مقالاتمقالات مختارة

أسباب تغوّل أهل الألفاظ والظواهر على أهل التعليل والمقاصد

أسباب تغوّل أهل الألفاظ والظواهر على أهل التعليل والمقاصد

بقلم أيمن صالح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:
فرغم الأهميَّة الكُبرى التي يحظى بها التّعليل في تسديد الاجتهاد وامتثال الحكم (كما أوضحنا ذلك بالتفصيل في بحثنا “فوائد تعليل الاحكام”)، فإنّ المتابع للسِّجالات الفقهية والردود العلمية في مطبوعات الكتب وعلى صفحات الإنترنت ومنتديات الفقه والحديث والتفسير، في زمننا هذا، يتجلّى له تغوُّلٌ وتعالٍ لأصحاب مدرسة الألفاظ والظواهر، باختلاف درجاتهم، على أصحاب مدرسة المعاني والتعليل والمقاصد. ومَرَدُّ ذلك، في نظري، إلى أمور:
منها: ضعف الملكة الفقهيّة في هذه الأعصار عمومًا، وارتفاع العلم وذهاب العلماء والفقهاء، وظهور الخطباء والمغرّدين والوعَّاظ والقُصَّاص بدلًا من العلماء، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «إنّكم اليوم في زمان كثيرٌ علماؤه قليلٌ خطباؤه، من ترك عُشْر ما يَعرف فقد هوى، ويأتي من بعدُ زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليلٌ علماؤه، من استمسك بعشر ما يعرف فقد نجا»([1]). وحيث وُجِدت الضَّحالة العلمية، وقلَّ التبحُّر، كان التشبُّثُ باللفظ أكثرَ من المعنى، وبجزئيّات الأدلَّة دون كلّياتها؛ لأنَّ اللفظ قريبٌ وبَيِّن، والمعنى بعيد وعميق، واللفظيُّ أكثر أمنًا، وأقلُّ مخاطرة، والمعنويّ بخلافه.
ومنها: فورة علم الحديث في هذه الأعصار، وطباعة كثير من كتبه، وتيسُّرُ إتقان صناعة نقد الأسانيد وتخريج الأحاديث نسبيًّا، بسبب ما وفَّرته الفهارس العلمية، ومنحته أجهزة الكمبيوتر، من قدرة على تتبُّع النصوص، والبحث فيها وعنها، بسهولة، ودون كلفة مادّية أو بدنية تُذكر. والمشتغلون بالحديث، وأصحاب المدرسة الحديثية، هم، في أكثرهم، وفي الغالب من أحوالهم، أقرب إلى مدرسة اللفظ منهم إلى مدرسة المعنى([2]).
ومنها: ضعف مدارس التقليد المذهبي، وبروز اتّجاه التّرجيح واتِّباع الدّليل، وكثيرٌ من دعاة هذا الاتجاه وأنصاره ومُتَّبعيه، ولا أُعمِّم، أكثر قربًا إلى اللفظ منهم إلى المعنى بسبب ضعف الملكات العلمية الاستنباطية لدى قطاعٍ عريض منهم، وكثرة المشتغلين منهم بالحديث ونقد الأسانيد، وتأثُّرهم بأساطين مدرسة اتِّباع الدّليل من المتأخِّرين كالشّوكاني والألباني وتلامذته، وهم ممّن يغلب عليهم اتّباع ظواهر الألفاظ في الجُملة.
ومنها: دخول كثير من المغرضين من عَلمانيين، ومِمَّن يُدعون مُفكِّرين، وأكاديميين سطحيين، وعلماء سلاطين، في باب «المقاصد». وهؤلاء يُحسب أكثرُهم ظُلمًا على أهل المعاني رغم كون أكثرهم خِلوًا من أدوات الاجتهاد تقريبًا، ويصيرون إلى أفكارٍ وفتاوى يزعمون أنَّها تستند إلى المقاصد ثمَّ يظهر ضعفهم في الدّفاع عنها عند السِّجال الفقهي والمناظرة، بسبب ضعفهم التحصيلي، وانحطاط مكانتهم في علوم الشرع، ممّا شَوَّه الاتجاه المقاصدي برمّته.
_____________________________
([1]) عزاه الألباني للهروي في ذم الكلام (1/14 – 15)، ولأحمد في المسند (5/155)، وللبخاري في التاريخ (1/ 2/374)، من طرق عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا. وقال في أحد أسانيده: صحيح الإسناد رجاله كلهم ثقات غير الحجاج بن أبي زياد، وهو ثقة كما قال أحمد وابن معين، ثم الذهبي. ينظر: الصحيحة للألباني 6/40، حديث رقم (2510).
([2]) ينظر: أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، للمؤلِّف، مجلة الأحمدية، عدد 28، 1434هـ، 2013م.
(المصدر: مدونة أيمن صالح)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى