أحمد ياسين رمز العقيدة الراسخة (في ذكراه)
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
ذكرى عزيزة علينا وعلى المسلمين في كل مكان, بل على الشرفاء والأحرار في العالم كله, ذكرى الشيخ الشهيد أحمد ياسين -تقبله الله في الشهداء- الذي اغتالته قوى الشر الصهيونية الغادرة بعد صلاة الفجر 22/3/2004, فلقي ربه صابرًا صائمًا محتسبًا.
وهو -كما نعلم- كان مسنًا مشلولاً, يجلس على كرسي لا يتحرك إلا إذا حُرك, ومع ذلك فإن دولة تتزود بالقنابل النووية, وتملك من السلاح ما لا يملكه كل العرب والمسلمين في العالم, هذه الدولة العظمى التي تتكفل أمريكا بتوفير العظمة لها وتهدد بها العرب تحركت لتقتل هذا الرجل القعيد المسلوب الحركة, وكأنها كانت مُقٍدمة على معركة هائلة أعدت لها الصواريخ وخططت لها, وأشرف رئيس الحكومة (شارون) على إدارة المعركة حتى اغتيل الشيخ وتمزق, وبذلك بردت نار إسرائيل, ولا تعلم أن الأمر سيشعل المعركة أكثر” لأن الأمر ليس أمر أحمد ياسين, وإنما هو أمر العقيدة التي كان ينطوي عليها صدر أحمد ياسين.
وبرغم أن الرجل كان قعيدًا إلا أنه كان يتمتع من العقيدة بما يبث به الرعب والفزع في قلوبهم جميعًا, وإلى هذه العقيدة كانت تعود أهميته, كان يملك من العقيدة ما يهزم به كل أسباب الخوف, ومع أنه كان يعلم أن إسرائيل تُبيًّت له, فقد حاولت اغتياله من قبلُ إلا أنه كان يخرج من بيته بكل بساطة, كأنما يتوقع رحلة عظيمة تنقله إلى لقاء الله عز وجل.
إن أحمد ياسين كان رمزًا للعقيدة التي تخشاها أمريكا وتخشاها إسرائيل, أما الذين يتاجرون بالقضية الفلسطينية, والذين قبضوا الأموال مقابل الجاسوسية والمعلومات المخابراتية هؤلاء تواروا جميعًا من المشهد وقتها, ولا وجود لهم ولا ذكر لهم” لأن القضية لا تعنيهم, أما الذين تعنيهم القضية فهم الذين ساروا على درب أحمد ياسين عندما قال: “الموت في سبيل الله أسمي أمانينا”.
وهذا -في الواقع- ما يزعج راحة إسرائيل ويقض مضجعها, ولن تهدأ إسرائيل أبدًا حتى يتحقق قول الله عز وجل: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} [المائدة: 64].
هكذا ينبغي أن ننظر إلى مقتل الرجل, إنه آية على الثبات الإيماني في وجه الإجرام, وهو يعلم -يقينا- ما تملكه إسرائيل من طائرات “أباتشي” وقنابل نووية, ومع ذلك فلم يعبأ بذلك, وكأنه كان يسخر منهم قائلاً: “إنكم لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئًا إلا أن تعجلوا بلقاء ربي تبارك وتعالى”.
إن الشيخ كان يمثل قدوة للأجيال” حيث إن البعض كان يتصور أن القادة يدفعون الأطفال للهول والموت ثم يختبئون هم خلفهم, فجاء أحمد ياسين ليقدم القدوة للصغار والكبار, قدوة تؤكد أننا جميعًا على خط النار مستهدفون, وينبغي أن ندفع ثمن الجنة, ولن يكون ثمنها إلا الشهادة, فلا نخاف ولا نرتعش, إنما نقبل عليها.. معتقدين أنها أقصر طريق إلى لقاء الحبيب عز وجل, فهم لم يستطيعوا أن يقتلوه بطريقة أفضل من طريقة تجعله شهيدًا, ونحن نعلم أننا في عصرٍ انقلبت فيه الموازين, فمن يدافع عن أرضه وعرضه أصبح إرهابيًا, أما إسرائيل التي تغتصب الأرض وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ, وتمتلك من أسلحة الدمار ما لا يملكه العالم, فهي صاحبة الحق وهي المضطهدة التي لها الحق في الدفاع عن نفسها, وقد رأيناهم وقتها معترضين أن يبحث مجلس الأمن قضية اغتيال الرجل بحجة أنه إرهابي.
أي إرهاب في هذا الرجل المحطم القعيد؟! وفيمَ تخافه إسرائيل غير أنه يحمل عقيدة ترعب إسرائيل ومن وراءها؟ إن كل الذين تاجروا بالقضية اختفوا من المشهد, وهربوا فلم يعد لهم صوت, بل إنهم ينعمون بالمال الذي حصلوه من المتاحرة بها, أما أصحاب القضية الحقيقيون فهم هؤلاء الأبطال الذين تهون عندهم الدنيا في سبيل المبدأ والعقيدة, والذين يقاتلون لا من أجل الأرض فقط, إنما للأرض والعرض وللحفاظ على أرض تحوي فيها المسجد الأقصي الذي بارك الله حوله, وإسرائيل على ما تملك من قوة لا تملك واحدًا من هؤلاء الأبطال يستطيع أن يدفع روحه ثمن أرضه وعرضه ولو كان مال الدنيا كله هو الثمن, وكما قال القرآن عنهم -وكأنما كان يتنبأ بما ستكون عليه إسرائيل: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر:14) .
فالقرى المحصنة هي المستوطنات, والجدر هي الجدر العازلة التي يحيطون بها أنفسهم اليوم. هكذا مات أحمد ياسين, لكنه لم يمت, إنما استأنف حياة أبدية جديدة: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169) (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران:170) .
سوف يظل ذكره ولن ينقطع, ومن علامات ذلك أن هناك ستة ولدوا في قرية الشهيد أحمد ياسين في نفس اليوم الذي استشهد فيه, وتسموا جميعًا بـ”أحمد ياسين”, سوف يظل ذكره وتدوم قدوته, وتستمر سيرته نبراسًا للذين أتوا بعده وملأوا الفراغ الذي تركه, وسيستمر الرعب الذي مثله مقتله في قلوب الذين يتخفَّون بالجدر, ويحتمون بالقرى المحصنة, والله غالب على أمره, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)