مقالاتمقالات المنتدى

أصول الإمام الشافعي في إثبات العقيدة الإسلامية

أصول الإمام الشافعي في إثبات العقيدة الإسلامية

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

سار الإمام الشافعي على منهج أهل السنة في إثبات العقيدة، ومن أهم أصول الشافعي في هذا المجال هي:

الأصل الأول: الالتزام بالكتاب والسنة، وتقديمهما على العقل:

والأخذ بظاهر الكتاب والسنة أول أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وذلك لأنهما المصدران الوحيدان لتلقي العقيدة الإسلامية، ولا يجوز للمسلم أن يستبدل بهما غيرهما، فما أثبتاه وجب أن يثبته المسلم، وما نفياه وجب على المسلم نفيه، ولا هدى ولا صلاح إلا بالتمسك بهما. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وهذا شأن المؤمنين بالله ورسوله، ولذلك نفى الله الإيمان عمن أبى وتكبر عن متابعة النبي ﷺ، فقال سبحانه: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء: 65].

وأمر الله المؤمنين عند التنازع بأن يردوا ما تنازعوا فيه إليهما فإن فيهما حلاًّ لكل ما تنازع فيه الناس، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء: 59]، والشافعي رحمه الله أحد أئمة السلف ذهب في ذلك مذهب السلف الصالح، فهو يرى: أنَّ الكتاب والسنة هما مصدر التشريع، وإليهما يرجع المفتي، ولذلك تراه عند إثبات مفردات العقيدة يبدأ بذكر النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسنة، ويحتج بما جاء بهما على المخالف، ولم نسمع أنه تعرض رحمه الله إلى تأويلها، وإلى ردها بشيء من حجج أهل الكلام.

ويرى الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: أنَّ السنة مثل القرآن في التشريع، فما ثبت في السنة كالذي ثبت في القران، وما حرم في السنة كالذي حرم في القران، والسبب في ذلك أنهما جميعاً من الله، وبيَّن ـ رحمه الله ـ: أن سنة النبي ﷺ هي الحكمة التي قرنها الله مع كتابه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [آل عمران: 164] .

وقال رحمه الله: كل ما سن رسول الله ﷺ مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا -الرسالة -من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله ﷺ. ثم بين منزلة السنة من القرآن، وأنها شارحة له مبينة لمراد الله فيها، وأنها قد تستقل ببعض الأحكام؛ وإن لم يرد لها أصل في الكتاب، فقال: مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:

منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يُحتج مع التزيل فيه إلى غيره.

ومنها: ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه، وعلى من فرضه، ومتى يزول بعضه، ويثبت ويجب.

ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله. فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبِل عن رسول اللهﷺ سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل؛ لما افترض الله من طاعته، ثم ذكر الأدلة على حجية السنة. ومما لا شك فيه: أن هذا الأصل قد درِّس في المدارس النظامية، والتي كان من ضمن مناهجها كتب الإمام الشافعي.

الأصل الثاني: خبر الاحاد ومكانته عند الإمام الشافعي:

قسم علماء الحديث والأصول حديث النبي ﷺ إلى قسمين:

1 ـ متواتر.

2 ـ واحاد.

والمتواتر: ما رواه عدد كبير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، وأسندوه إلى شيء محسوس.

والآحاد: هو ما فقد شروط المتواتر، أو أحدها.

وهو من حيث القبول والرد على أقسام؛ فمنه المقبول، ومنه المردود على حسب حال رواته من حيث العدالة وعدمها… وغير ذلك من شروط قبول الرواية، وقد ذكر الشافعي رحمه الله هذا التقسيم وسماه: علم عامة، وعلم خاصة. فقال: قال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، قال: مثل ماذا؟ قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحجّ البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم الزنى، والقتل، والسرقة، والخمر، وما كان في معنى هذا مما كلفَ العباد أن يعقلوه، ويعملوه، ويعطوه من أنفسهم، وأموالهم، وأن يكفوا عمّا حرم عليهم منه، وهذا الصنف موجود نصّاً في كتاب الله، وموجود عاماً عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم يحكونه عن رسول الله ﷺ ولا يتنازعون في حكايته، ولا وجوبه عليهم، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام، وغيرها مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحمل التأويل ويستدرك قياساً.

شروط صحة الحديث وقبوله عند الشافعي:

وضع الإمام الشافعي في كتابه الرسالة شروطاً في قبول الحديث هي أصل الشروط، التي وضعها علماء المصطلح، وهي:

أ ـ اتصال السند.

ب ـ عدالة الرواة.

ج ـ أن يكون الراوي ضابطاً.

 د ـ سلامته من الشذوذ؛ وهو مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه.

 ه ـ سلامته من العلة القادحة.

وهذه الشروط ذكرها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة، وإن لم يرتبها كما رتبها علماء الحديث بعده، مما يدل على عظم فهمه لعلم الحديث، ولذلك فقد ملأ كتبه بالأدلة على حجية السنة، والرد على من أنكر حجيتها، أو احتج ببعضها، وأنكر حجية البعض الآخر

العمل بخبر الواحد:

أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن بعدهم من التابعين، وسلف الأمة على وجوب العمل بخبر الواحد سواء من قال: إنه يفيد العلم، أو يفيد الظن، ولم يخالف في هذا إلا من لا اعتبار بخلافه كبعض المعتزلة والرافضة، وقد نصر الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ مذهب السلف في العمل بخبر الواحد في جميع مسائل الدين، ويدخل في ذلك أمور العقيدة، ولم يرد عنه: أنه فرق بين أمور العقيدة، وبقية المسائل، بل روي عنه: أنه قال في حديث الرؤية لما سأله سعيد بن أسد: ما تقول في حديث الرؤية؟ فقال لي: يا بن أسد اقضِ عليَّ حييتُ أو مِتُّ: أنَّ كل حديث يصحُّ عن رسول الله ﷺ فإني أقول به؛ وإن لم يبلغني.

الأصل الثالث: تعظيمه لفهم الصحابة واتِّباعه لهم، رضي الله عنهم:

وقال في ذلك: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإذا لم يكن صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله ﷺ، أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة أبي بكر، أو عمر، أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا. إلى أن قال: والعلم طبقات شتى:

الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة

الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبيِّ ﷺ ولا نعلم له مخالفاً منهم.

الرابعة: اختلاف أصحاب النبي ﷺ في ذلك.

الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى.

ومما يدلُّ على اتباعه للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وتعظيمه لفهمهم ما ذكره البيهقي من كلام الشافعي ـ رحمه الله ـ في الرسالة القديمة رواية الحسن بن محمد الزعفراني، حيث يقول الشافعي: وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القران، والتوراة، و الإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنَّاهم بما اتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، هم أدَّوْا إلينا سنن رسول الله ﷺ وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله ﷺ عامّاً، وخاصّاً، وعزماً، وإرشاداً، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا.

الأصل الرابع: مجانبة أهل الأهواء والبدع والكلام وذمهم:

حذَّر السلف ـ رحمهم الله ـ من مجالسة أهل البدع والأهواء، وأوجبوا هجرهم، وأخرجوهم من مجالسهم، وسار على هذا النهج الإمام الشافعي، وقد روي: أنَّ سبب تركه بغداد وهجرته إلى مصر ظهور المعتزلة ببدعهم، وتسلطهم على الناس، وقد كانت الدولة خاضعة لهم، ومن أقواله رحمه الله في هجر المبتدعة قوله: ما ناظرت أحداً علمت أنه مقيم على بدعة.

قال البيهقي: وهذا لأنَّ المقيم على البدعة قلَّما يرجع بالمناظرة عن بدعته، وإنما كان يناظر من يرجو رجوعه إلى الحق إذا بينه له. وبالله التوفيق.

وقد جعل الشافعي رحمه الله علامة الإيمان متابعة السنة، وعلامة البدعة مخالفة السنة، ولم ينظر إلى ما سوى ذلك مما يدلس به المبتدعة على الناس، بما يظهرونه من شعوذة ودجل ويسمونه كرامة، فعن يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء؛ ما قبلته. فقال الشافعي: أما إنه قصر! لو رأيته يمشي في الهواء؛ ما قبلت.

وقد ذم الإمام الشافعي علم الكلام، فقال فيه: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأَنْ يُبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام. وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويجعلوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.

المصادر والمراجع:

  • ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين (1/80).
  • ابن حجر العسقلاني، نخبة الفكر، ص 4 ـ 8.
  • الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، (2/31).
  • البغوي، شرح السنة (1/218).
  • البيهقي، مناقب الشافعي، (1/421). (1/175). (1/470). (1/454).
  • الشوكاني، إرشاد الفحول إلى إحقاق الحق من علم الأصول، ص 48 ـ 49.
  • علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، ص 377-382.
  • محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، ص 32، 33، 357، 359. الأم (7/265).
  • محمد بن عبد الوهاب العقيل، منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 80، 81، 86، 109، 129، 139.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى