كتب وبحوث

أثر الموت في الحقوق المالية والشخصية للمجاهد والشهيد

اسم البحث: أثر الموت في الحقوق المالية والشخصية للمجاهد والشهيد.

إعداد: د. صليحة بن عاشور – الملتقى الفقهي.

مقدمة

يعود اهتمام المشرعين بقدماء المحاربين والمقاومين والمجاهدين وذوي الحقوق إلى بدء الحروب والثورات على المستوى العالمي، ولا زالت الدراسات العلمية التشريعية في هذا الإطار حثيثة من أجل الوصول إلى أفضل الصيغ القانونية؛ لتعويض هذه الفئات وحمايتها ماديا ومعنويا.

فهل وجدت هذه الفئة في الإسلام ؟ وهل لها من الحقوق في ظله ؟ وما المراد بالمجاهدين والشهداء وذوي الحقوق ؟ وهل تجوز الحقوق والمنح والامتيازات التي تخص بها هذه الفئة شرعا ؟ وما أثر الموت في حقوق الشهيد والمجاهد المالية والشخصية؟ وهل تنتقل إلى ورثتهم من بعدهم أم لا ؟ هذا ما سأجيب عنه إن شاء الله من خلال هذا المقال:

أولا: تعريف المجاهدين والشهداء وذوي الحقوق شرعا

إن الوقوف على مفهوم المجاهدين، والشهداء وذوي الحقوق يلزمني أن أعرج على مفهوم الجهاد في الشريعة الإسلامية، فالجهاد على وجه العموم ركن أساسي في هذا الدين وهو ذروة سنامه شرع لحماية العقيدة، وحماية حقوق الناس والذود عن حرماتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فهو بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل. قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ فيِ سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين }[البقرة/190، قال المفسرون حول الآية:” أي قاتلوا لإعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار”[1].

ومن البديهي أن يندرج تحته الدفاع عن بلاد المسلمين، ورد العدوان عنها، وقد غزا الاستعمار بلاد المسلمين قديما وحديثا، وبدد ثرواتها وانتهك أعراض أهلها وشوه العقيدة الإسلامية التي هي من ثوابت هذه الأمة ، وقامت الشعوب تذود  عن دينها ووطنها، فكان منهم المجاهد والشهيد.

يقول محمد كشود في معرض الحديث عن الثورة التحريرية الجزائرية:” وأية غرابة أن نطلق على كفاح الجزائر اليوم اسم الجهاد ؟ وأية غرابة في أن نطلق على الجزائري المكافح اليوم لفظة المجاهد؟ إن ذلك لا يزيد على أن يكون إظهارا للحقيقة وإبرازا لجانب من أهم جوانب كفاحنا ضد الاستعمار الفرنسي”[2].

وقال أيضا:” وقد تم إقرار المصطلحين في التشريع الجزائري الذي يستمد روحه أصلا من أحكام الشريعة الإسلامية”[3].

وعليه يتبين أن مفهوم الجهاد في التشريع الوضعي الجزائري الخاص بفئة المجاهدين وذوي الحقوق لا يختلف عنه في الشريعة الإسلامية وعليه:

– المجاهدون: هم أولئك الذين أصيبوا بأضرار في أموالهم وأنفسهم، بسبب مشاركتهم في الحرب دفاعا عن دينهم ووطنهم وأنفسهم وأعراضهم…

– الشهداء: هم أولئك الذين نالوا شرف الشهادة.

– ذوو حقوق الشهداء: ذهب بعض الفقهاء إلى أن ذوي حقوق الشهداء هم ورثة الشهيد حسب نظام الميراث في الشريعة الإسلامية، جاء في كتاب الأحكام السلطانية في قسم ما يختص بالجيش من إثبات وعطاء، وفي فصل تقدير العطاء:” وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغي بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة..ثم قال: وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثا عنه على فرائض الله تعالى وهو دين لورثته في بيت المال”[4].

وذهب ابن عابدين إلى أن من كان له حقا في بيت المال لا يورث عنه[5]، أي أن ذوي حقوق الشهداء ليسوا هم الورثة، وذهب البعض إلى التفصيل سأشير إليه لاحقا إن شاء الله.

ثانيا- جواز العطاءات والامتيازات الخاصة بالمجاهدين وذوي الحقوق شرعا:

خص الإسلام المجاهدين وذوي حقوق الشهداء بامتيازات ومنح مقابل تفانيهم وتفاني ذويهم في سبيل إعلاء كلمة الله ومما يدل على ذلك ما يلي:

أ-المفاضلة في العطاءات في الإسلام حسب مكانة مستحقيها وأسبقيتهم في الجهاد:

قال تعالى {إِنَّ الذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالذِينَ ءَاوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمُ, أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُم مِّنْ وَّلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَالذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمُ, أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ اِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الاَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ* وَالذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالذِينَ ءَاوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال/72-74

جاء في تفسير القرطبي: “جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين أولياء بعض.. وفي قوله تعالى« حقا » قال: أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة وحقق الله إيمانهم بالبشارة بقوله{لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }..وفي قوله{وَالذِينَ ءَامَنُوا مِنم بَعْدُ وهاجروا} الأنفال/75 قال: يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان، وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى، والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة”[6].

فقد جعل عز وجل من المؤمنين فئات تتفاوت من حيث المرتبة بتفاوت تضحيتهم وهجرتهم وجهادهم ونصرتهم وإيوائهم لبعضهم البعض؛ ومنه تتفاوت الامتيازات والعطاءات التي تمنح لها على اختلاف بين الفقهاء في ذلك حسب أسبقيتهم في الجهاد والهجرة والبلاء والنصرة، فمنهم فئة المؤمنين المهاجرين المجاهدين بالمال والنفس، ومنهم فئة المؤمنين الأنصار الذين كان لهم فضل إيواء المهاجرين والجهاد في سبيل الله، ومنهم فئة المؤمنين الذين لم يهاجروا ولكنهم يلبون نداء الجهاد إذا ما دعوا.

قال ابن كثير:” ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم تاركين أموالهم، والأنصار المسلمين من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم ونصروا الله ورسوله بالقتال، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد”[7]، ولاشك أنه خص هاتين الفئتين بعطاء ومنح وامتيازات مقابل أسبقيتهما وفضلهما في الجهاد والبلاء والنصرة، أما الفئة التي لم تهاجر فقد نفى عنها الولاية إلا أن تهاجر، ولعل في ذكر هذه الفئة إشارة إلى إمكان تقسيمها إلى فئتين، فئة لم تهاجر ولكنها تلبي نداء الجهاد، وفئة لم تهاجر ولا تلبي نداء الجهاد إذا ما طولب منها، وهذه الأخيرة لعلها لا تستحق الغنيمة ولا الفيء، ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه عند خروجهم للجهاد « اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فأدعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما  أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم… »[8]، ففي هذا الحديث في تصوري تخصيص المؤمنين المجاهدين بامتياز الفيء والغنيمة دون غيرهم من القاعدين عن الجهاد.

جاء في الأحكام السلطانية – الباب الثاني عشر– قسم الفيء والغنيمة حول مصارف الفيء وكيفية تقسيمه على مستحقيه مستدلا بقوله تعالى:] مَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىا رَسُولِهِ مِنَ اَهْلِ الْقُرَىا فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىا وَالْيَتَامَىا وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ الحشر/7فذكر أن الخمس يقسم على خمسة أسهم متساوية، سهم منها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، واختلف الناس فيه بعد موته فذهب من يقول بميراث الأنبياء إلى أنه موروث عنه مصروف إلى ورثته، والسهم الثاني: لذوي القربى، وعند الشافعي حقهم فيه ثابت إلى يومنا هذا، لبني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف خاصة، لا حق فيه لمن سواهم، يسوى فيه بين صغارهم وكبارهم، وأغنيائهم وفقرائهم، ويفضل فيه بين الرجال والنساء للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنهم أعطوه باسم القرابة، ولا حق فيه لمواليهم ولا لأولاد بناتهم، ومن مات منهم بعد حصول المال، وقبل قسمته كان سهمه منه مستحقا لورثته..وأما أربعة أخماسه ففيه قولان؛ أحدهما: أنه للجيش خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم، ليكون معدا والقول الثاني: أنه مصروف في المصالح التي منها أرزاق الجيش، وما لا غنى للمسلمين عنه[9].

ثم قال:” ولا يجوز أن يصرف الفيء في أهل الصدقات، ولا تصرف الصدقات في أهل الفيء ويصرف كل واحد من المالين في أهله، وأهل الصدقة: من لا هجرة له، وليس من المقاتلة عن المسلمين ولا من حماة البيضة، وأهل الفيء هم ذوو الهجرة الذابون عن البيضة، والمانعون عن الحريم والمجاهدون للعدو، وكان اسم الهجرة لا ينطبق إلا على من هاجر من وطنه إلى المدينة لطلب الإسلام وكانت كل قبيلة أسلمت وهاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قبيلة هاجر بعضها تدعى الخيرة فكان المهاجرون بررة وخيرة، ثم سقط حكم الهجرة بعد الفتح، وصار المسلمون مهاجرين وأعرابا؛ فكان أهل الصدقة يسمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  أعرابا، ويسمى أهل  الفيء مهاجرين، وسوى أبوحنيفة بينهما، وجوز صرف كل واحد من المالين في كل واحد من الفريقين[10]، قال أبو يعلى: ” فإذا أراد الإمام أن يصل قوما لما يعود بمصالح المسلمين كالرسل والمؤلفة قلوبهم جاز أن يصلهم من مال الفيء، وإن كانت صلة لا تعود بمصلحة على المسلمين وكان المقصود بها نفع المعطى خاصة كانت الصلة من ماله[11].

وقال الماوردي:” ويجوز للإمام أن يعطي ذكور أولاده من مال الفيء لأنهم من أهله، فإن كانوا صغارا كانوا في إعطاء الذراري من ذوي السابقة والتقدم، وإن كانوا كبارا ففي إعطاء المقاتلة من أمثالهم.. ولا يجوز للإمام أن يعطي إناث أولاده من مال الفيء ؛ لأنهم من جملة ذريته الداخلين في عطائه”[12].

 وذهب أبو يعلى إلى جواز العطاء لهم[13]، وأما العبيد فإن كانوا مقاتلة فقد كان أبوبكر يفرض لهم في العطاء، ولم يفرض لهم عمر، ولكن تزاد ساداتهم في العطاء لأجلهم[14].

وحول الغنيمة قال الماوردي:” وإذا اختص بها- أي الغنيمة- من شهد الوقعة وجب أن يفضل الفارس على الراجل لفضل عنائه، واختلف في قدر تفضيله، فقال أبوحنيفة: يعطى الفارس سهمين والراجل سهما واحدا، وقال الشافعي: يعطى الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهما واحدا، ولا يعطى سهم الفارس إلا لأصحاب الخيل خاصة، ويعطى ركاب البغال والحمير والجمال والفيلة سهام الرجالة…”[15].

ثم قال:” وإذا شهد الوقعة بفرس أسهم له، وإن لم يقاتل عليه، وإذا خلفه في المعسكر لم يسهم له”[16]، ” ومن مات فرسه بعد حضور الوقعة أسهم له، ولو مات قبلها لم يسهم له، كذلك لو كان هو الميت، وقال أبوحنيفة: إن مات هو أو فرسه بعد دخول دار الحرب أسهم له “[17].

قال ابن حجر:” واختلف فيمن خرج إلى الغزو ومعه فرس فمات قبل حضور القتال، فقال مالك: يستحق سهم الفرس، وقال الشافعي والباقون لا سهم له إلا إذا حضر القتال، فلو مات الفرس في الحرب استحق صاحبه، وإن مات صاحبه استمر استحقاقه وهو للورثة “[18].

ويعضد المفاضلة السابقة حسب الأسبقية في الجهاد والبلاء والنصرة  الأثر الآتي:

عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب الناس بالجابية فقال: « من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تبارك وتعالى جعلني له خازنا وقاسما، فإني بادئ بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم  فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين، ثم أنا بادئ بأصحابي، أخرجنا من ديارنا وأموالنا، ثم بالأنصار الذين يأوونا في الدار وبإيمان قلوبهم، ثم قال: فمن أسرع العطاء فلا يلومن رجل إلا مناخ  راحلته »[19].

فعمر بن الخطاب- رضي الله عنه – بهذا الأثر يؤكد ما جاء في الآيات السابقة الذكر وحديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ويقرر أن المال يعطى لمستحقيه مع التفاضل فيما بينهم من حيث المكانة ودرجة تضحيتهم، ودرجة الضرر الذي أصابهم والأسبقية في الجهاد.. ولعل بدئه بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أنهن ذوات حقوق لمكانة الرسول  صلى الله عليه وسلم ومكانتهن ووضعيتهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فجعل العطاء لهن ابتداء، ثم جعل المهاجرين الذين تركوا ديارهم ” وهم المهاجرين من مكة ” والذين أووهم في مساكنهم ” وهم الأنصار في المدينة ” مرتبة، وفاضل بينهم وبين غيرهم ممن لم يكن لهم سبق الهجرة  ولا فضل إيواء غيرهم من المهاجرين، كما يستوجب الأمر المفاضلة بين الماكثين في ديارهم الملبين لنداء الجهاد وغيرهم من القاعدين الذين لا يلبون نداء الجهاد، ولا يضحون بأموالهم وأنفسهم.

ولعل المفاضلة بين هذه الفئات عام سيبقى مر العصور والأزمان؛ لأن العبرة في النصوص بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع مراعاة التفاوت في انطباق المسميات على هذه الفئات في كل زمان ومكان…

كما يعضد تلك المفاضلة أيضا قول عمر رضي الله عنه: « مالكم أيها الناس تكلموا، أما والله ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا منازلنا من كتاب الله ورسوله، الرجل وقومه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته، وما منا من أحد من المسلمين إلا وله في هذا الفيء حق أعطيه، أو أمنعه إلا عبدا مملوكا، ولئن بقيت ليبلغن الراعي وهو في جبال طغاء حقه من فيء الله »[20].

ومما يعضد هذه المفاضلة أيضا في الفئة الواحدة نفسها-كفئة المجاهدين- ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة: لما فتح سعد جلولاء أصاب المسلمون ثلاثين ألف ألف، قسم للفارس ثلاثة آلاف مثقال، وللراجل ألف مثقال[21].

ب- تخصيص حقوق وعطاءات لذوي حقوق الشهداء:

ومن آثار الصحابة في ذلك ما روي عن محمد بن عبدالله الأسدي قال حدثنا حبان

عن مجالد عن الشعبي:قال أُتِيَ عمر من جلولاء بستة ألف ألف، ففرض العطاء[22]؛ أي قسمه وفق الفرائض الشرعية.

ولقول الفقهاء السابق[23]:”.. وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثا عنه على فرائض الله تعالى وهو دين لورثته في بيت المال.. واختلف الفقهاء في استبقاء نفقات ذريته من عطائه في ديوان الجيش على قولين أحدهما: أنه قد سقطت نفقتهم لذهاب مستحقه ويحالون على مال العشر والصدقة، والثاني: أنه يستبقى من عطائه نفقات ذريته ترغيبا له في المقام، وبعثا له على الإقدام”.

وقول ابن حجر:” واختلف فيمن خرج إلى الغزو ومعه فرس..ثم قال: فلو مات الفرس في الحرب استحق صاحبه، وإن مات صاحبه استمر استحقاقه وهو للورثة “[24].

وقال شرف الدين النووي في فصل فيمن يستحق السهم:” من شهد الوقعة بنية الجهاد استحقه، قاتل أو لم يقاتل، إذا كان ممن يسهم له، ويتعلق بهذا الأصل صور.. ذكر في الصورة الثالثة منها: مات بعضهم قبل الشروع في القتال، فلا حق لهم.. ولو مات رجل بعد انقضاء الحرب وحيازة المال، انتقل حقه إلى ورثته، ولو مات فرسه في هذه الحال استحق سهم الفرس، ولو مات الرجل بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة انتقل حقه إلى ورثته على الأصح.. ولو مات في أثناء القتال سقط حقه على المنصوص ..وفي الصورة الرابعة قال: إذا هز الوقعة صحيحا، ثم مرض مرضا لا يمنع القتال أو مرضا يرجى زواله، لم يبطل حقه وإن كان غير ذلك كالزمانة، ففي بطلان حقه قولان أو وجهان أظهرهما لا يبطل، ولو جرح في الحرب استحق على المذهب[25].

وقال ابن عابدين:” أن أموال بيت المال مستحقة لعامة المسلمين استحقاقا لا بطريق الملك؛ لأن من مات وله حق في بيت المال لا يورث عنه”[26].

وقال شهاب الدين الرملي:” إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة ولا مخالف لهما – يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما – ولأن القصد تهيؤه للجهاد، ولأن الغالب الحضور يجر إليه..ولا شيء لمن حضر بعد انقضاء القتال، وفيما لو حضر قبل حيازة المال جميعه بعد انقضاء الوقعة وجه؛ أنه يعطى للحوقه قبل تمام الاستيلاء، والأصح المنع لأنه لم يشهد شيئا من الوقعة، ولو مات بعضهم بعد انقضاء  الحيازة فحقه ؛ أي حق تملكه لوارثه كسائر الحقوق، وكذا لو مات بعضهم بعد الانقضاء للقتال وقبل الحيازة في الأصح ؛ لوجود المقتضى للتمليك وهو انقضاء القتال. والثاني لا؛ بناء على أنها تملك بالانقضاء مع الحيازة، ولو مات في أثناء القتال قبل حيازة الشيء، فالمذهب أنه لا شيء له فلا حق لوارثه في شيء أو بعد حيازة شيء فله حصته منه[27].

وجاء في حاشية أبي الضياء الشبراملسي في شرح عبارة ” حق تملكه ” أي لا نفس الملك فلا يورث المال عنه بمجرد ذلك، بل الأمر مفوض لرأي الوارث إن شاء تملك وإن شاء أعرض[28].

جاء في الأشباه والنظائر تحت عنوان ما يقبل الإسقاط في الحقوق وما لا يقبل: أن حق الموصى له وحق الوارث قبل القسمة غير متأكد يحتمل السقوط بالإسقاط، فقد علم أن حق الغنائم قبل القسمة وحق حبس الرهن وحق المسيل المجرد وحق الموصى له بالسكنى وحق الموصى له بالثلث بالقسمة وحق الوارث قبل القسمة.. يسقط بالإسقاط…”[29].

وجاء في قواعد الزركشي:” والحقوق المورثة على أربعة أضرب: أحدها: ما ثبت لجميع الورثة، ولكل واحد منهم بتمامه، وهو حد القذف في الأصح، فإذا عفا بعضهم فللباقي الاستيفاء كاملا؛ لأنه إنما شرع لدفع معرة الميت، وكل واحد يقوم مقام صاحبه فيه، ولا يدفع العار إلا بتمام الحد.. والرابع: ما ثبت لهم على الاشتراك ، وإذا عفا بعضهم يوفر الحق على الباقيين وهو حق الشفعة ونحو ذلك الغنيمة”[30].

وجاء في الحاوي الكبير:”قال الشافعي وإذا صار مال الفيء إلى الوالي ثم مات ميت قبل أن يأخذ عطاءه أعطيه ورثته، فإن مات قبل أن يصير إليه مال ذلك العام لم يعطه ورثته”[31]…

ثم قال صاحب الحاوي:” وإذا كان حصول المال معتبرا فمذهب الشافعي أن حصوله هو قبضه من أهله، ومن أصحابنا من قال : حصوله هو وجوبه على أهله، وهذا خطأ، لأنه قد يحل وجوبه، ولا يحصل بموت وإعسار، فإذا ثبت ما ذكرنا، لم يخل حال من مات من أهل الفيء من أربعة أقسام:

أحدها: أن يكون موته قبل حصول المال وقبل حلول وقت العطاء، فعلى مذهب الشافعي لا يكون حقه فيه ثابتا.

الثاني: أن يكون موته بعد حصول المال وبعد حلول وقت العطاء، فحقه فيه ثابت وهو لورثته من بعده لئلا يختلفوا.

الثالث: أن يكون موته بعد حصول المال وقبل حلول وقت العطاء، فعلى مذهب الشافعي يكون حقه ثابتا فيه ينتقل عنه إلى ورثته.

الرابع: أن يكون موته بعد حلول وقت العطاء وقبل حصول المال، فعلى مذهب الشافعي لا حق له فيه، وعلى قول أبي حامد الإسفراييني يكون حقه فيه ثابتا يورث عنه[32].

ثالثا: آراء الفقهاء في  انتقال حقوق وامتيازات المجاهدين والشهداء شرعا إلى ورثتهم

إن المتأمل للضوابط العامة التي أوردها الفقهاء الأقدمين منهم حول ما يورث من الحقوق وما لا يورث كضابط الإمام القرافي، وتاج الدين السبكي، والزركشي، ومحمد بن الحسين الطوري القادري الحنفي، وابن رجب الحنبلي، وغيرهم من جهة، والمتدبر لأقوال الماوردي وأبي يعلى في الأحكام السلطانية، والنووي في روضة الطالبين، وابن عابدين في حاشيته، وابن شهاب الرملي في نهاية المحتاج وابن نجيم في الأشباه والنظائر، وغيرهم  يجد أن في المسألة رأيان:

الرأي الأول: القائلون بعدم انتقال هذه الحقوق إلى الورثة

وعلى هذا الرأي يمكن أن يحمل ضابط الإمام القرافي، وتاج الدين السبكي، قال القرافي:” بل الضابط لما ينتقل إليه ما كان متعلقا بالمال، أو يدفع ضررا عن الوارث في عرضه بتخفيف ألمه وما كان متعلقا بنفس المورث وعقله وشهواته لا ينتقل للوارث، والسر في الفرق أن الورثة يرثون المال فيرثون ما يتعلق به تبعا، ولا يرثون عقله ولا شهوته ولا نفسه فلا يرثون ما يتعلق بذلك، وما لا يورث لا يرثون ما يتعلق به… “[33].

وفي المعنى نفسه ذهب تاج الدين السبكي:”..وما كان متعلقا بنفس المورث وشهوته وعقله لا ينتقل إلى الوارث، والسر في الفرق أن الورثة يرثون المال فيرثون ما يتعلق به تبعا، أما عقل الميت  وشهوته ونفسه فأمور لا تورث فلا يرثون ما يتعلق به”[34].

وفي شرح محمد بن أحمد بنيس لضابط القرافي قال:”  فقوله: يرفع ضررا عن الوارث في عرضه بتخفيف ألمه..هاتان الصورتان تنتقلان للوارث وهما ليستا بمال كحد القذف وقصاص الأطراف و الجراح والمنافع في الأعضاء، وكان ذلك لأجل شفاء غليل الوارث بما دخل على عرضه من قذف مورثه والجناية عليه، وأما قصاص النفس فهو غير موروث إذ لم يكن للمورث، وما ثبت إلا بعد موته وما كان متعلقا بنفس المورث وعقله وشهوته لا ينتقل للوارث، وإنما يرث المتعلق بالمال”[35].

وقد رجح صاحب بهجة البصر هذا الضابط فقال:” والصواب ما حققه شهاب الدين القرافي”[36].

وممن اعتمدوا ضابط الإمام القرافي من المحدثين في التأصيل لمسألة توريث حقوق المجاهدين وذوي حقوق الشهداء وعطاءاتهم وامتيازاتهم محمد محدة، فبعد عرضه لضابط الإمام القرافي، وشرح محمد بن أحمد بنيس له قال:” ومن ثم فشجاعة الشخص وتضحيته وإقدامه وجهاده كلها أمور لا تورث، ومن ثم لا يورث ما تعلق بها، ولا تدخل ضمن تركة الإنسان، وعليه فإن الرخص التي تمنح لأبناء الشهداء، وأراملهم لا تعد ميراثا خلاف ما يمنح للمجاهدين الأحياء، ذلك لأن هذه الرخص تصير مالية وصاحبها موجود، فهو ينقل حقا ماليا لا شخصيا، فمن منح رخصة لبناء مقهى أو نزل أو رخصة لسيارة أجرة، فإن هذه الرخصة تصير مالية، وتنتقل إلى الورثة، كأي جزء من أجزاء التركة وهذا لالتصاقها بأمور مالية فصارت تابعة لها، فميراثهم لهذه الرخصة ليس لكونها تابعة لصفة من صفات المورث كالشجاعة أو الإقدام، وإنما لانفصالها عنه وتبعيتها للأموال القائمة بها، ومن ثم فمن توفي لا يرث عنه ورثته إمكانية استخراج الرخص، لكون هذا أمر شخصي فما كان مملوكا للإنسان أو له عليه حق أثناء حياته دخل ضمن تركته وما لم يكن فلا”[37].

فيكون محمد محدة بذلك قد فرق بين مسألة توريث حقوق المجاهدين ومسألة توريث عطاءات ومنح ذوي حقوق الشهداء، فورث الأولى ولم يورث الثانية، وتعليله لذلك ألخصه بما يلي:

– ما يمنح للمجاهدين من رخص تصير مالية وصاحبها موجود، فهو ينقل حقا ماليا لا حقا شخصيا.

– توريث هذه الرخص عن المجاهدين لكونها تابعة للأموال القائمة بها بعد انفصالها عن المورث، وعدم تبعيتها للصفات الشخصية للمورث كالشجاعة والإقدام؛

– عدم توريث الرخص التي تمنح لأبناء الشهداء وأراملهم، لكون شجاعة الشخص وتضحيته وإقدامه وجهاده كلها أمور لا تورث ومن ثم لا يورث ما تعلق بها.

أما ابن عابدين[38] فقد صرح أن الحقوق الثابتة للعباد في بيت المال تسقط بموتهم، ولعل حقوق الشهداء في بيت المال كذلك تسقط بموتهم.

واشترط النووي لكي ينتقل حق الشهيد إلى ورثته شرطا هو انقضاء الحرب، وأجاز انتقاله في حالة عدم حيازة المال على الأصح[39]، وهو ما ذهب إليه صاحب نهاية المحتاج [40] أيضا، والغريب أن يخير الوارث في مثل هذا الأمر إن شاء تملك وإن شاء أعرض، كما ذهب أبو ضياء الشبراملسي[41] في شرح “حق تملكه “، ولعل الراجح عنده أيضا هو انتقال الحق بالإرث، لأن الميراث ينتقل جبرا إلى الوارث، ولا يخير في هذا الحق.

ولعل قول ابن نجيم أن حق الوارث قبل القسمة غير متأكد، وأن حق الغنائم قبل القسمة يسقط بالإسقاط يحمل في تصوري على احتمالين:

الاحتمال الأول: عدم توريث الحق في الغنيمة لقوله حق غير متأكد، ومنه حقوق الشهداء لا تورث.

الاحتمال الثاني:  القول بتوريث الحق في الغنيمة لقوله يسقط بالإسقاط، مما يدل على ثبوت هذا الحق قبل إسقاطه؛ لأن غير الثابت لا يسقط في نظري، ومنه الأصل ثبوت حق الورثة في حقوق مورثهم الشهيد إلا أن يطرأ طارئ، أو يرى ولي الأمر غير ذلك والله أعلم.

الرأي الثاني: القائلون بتوريث هذه الحقوق

ومن الفقهاء من قرن بين حقوق ومنح المجاهدين، وعطاءات ومنح ذوي حقوق الشهداء وورثهما معا، وإلى هذا ذهب الماوردي، وأبو يعلى في القول الآتي:” وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثا عنه على فرائض الله تعالى، وهو دين لورثته في بيت المال”[42].

 واختلف الفقهاء في استبقاء نفقات ذريته من عطائه في ديوان الجيش على قولين:

أحدهما: أنه قد سقطت نفقتهم من ديوان الجيش لذهاب مستحقه، ويحالون على مال العشر والصدقة، والقول الثاني: أنه يستبقى من عطائه نفقات ذريته ترغيبا له في المقام، وبعثا له على الإقدام”[43].

وقال ابن حجر:” واختلف فيمن خرج إلى الغزو ومعه فرس..ثم قال: فلو مات الفرس في الحرب استحق صاحبه، وإن مات صاحبه استمر استحقاقه وهو للورثة “[44].

وقد أخذ بهذا الرأي محمد كشود، فبعد أن تحدث عن جواز المكافآت الخاصة بالمجاهدين وذوي حقوق الشهداء في الشريعة الإسلامية في قوله:” خص الإسلام المجاهدين وذويهم من أصحاب الحق بالإعانة نتيجة تفانيهم في سبيل إعلاء كلمة الله.. وأن الله سبحانه وتعالى وعد عباده المصلحين المجاهدين في سبيل الله الجنة خالدين فيها أبدا كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتولى أمور المجاهدين وذويهم في الدنيا، حيث خص لهم نصيبا من الفيء والغنيمة، وبعض المال وذلك حسب الظروف والإمكانيات المتاحة آنذاك”[45]، مما يدل على أن المكافآت والمنح والامتيازات والحقوق التي تعطى لهذه الفئات يمكن أن تتخذ طابعا آخرا وصورا أخرى حديثة في عصرنا هذا.

وفي سؤال حول توريث المنحة والعطاء لهذه الفئات أو عدم توريثها  طرحه بنفسه ثم أجاب: ” إن المنحة في الإسلام تورث عند موت أصحابها “[46]؛ مستدلا بقرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أمر سعد بن أبي وقاص بعدما بعث له بأموال أن يقسمها

 بين الذين شهدوا الواقعة ومن مات منهم فليدفعه إلى ورثته[47]، مما يدل على أن ذوي حقوق الشهداء هم ورثته، وما كان مستحقا لهم يؤول إلى ورثتهم وفق الأنصبة والحصص الشرعية.

خلاصة الآراء في المسألة:

ولعل خلاصة الآراء في المسألة وفق المذاهب الفقهية؛ أن من الحنفية والمالكية من قال بعدم توريث هذه الحقوق كابن عابدين، والقرافي، وأحمد بن أحمد بنيس، ومن الشافعية والحنابلة من قال بتوريثها كالماوردي، وأبي يعلى، والنووي على الأصح والشافعي الصغير وابن حجر والشبراملسي على الأرجح عندي.

رابعا: نظرة في أقوال الفقهاء وبيان الرأي الراجح

إن المتأمل في الرأيين القائل بالتوريث، والقائل بعدمه، يجد أن مدار الخلاف إذن هو حول عطاءات ذوي حقوق الشهداء فقط، فبينما ذهب الفريق الأول إلى عدم توريثها بناء على ضابطي القرافي وتاج الدين السبكي، ذهب الفريق الثاني إلى توريثها كما هو مستنتج  من الصريح من أقوال الفقهاء، وآثار الصحابة، لذا أجد نفسي ملزمة بالوقوف على وجه الاستدلال من الضوابط السابقة وهل تنطبق فعلا على المسألة أم لا ؟

إن الفريق القائل بعدم توريث منح وعطاءات الشهداء وانتقالها إلى ورثتهم وفق الأنصبة الشرعية، وفرائض الله عز وجل يستندون إلى أن هذه المنح والعطاءات والحقوق متعلقة بنفس المورث وشخصه من شجاعة وتضحية وإقدام وجهاد، وما يتعلق بنفس المورث وشخصه فهو لا يورث.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أليست الرخص التي تمنح للمجاهد أيضا هي مقابل شجاعته وتضحيته، وإقدامه، وجهاده ومع ذلك ورثت ؟ وبعبارة أخرى: فإن سلمت معكم أن هذه الأمور من شجاعة، وإقدام، وتضحية، وجهاد لا تورث فلماذا ورثتم حقوق المجاهدين مع ارتباطها بهذه الصفات، فإن قيل أن الشجاعة والإقدام والتضحية عند المجاهدين الأحياء تحولت من طبيعتها الشخصية إلى الطبيعة المالية، أي صارت حقوقا مالية في حياة المجاهدين فاستحقت أن تنتقل إلى ورثتهم، بينما عند وفاة الشهيد لا زالت في طبيعتها الشخصية، فلا تستحق أن تنتقل إلى ورثته من ذوي الحقوق.

قلت والله أعلم: إنها أيضا عند الشهيد قبل وفاته حقوق مالية مستحقة شرعا، ذلك أن إقدامه وتضحيته، وجهاده مقدر شرعا بعطاء مالي ثابت يمنح له إن بقي حيا ولورثته إن توفي.

فإن قيل أن الأمر لا يتعلق بالشجاعة والإقدام والتضحية بقدر ما يتعلق بحقوق المجاهدين التي ثبتت لهم في حياتهم وصارت حقوقا مالية فاستحقت أن تنتقل إلى ورثتهم على عكس حقوق الشهداء؛ فإنها لم تثبت لهم في حياتهم، وما لم يثبت في حياة الشخص لا ينتقل إلى ورثته.

قلت والله أعلم: ألم يكن الحق في مال الغنيمة والفيء وغيره من المكافآت والحقوق المالية ثابتة شرعا للشهداء قبل وفاتهم بمجرد إقدامهم على الجهاد وعزمهم على خوضه، أو دخولهم دار الحرب، فكانت تلك حقوقا مالية مستحقة لهم شرعا، ثم صارت مالا ينتقل إلى ورثتهم بمجرد الوفاة.

وهذا ما دل عليه قرار عمر:«  أن يقسمها بين الذين شهدوا الواقعة ومن مات منهم فليدفعه إلى ورثته »[48]، والأثر الآخر: «ففرض لهم العطاء»[49].

ثم إن الفقهاء ذهبوا أبعد من ذلك في تقدير الإقدام على الجهاد حين قالوا:” وإذا شهد الوقعة بفرس أسهم له وإن لم يقاتل عليه”[50].

وأبعد من هذا قال أبو حنيفة:”  إن مات هو أو فرسه بعد دخول دار الحرب أسهم له “[51].

وقالوا أيضا:” وإذا جاءهم مدد قبل إنجلاء الحرب شاركوهم في الغنيمة، وإن جاءوا بعد إنجلائها لم يشاركوهم، وقال أبو حنيفة: إن دخلوا دار الحرب قبل إنجلائها شاركوهم… “[52].

فهذه الحقوق كانت واجبة شرعا لهم في حياتهم كحقوق مالية، فاستحقها الورثة كذلك بعد وفاة مورثهم كحقوق مالية وليست شخصية، أو أنها حقوق لازمة للمال في حياة الشهداء فانتقلت إلى ورثتهم بعد وفاتهم، فهي- في تصوري–  من جهة أخرى شبيهة بالحق الأدبي للمؤلف الذي فيه معنى التشفي واللازم للحق المالي ولا يمكننا فصله عنه، لذلك قال بعض الفقهاء بتوريثه بناء على هذا التعلق.

ولعل على هذا يحمل ضابط ابن رجب الحنبلي الذي جاء فيه:” وما كان واجبا في حياته إن كان قد طالب به أو هو في يده ثبت لهم إرثه”[53]، فإن حقوق الشهداء في أموال الفيء والغنيمة وغيرها من المكافآت، كانت واجبة في حياتهم ولا شك أنهم سيطالبون بها لو بقوا أحياء.

وكذلك ضابط الخطيب الشربيني الذي أراه من العموم ما يورث منح وعطاءات ذوي حقوق الشهداء حين قال:” وكما تورث الأموال تورث الحقوق وضابطها كل حق لازم تعلق بالمال كحق الخيار والشفعة”[54]، فحقوق هؤلاء الشهداء كانت لازمة وتعلقت بالذمة المالية لأصحابها قبل وفاتهم فاستحقت أن تنتقل إلى الورثة.

ثم أليس في انتقال هذه الحقوق إلى الورثة ترغيبا لأصحابها ولغيرهم في مقام الشهادة، وبعثا لهم ولغيرهم على الإقدام، وعليه يكون ضابط الإمام القرافي ليس على إطلاقه ولا على عمومه، في قوله: ” وما كان متعلقا بنفس المورث وعقله وشهوته لا ينتقل للوارث، وإنما يرث المتعلق بالمال ” وكذا ضابط تاج الدين السبكي المطابق له؛ فيستثنى بذلك من ضابط القرافي – في تصوري والله  أعلم-فيما يتعلق بالعقل الحقوق الفكرية، وفيما يتعلق بالنفس هذه الحقوق.

 فإن قيل أن الأمر آنذاك يتعلق فقط بالغنيمة والفيء، وبعض العطاء، ولا يتعلق بالرخص المتعددة  والمتنوعة الآن، قلت إن القياس وارد، ذلك أن بيت مال المسلمين آنذاك كانت مداخيله محدودة لذلك كانت العطاءات والمكافآت محدودة، على عكس اليوم، فيمكن أن نتصور من المكافآت والحقوق والعطاءات الكثير، لكثرة المداخيل وتنوعها، فلماذا لا يكافئ هؤلاء على صنيعهم بأكرم الأموال والمنح والحقوق والعطاءات، ثم أريح ما تكون عليه نفس الإنسان وهو يعلم أن أمواله وحقوقه ستؤول بعد استشهاده إلى ورثته حيث الميزان القسط والعدل الإلهي، بعيدا عن التلاعب البشري وتحيزه، واجتهاده الذي قد يخطئ أويصيب، ثم إن نزلت هذه النازلة على واقعنا اليوم أقول: لعل ورثة الشهيد وذويه أكثر تضررا في حالة عدم تعويضهم من ورثة المجاهد، وعليه يكون إرثهم من باب أولى.

يقول صاحب كتاب منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة:” فالأحكام تنظيم أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة، فكم من حكم كان تدبيرا أو علاجا ناجحا لبيئة في زمن معين فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع  والوسائل والأخلاق، ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون”[55].

فالجانب الأخلاقي أيضا يقتضي مني أخذه بعين الاعتبار، ومنه القول بتوريث حقوق الشهداء قياسا لهم على حقوق المجاهدين بل من باب أولى.

والعطاء الذي كان يمنح للمجاهد في حياته وما يستحقه من أموال الفيء والغنيمة هي امتياز كان يتمتع به في حياته، فهو باق على ذمته بعد وفاته فهو من حق الورثة حسـب فرائـض الله عز وجل، كما أن تلك الرخص يعتاض عنها بالمال بكرائها مثلا وتقوم به وما يعتاض عنه بالمال يورث  والله أعلم.

الخاتمة

مما سبق أستنتج ما يلي:

1- من أقسام الحقوق باعتبار ماليتها وعدمها: حقوق مالية، حقوق شخصية، حقوق فيها شبه من الحق المالي والحق الشخصي، ويترتب على هذا ما يلي:

أ- الأصل في الحقوق المالية أنها تورث؛

ب- الأصل في الحقوق الشخصية أنها لا تورث؛

جـ- اختلاف الفقهاء في الحقوق الشبيهة بالحقين المالي والشخصي في مدى توريثها بناء على اختلافهم في المغلب من هذين الشبهين؛ فمن يغلب الشبه المالي فيها يلحقها بالحقوق المالية ومن ثم يورثها، ومن يغلب الشبه الشخصي فيها يلحقها بالحقوق الشخصية ومن ثم لا يورثها؛

2- اتساع دائرة الحقوق الشخصية عند الحنفية وضيق دائرة الحقوق المالية عندهم، واتساع دائرة الحقوق المالية عند الجمهور وضيق دائرة الحقوق الشخصية؛

3-جواز تخصيص فئات المجاهدين وذوي الشهداء – شرعا – بحقوق وامتيازات مقابل تضحيتهم وجهادهم وبلائهم؛

4- المفاضلة في الحقوق والامتيازات والمنح في الإسلام حسب مكانة مستحقيها وفضلهم وأسبقيتهم في الجهاد والبلاء والنصرة؛

5- حقوق المجاهدين وامتيازاتهم حقوق مالية تنتقل إلى ورثتهم بعد الوفاة بلا خلاف؛

6- اختلاف الفقهاء حول حقوق الشهداء هل هي حقوق مالية فتنتقل إلى ورثتهم بعد الوفاة، أو أنها حقوق شخصية تسقط بوفاتهم؛

7- حقوق الشهداء – على الرأي الراجح عندي والله أعلم – هي حقوق مالية تنتقل إلى ورثتهم من بعدهم قياسا لها على حقوق المجاهدين ومراعاة للمصلحة وملابسات الواقع وبناء على الجانب الأخلاقي.

——————————————-

 المراجع:

1-  محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير دار القلم ، بيروت، لبنان، 1406/1986م، ج1 ص: 126.

2-  محمد كشود، النظام القانوني للمجاهدين وذوي الحقوق، منشورات المتحف الوطني للمجاهد، د.ر د.ت، ص: 47.

3-   محمد كشود، المرجع نفسه، ص: 46.

4-   المارودي، الأحكام السلطانية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص: 342-346، أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص: 243.

5-   ابن عابدين، المرجع السابق، دار الفكر، م4 ص: 154.

6-   القرطبي، تفسير القرطبي، تحقيق أحمد عبد الحليم البردوني، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط3، د.ت، ج8 ص: 56-58.

7-  ابن كثير، تفسير ابن كثير، دار الفكر، بيروت،  لبنان، 1401،1981،  ج2 ص: 329-330.

8-  أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، حديث رقم 4522 ، مسلم، صحيح مسلم، م 1– 4، ص: 668 – 669.

9-   المارودي، الأحكام السلطانية، ص: 223-226، أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 136-138.

10-   المارودي، الأحكام السلطانية، ص: 223-226، أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 136-138.

11-   أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 138-139.

12-   الماوردي، المرجع السابق، ص: 230.

13-   أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 139.

14-   الماوردي، المرجع السابق، ص: 230-231.

15-   الماوردي، المرجع السابق، ص: 249.

16-   الماوردي، المرجع السابق، ص: 249.

17-  الماوردي، المرجع السابق، ص: 249-250.

18-  ابن حجر العسقلاني، الفتح، ج 6 ص: 69.

19-   رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وقال فيه سليمان بن داود لم أر من ذكره.

20-   أخرجه أبو داود، كتاب الخراج، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه، رقم 2950، سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، تأليف ناصر الدين الألباني، الرياض، السعودية، ط1، 1419، 1998، م 2، ص:  232 – 233. وقال الألباني: حسن موقوف.

[21]-أبوبكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، كتاب التأريخ، باب في أمر القادسية وجلولاء، حديث رقم:33769 ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج7 ص:13.

[22] –  أخرجه ؛ أبوبكر بن أبي شيبة، المصنف، كتاب التأريخ، باب في أمر القادسية وجلولاء، حديث رقم:33773 ، ص:14.

23-   الماوردي، المرجع السابق، ص: 345-346.

24-   ابن حجر، الفتح، ج6  ص: 69.

25-   النووي، روضة الطالبين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج5 ص:  335 – 337.

26-   ابن عابدين، المرجع السابق، دار الفكر، م 4  ص: 154.

28- شمس الدين بن شهاب الدين الرملي ” الشافعي الصغير “، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1414، 1993، ج6 ص: 148.

34-  الشبراملسي القاهري، حاشيته على نهاية المحتاج، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1414، 1993، ج 6 ص: 148.

29-  ابن نجيم، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1419، 1999، ص: 272.

[30]- عبد الله بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله  الشافعي المعروف بالزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق:محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ،2000م، م1ص:298-299.

[31] – أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الامام الشافعيوهو شرح مختصر المزني، تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان، ط1، 1414هـ،1994، ج8ص:454.

[32]  – أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير، ص:454.

33-  القرافي، المرجع السابق، ج3 ص: 276، أبو عبد الله البقوري، المرجع السابق، ص: 493.

34-  تاج الدين السبكي، المرجع السابق ،ج1، ص:364 – 365.

35-  محمد بن أحمد بنيس، بهجة البصر، ص: 17.

36-   محمد بن أحمد بنيس، المرجع نفسه، ص: 16.

37-  محمد محدة، التركات والمواريث، الشهاب، باتنة، الجزائر، ط2، 1994، ص: 25.

38-  ابن عابدين، المرجع السابق، دار الفكر، م 4 ص: 154.

39-  النووي، روضة الطالبين، ج5 ص: 335 –337.

40-  الشافعي الصغير، المرجع السابق، ج6 ص: 148.

41-  الشبراملسي، حاشيته على نهاية المحتاج، ج6 ص: 148.

42-  الماوردي، الأحكام السلطانية، ص: 345-346، أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 243.

43-  الماوردي، المرجع نفسه، ص: 345-346، أبو يعلى، المرجع السابق، ص: 243.

44-   ابن حجر، الفتح، ج6 ص: 69.

45-  محمد كشود، المرجع السابق، ص: 38 – 39.

46- محمد كشود، المرجع السابق، ص: 43.

47- أخرجه أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، كتاب التأريخ، باب في أمر القادسية وجلولاء ، حديث رقم33768 ،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ج7، ص:13.والنص كما يلي:”حدثنا أبو أسامة قال أخبرنا الصلت بن بهرام حدثنا جميع بن عمر الليثي عن عبدالله بن عمر قال: شهدت جلولاء فابتعت من الغنائم بأربعين ألفا، فقدمت بها على عمر فقال: ماهذا؟ قلت : ابتعت من الغنائم بأربعين ألفا، فقال: يا صفية احفظي بما قدم به عبدالله بن عمر، عزمت عليك ألا تخرجي منه شيئا، قالت: يا أمير المؤمنين، وإن كانت غير طيب، قال: ذاك لك، قال: فقال لعبدالله بن عمر أرأيت لو انطٌلِقَ بيَ إلى النار أكنت مفتدي قلت: نعم ولو بكل شيء أقدر عليه، قال: فإني كأنني شاهدك يوم جلولاء وأنت تبايع  ويقولون: هذا عبدالله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأكرم أهله عليه، وأنت كذلك، قال: فإن يرخصوا عليك بمائة أحب إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم، وإني قاسم، وسأعطيك من الربح أفضل ما يربح رجل من قريش، أعطيك ربح الدرهم درهما، فخلى على سبعة أيام ثم دعا التجار فباعه بأربعمائة ألف، فأعطاني ثمانين ألفا، وبعث بثلاثمائة ألف وعشرين ألفا إلى سعد فقال: اقسم هذا المال بين الذين شهدوا الوقعة، فإن كان مات فيهم أحد فابعث بنصيبه إلى ورثته.

[48]  – سبق تخريجه.

[49] – سبق تخريجه .

50-  الماوردي، المرجع السابق، ص: 249.

51-  الماوردي، المرجع السابق، ص: 250.

52-  الماوردي، المرجع السابق، ص: 250.

53- ابن رجب الحنبلي، المرجع السابق، ص: 341.

54-  الخطيب الشربيني، المرجع السابق، ج 4 ص: 08.

55-   مسفر بن علي بن محمد القحطاني، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1، 1424 هـ، 2003 م، ص: 335.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى