان يمتاز به درسُه – إلى جانب أسلوبه الممتع العلمي الرائع – بأنه كان كثيرًا ما كان يذكر خلال إلقائه الموادَ الدراسيةَ على طلابه من الطرائف العلمية وغيرها مما كان يساعد الطلاب – إلى جانب إعادة النشاط والنشوة إليهم– في فهمهم للمواد الدراسية المستعصية بشكل ميسور.
ومما يجدر ذكره أن صلتي مع الشيخ لم تكن وطيدة ووثيقة لحد ذلك اليوم؛ بل كانت محددة بالفصل، لا تعدو أن أقرأ عليه مثلما يقرأ عليه الآخرون من زملائي من الطلاب، أو أنه واحد من أساتذتي بالجامعة الإسلاميـة: دار العلوم/ ديوبند شاء الله العلي القدير أن أتلمذ عليه، وكان الحال على هذا المنوال حتى انتهى العام الدراسي 1999م وبدأ عام دراسي جديد 2000م والتحقت فيه بالصف النهائي – أو بتبعير آخر أشهر – بدورة الحديث النبوي الشريف – مما لعب دورًا بارزًا ملموسًا في تعزيز العلاقات معه وتوطيد الصلات به ما مكنني من أن أراه عن كثب، وأكاد أُصاحبه مصاحبةَ الظل لصاحبه وأستفيد منه بشكل مباشر.
ويرجع ذلك إلى أنه كما هو من المعلوم لدى الجميع الذين قد سبق لهم القراءة عليه المجلدَ الثاني من الجامع الصحيح للإمام البخاري في دورة الحديث الشريف بأن الشيخ لا يلقي درس هذا الكتاب على الطلاب إلا بنسخة يمتلكها هو، وذلك بالاستناد إلى تلك الحواشي والتعليقات التي كتبها الشيخ عليها بخطه والتي كانت تنفع الشيخَ لدى كل من المطالعة وإلقاء المواد الدراسية على الطلاب، فكان من عادته كلَّ سنة أنه كان يختار واحدًا من تلاميـذه في الصف النهائي ممن كان يثق به تمامًا يكلفه أن يحمل معه نسخته هذه من البيت إلى الفصل إثر صلاة العشاء يوميًا، ويرجع بها إلى البيت بعد ما ينتهثي الدرس ويعيدها إلى موضعها في الدولاب.
فالعام 2000م الذي سعدت فيه بقراءة هذا الكتاب على الشيخ حَدَثَ أن دعاني إلى بيته وكلفني – كعادته – أن أحمل كتابه من البيت إلى الفصل يوميا إثر صلاة العشاء مباشرةً، وأعود به إلى البيت كما ينتهي الدرس، وأن أحفظ الكتاب من أن يتعرض للضياع أو للفساد بشكل من الأشكال.
فانتهازًا لمثل هذه الفرصة السعيدة لبّيتُ دعوته وقبلتُ طلبهُ مرحِّبًا به دونما تردد مما مهد لي السبيل إلى تعزيز العلاقات معه وتوطيد الصلات به. تحملت هذه المسؤولية طول السنة بكل قوة ونشاطٍ وحماسة ولا أتذكر أنه قد صدر مني خطأٌ لا سيما فيما يخص هذه المسؤولية ما دعا شيخي إلى الغضب أو الكراهية نحوي، فلله الحمد على ذلك.
وكان من حسن حظي بأنني كنت لا أرجع من منزله العائلي إلى حجرتي الكائنة في رحاب الجامعة بعد إعادة الكتاب إلى موضعه على الفور؛ بل أبقى مع الشيخ ردحًا من الزمن أقوم بخدمته وأستمع إلى أحاديثه الماتعة النافعة، فكثيرًا ما حدث أن أويت إلى فراشي بعد ما ذهب من الليل كثيره في الساعة الواحدة أو ربما بعدها، واتخذت هذا العمل عادة لي، فرأيت أكثر من مرة أن ما أقوم به من مثل هذه الخدمات نحوه يدفعه إلى أن ينطلق لسانه بصورة عفوية بأن يدعو لي بكثير من الخير، فجزى الله عني أستاذي خير ما يجزي عباده الصالحين.
ذات مرة حدث لي – عندما كنت أعمل مدرسًا بالجامعة الإسلامية: دار العلوم الشهيرة الكائنة بمديرية «بستي» بولاية أترابراديش الشرقية – أن قمت بزيارة علمية للجامعة الإسلامية: دارالعلوم /ديوبند بمناسبة الاحتفال النهائي السنوي لجمعية «تزيين الخطاب» عقده طلاب كل من مديرية «بستي» ومديرية «كبير نغر» تلقيتُ الدعوة منهم للمشاركة فيه كضيف الشرف، فدخلت على حضرة الشيخ في حجرته وقد كان توافد معي إلى الشيخ عدد لا بأس به من طلاب الجامعة، الذين قد سبق لهم أن قرؤوا علي في جامعة «مظهر السعادة» بمدينة «بروص» بولاية «غجرات» أو في الجامعة الإسلامية: دار العلوم الكائنة بمديرية «بستي» بولاية أترابراديش الشرقية، فتوجه الشيخ إلي قائلاً بعد ما رأى طلابي هؤلاء: يا يحىى! أراك يحبك تلامذك كثيرًا، فقلت: يا شيخ، نعم! ما قلت صحيح تمامًا مئة في المئة؛ بل وأكثر، غير أنني ما توصلت لحد اليوم إلى السبب الرئيس الذي يكمن وراءه، فقال الشيخ بلهجةٍ ملؤها الحب والود بأن السبب الرئيس الكامن وراء هذا الحب واضح للغاية عندي، وهو أنني قد دعوت لك كثيرًا كثيرًا، فما إن قال الشيخ هذه الكلمة حتى فاضت عينايَ بالدموع، فشكرت الشيخ قائلاً: نعم، إنني أجد في حياتي من معالم ومنافع دعائك كثيرًا كثيرًا؛ بل كل ما أقوم به من الخدمات العلمية والدينية يرجع فضله إلى حضرتك بعد الله تعالى.
وكان الشيخ من مواليد 1346هـ المصادف 1928م في قرية بمديرية أعظم جراه أنجبت كثيرًا من الرجال والعلماء والدعاة تدعى «جكديش فور».
والشيخ الفقيد ينتمي إلى السيد أبي بكر الصديق رضي الله عنه نسبًا، وكانت أسرته في الأصل من مدينة «جون فور» التي يُطلق عليها «شيرازالهند» غير أنها انتقلت فيما بعد إلى مديرية «أعظم جراه» واتخذتها وطنًا لها ولا تزال.
جريًا على العادة في القرى والأرياف تم إلحاق الشيخ أولاً بكُتَّاب صغير بقريته «إمداد العلوم» حيث تعلم عددًا من العلوم الابتدائية جدا، ومن ثَمَّ ارتحل إلي مدرسة معروفة «دارالعلوم بمدينة مئو»وتخرّج منها في العلوم العربية على أساتذتها النوابغ ذوي الكمالات العلمية وذلك حتى المرحلة قبل التخرج. وانطلاقًا في الرغبة في نيل شهادة الفضيلة من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والارتواء من منهلها العلمي الفياض المتمثل في علمائها الأفذاذ ارتحل إليها عام 1974م ونال القبول فيها، وتخرج منها في علوم الحديث على أساتذتها العباقرة الأجلاء: أمثال الشيخ حسين أحمد المدني، وشيخ الأدب إعزاز علي الأمروهوي، والعلامة إبراهيم البلياوي، والشيخ فخر الدين المرادابادي رحمهم الله ومن إليهم، وقد أجاز له في الحديث كل من الشيوخ: محمد زكريا الكاندهلوي، والمقرئ محمد طيب رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند الأسبق، وأبو المآثر فضيلة الشيخ المحدث الجليل حبيب الرحمن الأعظمي، وأما الشيخ فخر الدين المرادآبادي فقد أجاز للشيخ في الحديث أكثر من مرة.
عقب التخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند اختار الشيخ مهنة التدريس وفضَّلَها على غيرها من المهن لكسب لقمة العيش، وظل يمارس هذه المهنة التي تستحق الاحترام أكثر بكثير من غيرها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة: فقام بالتدريس في كل من مطلع العلوم بمدينة بنارس، والجامعة الحسينية بولاية بهار، ودار العلوم بمدينة مئو، إلى أن حالفه الحظُّ ودعاه أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند للقيام بالتدريس. فتلبيةً للدعوة حضرها الشيخ وعُينَ فيها أستاذًا لمادتَي الحديث والتفسير في 9/من شهر ذي القعدة عام 1402هـ وظل بها يدرس المجلد الثاني من الجامع الصحيح للإمام البخاري أكثر من 35عاما حتى عرف بلقب «الشيخ الثاني» في الأوساط العلمية وغيرها من الجماهير – بالإضافة إلى كتب أخرى هامة – يتضمنها المنهج النظامي الدراسي المتَّبع لدى المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية حتى وافته المنية مؤخرًا عام 2016م.
ومما يجعل الشيخَ الفقيدَ يمتاز عن غيره من معاصريه في شبه القارة الهندية هو أن الشيخ ظل يمارس تدريس الجامع الصحيح للإمام البخاري طيلة 65/عامًا من حياته بشكل مستمر دونما توقف وانقطاع، وليس هناك في شبه القارة الهندية غيره من معاصريه من أتاح الله له مثل هذه الفرصة الطيبة الطويلة الممتدة على ستة عقود فأكثر لتدريس هذا الكتاب المبارك الذي اعتبره العلماء أصحَ الكتب بعد كتاب الله. وتحديثًا للنعمة كثيرًا ما كان يردّدُ الشيخ علينا نحنُ الطلبةَ هذه الكلمة «إنه قد أسنِدَ إلي تدريسُ الجامع الصحيح للإمام البخاري بالإضافة إلى كتب أخرى في كل مدرسة سنحت لي الفرصة للتدريس بها» وذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء.
من الخصائص البارزة للشيخ أنه لم يكن ذلك المفتي الرسمي الذي يلتحق بقسم الفقه والإفتاء التابع لجامعة أو لمدرسة ويدرّبه المفتون من الأساتذة على الإجابة على الاستفتاءات التي يرسلها الشعب المسلم للاستفسار عن الأحكام الشرعية غير أن الشيخ كان متقنًا غايةَ الإتقان ومتضلعًا بمعناه الشامل من جميع علوم الشريعة الإسلامية ما مكنته من الإجابة على هذه الاستفتاءات بنحو يبعث الارتياح والطمانينة. فهناك فتاوى كتبها الشيخ حينما كان مدرسًا بدار العلوم بمدينة مئو، ويبلغ عدد تلك الفتاوى ثلاثة عشر ألف فتوى لو تم جمعها كلها لجاءت عدة مجلدات ضخامٍ.
وأضِف إلى ذلك أن الشيخ كان خطيبًا بارعًا مصقعًا تخضع له الكلمات والمعاني ويتمكن من التعبير عما يجول في خاطره للسامعين الحضور كلَّ التمكن، يكلم الناس على قدر عقولهم وعلومهم ومداركهم، ورأيته يُكثرُ من الرحلات الخطابية الطويلة رغم إصابته بعديد من الأعذار والأمراض التي تركته لا يستطيع المشيَ على الأقدام بحيث كان مضطرًا إلى استخدام الكرسي النقّال في الحلّ والترحال.
ما رأيت أحدًا يحب تلاميذه مثلما رأيت الشيخ يحبهم، ويحرص على تقدمهم في جميع مجالات الحياة بصفة عامة وفي مجالات العلم بصفة خاصة، يود لهم الخير والصلاح والفلاح، وقد بلغ حبه لطلابه إلى أن كل واحد من تلاميذه عاد يظن أنه أحب التلاميذ إليه دون غيره.
عندما تم التحاقي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند سمعت الطلاب يقولون عنه بأنه ممن يُجاب له دعوته، فماتأكدت منه لأنني أرى أن كثيرًا من الأشياء تشتهر لا سيما عن الكبار والمشايخ على خلاف الواقع، ولكن عند ما رأيته وعرفته عن كثب، وجربته مرارًا في باب الإجابة للدعوات فزادني ذلك حبًا وإجلالاً وعظمةً له وإعجابًا به وتفاعلاً معه وتأثُّرًا به، و وجدت كثيرًا من الناس من الخاصة والعامة من المرضى والمصابين والمنكوبين من الأقطار الدانية والنائية يطلبون منه الدعاء والرقى، والشيخُ يوافق على طلباتهم المتنوعة عن سعةِ الصدر دونما سآمة أو ملل أو كللٍ.
كان الفقيد مثالاً في البساطة والسذاجة في جميع شؤون الحياة، يقضي حياته بعيدًا عن التأنق والتنعم والتصنع مصحوبًا بالتقشف والتزهد، فكان هو نظيرَ نفسه ونسيجَ وحده في هذا الباب، و ما وجدت في حياتي أحدًا يشغل مثل هذه المناصب الكبيرة العلمية وقد بلغ طبعه مثل هذا الحد من السذاجة والبساطة مثلما وجدت أستاذي هذا، وكان يجمع بين العلم والعمل كما كان يجمع بين الصورة الحسنة والسيرة الطيبة.
وهناك محاسن أخرى كان الفقيد يتحلى بها، و ما ذكرته من الصفات غيض من فيض تلك الصفات التي كان يتمتع بها. وأخيرًا لا آخرًا أتضرع إلى الله العلي القدير أن يرحم رجلاً عاش – ما عاش– سعيدًا، ومات – إذ مات – حميدًا، يُتقبل حسناته، ويعفو عن زلاته، ويلهم أهله وذريته وطلابه ومن إليهم الصبر والسلوان.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)