مقالاتمقالات مختارة

أثر الوعي السُّنني في الإحياء الحضاري

أثر الوعي السُّنني في الإحياء الحضاري

بقلم د. رشيد كهوس

إن السنن الإلهية هي الميزان الذي نحكم به على سائر الأمور، والمقاس الذي نقيس به كافة الأحوال، وهي الفلسفة القرآنية التصورية للكون والحياة، الناظمة للعلاقات بين مختلف التجمعات البشرية والأنساق الحضارية، وهي مفاتيح لفهم تدفق الحياة والوجود وحركة التاريخ وتشكُّل المصائر…

لذلك توقف صلاح المجتمعات البشرية وفلاحها ونهوضها وسقوطها على مدى اهتدائها بهدايات السنن، وامتثالها بأحكامها، وعملها بمقتضياتها، والسير في طريقها المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء. رشيد كهوس

لكن على الأمة أن تستقري آيات الكتاب المسطور (القرآن) وآيات الكتاب المنظور (الكون)-كما فعلت مع فقه الأحكام- لاستكناه كلمات الله التامات وعهوده البينات, واستخراجها في قواعد ذات موضوع واحد حتى تلم بجل السنن في الموضوع الواحد؛ فتمضي على بينة من ربها بكل ثقة وعزم وحزم نحو غاياتها الكبرى (عمارة الأرض-والنهوض بأمانة الاستخلاف-وعبادة الله تعالى).

هذا والأمة لا يستقيم حالها، إلا إذا فهمت هذه السنن الإلهية، وانسجمت حياتها وتكيفت معها. ومتى أعرضت عنها وتنكبت هديها جهلا أو غفلة أو تهاونا أو عنادا واستكبارا؛ فإنها حتما ستواجه مصير أمثالها، وتلاقي جزاءها دون تخلف أو محاباة.

ومن ثم فقد أصيبت الأمة المسلمة اليوم بذُلٍ وهوان، وتفرقٍ وخذلان، وتكالب الأعداء عليها من كل حدبٍ وصوب، فنهبوا ثرواتها، وسلبوا خيراتها، جزاءً وفاقاً على تنكُّبها عن سنن العمران والاجتماع البشري، فتقاعست الهمم ونكست الرؤوس وتقاعس الناس عن البحث سبل الخلاص، فلا تكاد تجد إلا الأماني المعسولة، وانتظار السنن الخارقة للعادة دون الأخذ بسنن الله الجارية وعدم التعامل معها بشكل صحيح وإغفالها وعدم إدراك كنهها والتقصير المعرفي بها مما أدى إلى استنزاف الكثير من طاقات المسلمين ومساعيهم، وتعثر خطواتهم في طريق البناء والرقي والازدهار، حتى صاروا غرضاً للغزاة الذين يتربصون بهم الدوائر من كل حدب وصوب.

ولذلك يعتبر تنكب منهاج الوعي السنني، والعدول عن كشف ما تضمنه من عبر وعظات ونواميس مطردة التي تأخذ بيد الأمم إلى بر الأمان وشاطئ النجاة وتنأى عن السقوط في المهاوي والزلات، وتوجيه الهمم إليه مما أورثنا التأخر عن الركب الذي نعيشه ونعاني منه.

وإن عملية الإحياء والتجديد تحتاج إلى الوعي السنني، وعيا يهدي إلى سبيل الرشاد، يحيي الأمة ويكشف عنها الغمة، ويزيح عنها الظلمة، وعلى ضوئه وفي نوره تبني حضارتها الزاهرة، كما فعل سلفنا الصالح لما تدبروا القرآن الكريم تدبراً سننيا جعلهم على رباط وثيق بسنن الله وقوانينه. فمنها استمدوا الخِبرة والأسوة، ومنها استقوا الرحمة والحكمة، وبفقهها بنوا مجتمعاً إسلامياً صالحاً ومنعوا أنفسهم وأمتهم من السقوط في مستنقع الهلاك، وحفظوها من معاول الهدم.

يقول مؤرخنا الحكيم عبد الرحمن بن خلدون –رحمه الله- في سنة الله في الأمم والأفراد والجماعات: “ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة ؛ وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [سورة غافر: 85]”([1]).

وبناء على ذلك فإن الإنسان حين لا يهتدي بسنن الله في العمران والاجتماع البشري، ولا يهتدي بالعلم والهدى الذي جاء من عند الله يميل به هواه؛ لأنه فقد الميزان، فصار سهلاً عليه أن يميل مع هواه حيثُ لا يخشى سنة ولا علما. فكيف يخشاها!… وهو لم يشعر بقوانينها في الحياة، وأسلوب كشفها للباطل! … فلذا نجد أن ضيق نظره، والمحدودية في إدراكه، يسهلان عليه اتباع الظنون وما تهواه نفسه، دون أن يخشى نكيرا([2]).

والفترة الحرجة التي تجتازها أمة الإسلام اليوم تحتاج إلى رؤية واضحة لتاريخها يضيء لها معالم الطريق وآفاق الطموح.

ونحن أمة عريقة مرت بها على مسار تاريخها الطويل عصور ازدهار وانحطاط، سايرت يقظتها ووعيها، أو غفوتها وخمولها، وهي لا تستطيع أن تحمي وجودها وتتابع سيرها على مراقي تقدمها، ما لم تستقرئ ماضي خطواتها على درب الزمن، وتدرك سر قوتها وبقائها، وعوامل ضعفها وذرائع تخلفها([3]).

إن ما تعيشه الأمة المسلمة اليوم من تفكك وانحطاط وانهيار: لا يرجع إلى النص القرآني بل إلى الواقع الاجتماعي الذي لم يستنر بسنن الله في الاجتماع البشري، إضافة إلى ضعف علاقة المسلمين بالقرآن فهماً ووعيا وتدبراً.

ولذلك لم يكن المسلمون على مستوى الأمر الإلهي(اقرأ) الذي ربط بين قراءة الكتاب المنظور (الكون) وقراءة الكتاب المسطور (القرآن)، فجعل القراءة باسم الله الذي خلق الإنسان من علق والذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، فلم يفد المسلمون لا من قراءة المسطور ولا من قراءة المنظور، فجهلوا السنن الإلهية التي تحكم الحياة، وتوقفوا عن النظر والقراءة الواعية والسير في الأرض استنباطا لسنن الاجتماع والعمران الحضاري.

ولقـد أدرك سلفنا الصالح مغزى السنن الإلهية الواردة في القرآن الكريم في استشراف المستقبل الزاهر بالنظر إلى أن هذه السنن ثابتة ومطردة لا تحابي أحداً ولا تتخلف عن مسيرها إلا وفـق علم الله تعالى وحكمه وحكمته ومشيئته، ولقد حضوا الأمة وحثوها على وجوب التفكر في الكتاب المنظور وتدبر الكتاب المسطور والنظر بعين البصيرة إلى الآيات المبثوثة هنا وهناك، للاستفادة منها، والاستنارة بنورها والسير على منهاجها لبناء مستقبـل أمة الإسلام.

إن القرآن الكريم مليء بالسنن الهدائية الكفيلة بأن تحيي الأمة وتنشئ جيلا صالحا يسير سويا على صراط الله المستقيم، لكن المشكلة ليست في غياب المنهاج الذي يضبط ولكن في العقل الذي يدرك ويعي والقلب الذي يتحرك والهمة التي تعمل وتنفذ ما أسفر عنه تدبر سنن القرآن وآياته وهداياته.

إن الجيل الخالد من الصحابة  ما تحققت له السيادة والريادة والصدارة؛ إلا بالوعي السنني واستيعابه له استيعاباً عملياً فكان يربط العلم النافع بالعمل الصالح، من هنا استطاعوا أن يبنوا عمرانا بشريا وحضارة إنسانية وينشئوا جيلاً قرآنياً خالداً، ينشر نور الإسلام وسلامه ورحمته وتسامحه وتعايشه في ربوع الأرض كلها.

وإن واقع الأمة المسلمة اليوم محزن لهجرانها للقرآن الكريم قراءةً وتدبراً ووعيا، حتى كاد ينطبق عليها قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾[سورة البقرة من الآية: 78]،  أي لا يعلمون من الكتاب إلا التلاوة في المناسبات والقراءة على الأموات، فلا يعرفون معانيه وسننه ولا يتدبرون آياته.

وهكذا ركزت الدراسات القرآنية على جانب ضيق من علوم القرآن، وألفت فيه مجلدات طوال، وشروحات كثيرة، وإن كانت له أهميته، لكنها أغفلت جانبا مهما -(والذي يمثل أزيد من 90 % من آيات القرآن الكريم)- من آيات تحث العقل البشري على النظر والتدبر والقراءة المقاصدية الحضارية الواعية للكون والسير في الأرض وأخذ العبرة من الأمم الغابرة واكتشاف سنن الاجتماع والعمران الإنساني وغير ذلك.. وكان من نتائج ذلك الفصل أن غاب الوعي السنني، وتحولت قراءة القرآن الكريم إلى قراءات لا تتجاوز الشفاه !؟ وقد نتج عن ذلك اضطراب في منهج التعامل مع القرآن الكريم فهما وتطبيقا.

والقرآن الكريم ذكر لنا أحوال الأمم السابقة والمجتمعات الغابرة، لكن المسلمين يمرون على تلك الآيات القرآنية ولما يتدبروها، يحدثهم القرآن عن أمم اندثرت لأنها لم تأخذ بسنن البقاء، لكن المسلمين يسيرون على نفس سنن الزوال ولم يتعظوا بغيرهم من الأمم…

ومع ذلك فإن سنن الله سائرة بالجميع فقهوا ذلك أم جهلوا، ومن يسمع كلام الله ويدبره ويصدق كلمته ويستنر بحكمته تعالى يستطعْ وحده أن يساير سنن الله في خلقه على بصيرة من حتمية القدر، وهي غيب يؤمن به، على بصيرة أيضا بارتباط النتائج بالأسباب، وارتباط نصرة الله للعباد بنصرة العباد لله.

ولهذا فتدبر سنن الله في القرآن الكريم كفيلة بأن تكتشف مواطن الخلل وتحصر آلام الحاضر وهزائمه ونكساته وانكساراته في أبعادها النسبية.

لذلك فالقراءة السننية الواعية لآيات القرآن الكريم والوقوف عندها -بهذه النظرة الثاقبة والعقلية الواعية-تستطيع الأمة أن تدرك سنن الازدهار الحضاري والرقي الاجتماعي والاستمرار والاستقرار فتأخذ بها، وتدرك سنن الهزيمة والتدمير والانهيار والانمحاق فتبتعد عنها، “فمن عرف سنن الله في خلقه والتزمها زادته صلابة وقوة في المواقف التي ترضي الرب تبارك وتعالى بخلاف من يجهلها، لأن من يجهل مصدر الأحداث وسنن الله U فإنه يكون في حيرة وقلق لا يعلمه إلا الله!!” ([4]).

([1]) المقدمة، ص35.

([2])حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص213.

([3])القرآن وقضايا الإنسان، عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ص261.

([4])صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي، علي محمد الصلابي، 1/23.

المصدر: مركز الشهود الحضاري

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى