بقلم أسامة شحادة – موقع الأمة
شكّل الكذب والتزوير عماد خطة إبليس لخداع أبي البشر، آدم عليه السلام، وطرده من الجنة، قال تعالى: “فوَسْوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى” (البقرة: 120)، فلما أطاعه آدم وأكل من الشجرة ظهرت حقيقة شعارات الشيطان ودعاياته، “فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة” (البقرة: 121).
فبينما كان آدم يتوقع الخلود والملك باتّباع الشيطان كُشفت عورته وظهرت سوأته، وفي هذا درس بليغ بأن الشيطان عدوّ لكل الأنبياء دون سبب أو ذنب لهم تجاه الشيطان “وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضُهم إلى بعض زخرفَ القول غرورا” (الأنعام: 112)، فهذه العداوة دائمة ومستمرة، ويقوم بها الشياطين من الجن والإنس! وهي تعتمد على استراتيجية: زخرفة القول بالزور!
وقد اعتمد هذه الاستراتيجيةَ الشيطانية (زخرفة القول وتزويره) كلُّ الطغاة والمجرمين في وجه المؤمنين والمصلحين، وقد سجل القرآن الكريم اتهام فرعون -كذبًا وزورا- لكليم الله موسى عليه السلام “وقال فرعونُ ذروني أقْتل موسى ولْيدعُ ربّه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد” (غافر: 26)، في زخرفة للقول بشكل عجيب، ففرعون الذي ادّعى الألوهية أصبح حريصا على سلامة الدين والتديّن! وفرعون الذي قتل الأطفال واستعبد الناس أصبح يحارب الفساد!
وفي عصرنا الحاضر كم رفع شياطين الإنس والجن شعارات براقة وعناوين جذابة، ولكن حقيقتها كانت السم الناقع والشر الداهم، وما تزال أمتنا تُقصف بمثل هذه الشعارات والكذبات دون توقف أو خجل، والتي منها:
– العقلانية: فباسم العقل والعقلانية روّجوا لمغالطات علمية مثل أن أصل الإنسان حيوان، فحوّلوا عقول البشر وعواطفهم لتصبح عقولا حيوانية تبحث عن الأكل والشرب والّلذة فقط، دون أي تدبر لحقيقة الحياة والموت وتسخير الله عز وجل كل الكائنات للبشر فقط، كما حوّلوا عقول البشر للتنافس على الضعفاء كما هو حال الحيوانات في الغابة، وحوّلوا عواطف البشر لتتقبل قتل الناس لأنه معاقون أو لأنهم يزاحمون الأقوياء على الاستمتاع بالخيرات، وقتلوا عواطف البشر تجاه والديهم فرموهم في دور الرعاية بعد أن كانوا هم قد رموهم في الشارع حين كانوا شبابا!! وبدلا من أن تجد البشرية الراحة والسعادة تحت شعارات العقلانية هذه وجدت نفسها فاقدة لعقولها وسعادتها، ولذلك تتفاقم أرقام المنتحرين والمدمنين والمرضى النفسيين.
وللأسف فإن هذا التحريف والتزوير لمعنى العقل والعقلانية قابله ردّات فعل غير سديدة منها كره كلمة العقل والعقلانية أو التسليم بأن العقل والعقلانية من نصيب هؤلاء، بينما ما تحتاجه البشرية في الحقيقة هو أن نرشدها للعقلانية الحقيقية والصحيحة التي دلّنا علينا نور الوحي في القرآن الكريم والسنة النبوية “إن في خلقِ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلكِ التي تجري في البحر بما ينفع الناسَ وما أنزل اللهُ من السماءِ من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها وبثّ فيها من كل دابةٍ وتصريفِ الرياح والسحابِ المسخّر بين السماء والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون” (البقرة: 164).
نعم؛ تحتاج البشرية اليوم إلى أن تتعرف على العقلانية التي جاء بها الوحي الخاتم للبشرية، هذه العقلانية التي تربط الأسباب بالمسببات، والتي ترشد إلى خالق المسبّبات وهو الله عز وجل، والتي توضح للناس أن مخالفة الفطرة في توحيد الله عز وجل بالمحبة والطاعة تؤدي بالناس إلى الضلال والتفرق والتنازع والقلق والاضطراب كما هو حاصل، وأن مخالفة ما أرشد له من اتباع الأخلاق القويمة تدخل الناس في متاهات الحيوانية والفواحش والأمراض والانقراض! وأن مخالفة شرائعه في العبادات والمعاملات وترك تحكيم شرعه، تجرّ على الناس الويلات والدمار وتجَبّر الطغاة وتفتح الباب للظلم والعدوان، وما أزمة العالم الاقتصادية إلا بسبب الربا، وما نزاعات العالم إلا بسبب الطمع والظلم والعدوان.
فالعقلانية الحقيقية لن تجدها البشرية إلا في ظلال الوحي الرباني، وهذه مهمة العلماء والدعاة في بيانها وإرشاد الناس إليها وإنقاذها من همّها ونصَبها.
– الحرية: وباسم الحرية والتحرر فُتح الباب لانتهاك كل الآثام وكسر كل الأخلاق الفاضلة، فأصبحت الفواحش -التي تُجمع الفطرة البشرية على استقذارها واحتقارها- موضع احترام وتقدير في مواثيق دولية باعتبارها حريات شخصية!
وأصبح التعدي على المسلمين والتطاول على مقدّساتهم مبرَّرا بحرية الإبداع والفن وتجاوزه للحدود والقيود، لكن هذه الحرية تقف صاغرة وذليلة عند مقدسات الآخرين أو رموزهم، فكلّ من يحاول مناقشة تفاصيل حادثة إبادة اليهود على يد النازيين سيكون مصيره السجن، فالحرية ليست مطلقة هنا!
بينما الحرية الحقيقية هي في التحرر من الخضوع لكل الآلهة الباطلة والشهوات الآثمة، قال صلى الله عليه وسلم: “تعِس عبد الدينار، والدرهم، والقَطيفَةِ، والخَميصَةِ، إن أُعطِي رضِي، وإن لم يُعطَ لم يَرضَ”، رواه البخاري.
وقد يكون هذا الحديث لم يُستوعب في الزمن الماضى لكنه اليوم يتجسد بشكل صارخ في الوضوح، فمَن يرى الطوابير الهائلة في انتظار فتح باب الشراء لمنتج جديد أو موسم تنزيلات يدرك مدى العبودية الاستهلاكية التي عمّت مئات الملايين من البشر، ومن يلحظ تهافت المعجبين على تتبّع ماركة معينة أو شخصية إعلانية لدرجة تغيير الشكل بعمليات جراحية أو الانتحار بسبب تعرض أحدهم للإهمال وعدم الالتفات يدرك مدى استفحال العبودية العصرية للأشكال والصور والشخصيات الحية في وثنية حداثية متطورة!
إن عقيدة التوحيد -التي تعني إفراد الله عز وجل بالمحبة الكاملة والطاعة المطلقة لأن الله عز وجل هو صاحب الأسماء الحسنى والصفات العليا الذي خلق الخلق كلّه ومدبر شؤونه وحافظ نظامه ورازق الكائنات جميعا- هي العقيدة التي تجلب النظام والعدل والراحة، لأنها توحّد مصدر التشريع بكونه من عند العليم الحكيم الرحيم وتجعل الجميع سواسية في العدالة “وأيمّ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها”، وفي نظام التوحيد الرباني لا وجود لحق النقض (الفيتو) الذي يعرقل العدالة وينصر المجرمين ويَحرم المظلومين من حقهم!
وعقيدة التوحيد ونظام التوحيد هما اللذان يحرران البشرية من عبودية الاستهلاك التي تملأ الفضاء تحت يافطات براقة كالفن والرياضة والرشاقة والجمال والصحة والمتعة واللذة، وغيرها من الأكاذيب والمغالطات التي انعكست على الأفراد بالمرض والفقر والفراغ، وضربت الاقتصاد والتنمية والاستقرار في المجتمعات، وبسبب عبودية الاستهلاك الترفي ترتفع نسبة المستوردات عن الصادرات بشكل صارخ في غالب البلاد النامية، ما يهدد وجودها وبقاءها، ولا علاج لذلك إلا بالتحرّر من عبودية الأشياء لعبودية رب الأشياء بكفّ النفس عن شهواتها المدمرة والتركيز على نفع الخلق والتزام الطيّب من الأشياء والبعد عن المحرمات التي هي أساس كل شر في المأكولات والمشروبات والملبوسات والمعاملات.
ومَن التزم أحكام الإسلام في عقائده وعباداته ومعاملاته وأخلاقه وسلوكياته سيتجنب أغلب شرور حضارة عبودية الاستهلاك بشكل تلقائي، ودون مشقّة وعناء، كم قصّر المسلمون في تعريف البشرية به!
– العلم: فكم من جهلٍ نُشر باسم العلم، وكم من جرائم ارتكبت باسم العلم حين تنكّب البشر طريق الحق في تعلّم العلم، فلما حُرفت الكتب السماوية بالافتراء والتزوير وجعل بعضُ البشر ما فيها من جهالات ميزانا توزن به العلوم والمعارف شقيت البشرية أيّما شقاء، فنُصبت محاكم التفتيش للعلماء وعُلّقوا على أعواد المشانق أو سلّمت رقابهم لشفرات المقاصل.
وباسم العلم تم نشر الكفر والإلحاد، والزعم بأن البشرية تجاوزت حد المراهقة وبلغت الرشد ولم تعد بحاجة لهداية الوحي الرباني ونور النبوات والرسالات السماوية! فماذا وجدت البشرية في هذا الرشد العلماني سوى الحروب المهلِكة واستعباد الملايين من الأحرار في أفريقيا وغيرها، وهل وجدت البشرية في ظل العلم العلماني إلا احتكار بذور النباتات بعد تخريبها فلا تنتج، وتخريب الأرض بفضل علم هندسة الجينات، ما جعل الكثير من الدول تركع للأعداء بسبب التحكم في لقمة عيشها! وعلى غرار ذلك تحكّم رؤوس الأموال العالمية والشركات العابرة للقارات بأسرار الأدوية ما أدّى إلى قتل ملايين المرضى في العالم لعدم قدرتهم على شراء الأدوية التي تبالغ شركات الأدوية في مقدار أرباحها بما يشبه الحسابات الفلكية! وأيضا ماذا جنت البشرية من وعود العلم العلماني الذي يلقي فوائض الطعام في البحار للحفاظ على ارتفاع الأسعار فيما يموت الملايين جوعا في أرجاء العالم.
بينما حين حكمت الشريعة الإسلامية ربوعَ العالم نهضت المعرفة والعلوم في كل أرجاء العالم وعمت هدايتها ومنافعها البشرية، ودفعت الشريعة العلم والعلماء للترقي والتقدم، ولم تقتلهم أو تحاربهم، وما تزال معاهد العلم والمعرفة في العالم اليوم تبحث عن الأذكياء والعلماء والعباقرة من المسلمين، فتقوم بتوطينهم وتجنيسهم، وهي الظاهرة التي تعرف باسم “سرقة العقول”.
إن الإسلام لم يكتفِ بدعم حركة العلم والعلماء وفتح الآفاق لها والحث عليها واعتبارها من أبواب العبادة والطاعة، بل أيضا قدم للعلم الضوابط الأخلاقية التي تحمي العلم من أن يصبح أداة تخريب وإفساد وعدوان، وهو ما تفتقده الحضارة العلمانية العلمية التي أصبحت تسخّر العلم لما يحقق مصلحتها مهما تسبب في كوارث أخرى أكبر وأضخم، ولذلك أصبح العالم يعرف القنابل الجرثومية والكيماوية وأمثالها.
وختاما؛ فإن استراتيجية التزوير والتضليل والشعارات الكاذبة هي الاستراتيجية المعتمدة للشياطين، قديما وحديثا، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من لعبة تغيير الأسماء فقال: “ليشربنّ أناسٌ من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها” رواه ابن ماجه وصححه الألباني، وكم من أشياء كالخمر اليوم تسمى بغير اسمها، فالربا فوائد بنكية، والزنا حرية شخصية وعلاقات حرة، والكفر والإلحاد انفتاح وتقدم!
وبالمقابل، تم تزوير وتحريف وزخرفة المعاني الشرعية فالحجاب أصبح تشددا وتعقيدا، والتزامُ السنة النبوية تنطّع وتطرّف، وتعلّم القرآن الكريم وتعليمه نشر للتطرف والإرهاب، وهكذا في استمرار لمنهج شيطانهم الأول إبليس الذي زعم أنه يريد لأبي البشر الخلدَ والملك، وشياطين اليوم من الإنس والجن يزعمون أنهم يريدون لأحفاد آدم التقدم والتطور والسعادة، حذو القذّة بالقذة!
واليوم لا نجاة لنا من فخّ إبليس والشياطين إلا باليقظة للشعارات البراقة واليافطات التي يرفعونها والتي تخفي في داخلها أو خلفها كارثة ضخمة وطريقا لجهنم في الدنيا والآخرة، ولا يمكن تجاوز هذه الكوارث وطريق جهنم إلا بالاعتصام بهداية ونور الوحي الرباني “فمن تبع هداي فلا يضلّ ولا يشقي * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا” (البقرة: ١٢٣).