مقالاتمقالات مختارة

أثر التطرف وفوضى المدارس الفكرية على التراث الإسلامي ومستقبله

بقلم أحمد التلاوي

ثمَّة قضية شديدة الأهمية في الوقت الراهن، ربما لا يتلفت إليها الكثيرون، ولكنها نوقشت في مؤتمر “التطرف وأثره السلبي على مستقبل التراث الثقافي العربي”، الذي عقدته مشيخة الأزهر في العاصمة المصرية القاهرة، في منتصف شهر ديسمبر 2017م، الماضي.

تتصل هذه القضية -التي هي أوسع بشكل كبير من تلك التي ناقشها المؤتمر- بموقف الأجيال الجديدة الصاعدة، والرأي العام غير الإسلامي، من التراث الذي يستند إليه المسلمون في كثير من أمورهم.

وهذه القضية ليست من نافلة القول؛ إذ إنها ترتبط في قسم كبير منها بعلوم القرآن الكريم والحديث النبوي، وهما الرافدان الأساسيان لأحكام الإسلام والشريعة.

وبالتالي ترتبط هذه القضية بما تراكم عبر قرون طويلة من الزمن، من كتب ومدوَّنات في مجالات العلوم الشرعية المختلفة، وخصوصًا العقيدة والوحي والفقه الإسلامي والأحكام وتفسير القرآن الكريم، وغير ذلك.

وفي هذا الصدد، تتصل هذه القضية بحزمة من الأمور الإشكالية في حقيقة الأمر في هذه المرحلة، وعلى رأسها قضيتان: الأولى- هي التطرف الفكري والتطرف في الدين (لا نقول التطرف الديني؛ لأن التطرف لا يمكن أن يكون من صفاته أنه ديني، بل هو تطرف البعض في فهم وتفسير وتطبيق الدين).
والقضية الثانية- هي قضية فوضى المدارس الفكرية المحسوبة على التيار الإسلامي، أو على الدين، والتي ترتبط في الغالب بجماعات ما يُعرَف بالإسلام السياسي، وأثرها على التراث الإسلامي.

وفي حقيقة الأمر فإن القضية التي نشير إليها لا ترتبط بمسألة حرب الأنظمة والحكومات المعادية لقوى الإسلام السياسي، والتي طالت التراث بدعوات إعادة النظر فيه، بدعوى أنه أحد الأسباب المؤدية إلى أزمة الإرهاب والعنف.

إنما نعني في هذا الموضع قضية ترتبط بجماعات الإسلام السياسي، وممارساتها الفكرية، والتي تكرِّس الكثير من الاتهامات التي تسوقها الأنظمة والحكومات المعادية للمشروع الإسلامي، وجماعات الإسلام السياسي.

وأول مفردات هذه الظاهرة، هي قضية تنوُّع التفسيرات للنصوص المقدسة.

والتنوع المقصود هنا ليس هو التنوع المحمود والمطلوب في مثل هذه الحالات، وفق مبدأ “اختلافهم رحمة”، وإنما هو التنوع المذموم المرتبط بتأويلات فاسدة أو توالي الهوى، وتسقِط هذه النصوص على الواقع بشكل دلالي متعسف، من أجل تحقيق مصالح سياسية ضيقة.

وكثيرًا ما نجد في هذا الأمر، استغلال كتب التراث وتفسيرات السلف المتقدمين والمتأخرين في إثبات أن النص الفلاني أو الحكم العلاني ينطبق على هذه الحالة أو تلك، وفق منطق سياسي بحت، قد يكون فيه كذلك أنظمة بعينها، أو حكومات ينبغي تأييدها أو عدم تأييدها، لأسباب سياسية بحتة لا علاقة لها بالمشروع الإسلامي، وبمصالح عموم الأمة، وإنما ضيقة لأنظمة وحكومات وجماعات.

كثيرًا ما نجد في هذا الأمر، استغلال كتب التراث وتفسيرات السلف المتقدمين والمتأخرين في إثبات أن النص الفلاني أو الحكم العلاني ينطبق على هذه الحالة أو تلك، وفق منطق سياسي بحت، قد يكون فيه كذلك أنظمة بعينها، أو حكومات ينبغي تأييدها أو عدم تأييدها، لأسباب سياسية بحتة لا علاقة لها بالمشروع الإسلامي

والغريب أن هذا المنطق يعيبه البعض من المنضوين في هذه الجماعات على مؤسسات دينية، رسمية، مثل الأزهر الشريف، ومثل هيئة الإفتاء في المملكة العربية السعودية، ومع اتفاقنا على موالاة الكثير من علماء هذه المؤسسات لسلطان الحاكم، فإن المنطق يقتضي مخالفتهم في ذلك، والعدل في التناول ووضع النصوص موضع التطبيق.

ثم هناك ما أدى إليه هذا الأمر الذي فتَّ في مصداقية الهياكل التنظيمية التي تعبر عن المشروع الإسلامي، وتقول بأنها طليعته، سواء بين جماعات الإسلام السياسي، أو الجماعات المُصنَّفة جهادية، من صدامات، وصلت إلى التكفير، ومِن ثَمَّ الدخول في صراعات بينية –كما جرى في سوريا، وفي ليبيا، على سبيل المثال– انطلاقًا من فكرة الأفضلية. بمنطق أن هذه الجماعة أو تلك هي الإسلام، وما دونه هو الكفر الذي تستوجب محاربته.

وفي كل ذلك، كانت نصوص التراث الإسلامي حاضرة، مع عدم قدرتهم على تطويع القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة مباشرة؛ نظرًا لإحكام النص الشرعي صحيح الثبوت، فكان اللجوء إلى التأويلات الموجودة في كتب التراث.

وهذه الأزمة ليست وليدة بنات أفكار الكاتب أو هواجسه الخاصة، وإنما هي أمرٌ شديد الوضوح، بحالاته المتخصصة كذلك؛ حيث يمكن تحديد كتب وأفكار واجتهادات الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، والإمام ابن القيم، بشكل خاص.

فأفكار هؤلاء مع مجموعة محددة بالاسم من علماء السلف، تم استغلال أفكارهم وفتاويهم، التي كان لها ظروفها السياسية والاجتماعية الخاصة. فابن تيمية على سبيل المثال ظهر في وقت الغزوات الصليبية وموجات زحف المغول على أرجاء الدولة الإسلامية التي حتَّمت البحث عن فقه جديد، فكان جزاء هؤلاء وتجديدهم –وكان تجديدًا في ذلك الحين بسبب الظرف المُستحدَث– أن تم اتهامهم بعد قرون من ظهورهم بأنهم مسؤولون عن أكبر فِتَن الأمة، وهي فتنة التكفير!

بينما الأمر شديد البساطة، فأقوال ابن حنبل وابن تيمية في مجال الجهاد ودفع الظالم وغير ذلك، جاءت محكمة سديدة في ظروف استثنائية، ومن المعروف أن الاستثناء لا يجوز أن يتحول إلى قاعدة شرعية دائمة.

إن أكبر جريمة أدت إليها أفكار التطرف وفوضى المدارس الفكرية الإسلامية المعاصرة، هو أنها هددت مصداقية التراث الإسلامي أمام الأجيال الجديدة الصاعدة، وبعد عقدَيْن أو ثلاثة -إن استمرت هذه الحالة من الفوضى، من دون ظهور مَجْمَع فقهي موحد يجمع بين منظِّري مختلف هذه الجماعات، للخروج بفقه وأفكار موحدة الاتجاه تراعي الدين ولا تراعي السياسة أو التنظيم- فإننا سوف نعرف حالة فريدة من نوعها في التاريخ الإسلامي، وهي استبعاد تراث السلف الصالح في مجالات عدة، حتى من المناهج في المؤسسات التعليمية الدينية، وهذا بدأ في الأزهر فعلاً!

إن أكبر جريمة أدت إليها أفكار التطرف وفوضى المدارس الفكرية الإسلامية المعاصرة، هو أنها هددت مصداقية التراث الإسلامي أمام الأجيال الجديدة الصاعدة

الآفة الثانية في هذا الصدد، هي تحويل البعض التراثَ إلى نصٍّ مقدس، وبالتالي تم تحويله إلى ملجأ نهائي، بل بالغ البعض في ذلك، بحيث تاه النص المقدس الذي بنى السلف الصالح عليه اجتهاداتهم وفتاويهم في نصوص الأفكار والاجتهادات والفلسفات.

فبينما نجد النص القرآني أو النص النبوي واضحًا، تجد البعض يجاهد فيه بأقوال بعض السلف، وحتى بعض العلماء ممَّن لم يُعرَف عنهم السداد أو وضوح الرؤية أو تمام العلم، وظهروا في أوقات انحطاط، أو غياب للرموز العقلية الكبيرة التي لا تزال أفكارها حية وصالحة إلى الآن.

وهذا أمر شديد الخطورة؛ حيث إنه –أولاً- يسمح لأعداء التراث الإسلامي بالطعن فيه بالكامل؛ لأن من يتبنوه يضعونه فوق النص الشرعي الأصلي، كما أن استناد البعض إلى مجهول التراث، والمبالغة في إبرازه، قاد إلى إسقاط سوءاته تلك على التراث الحقيقي وأعمدته الرواسي.

فقادت الأفكار المتطرفة مع الفوضى الحالية –حتى على المستوى التنظيمي؛ حيث لا يوجد إطار علمائي موحد يجمع بين كل أطياف الحركة الإسلامية– إلى أن يتم “حشْر” آية أفكار تحت عنوان “التراث”. هذا نجده في التراث، بما أدى إلى تشويه الكُل.

وزاد من حجم هذه الفوضى انتشار وسائط النشر وسهولتها، من المدونات الخاصة إلى المواقع الإلكترونية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشمل قنوات بعضها أكثر انتشارًا من فضائيات بعض الدول، ومع غياب إطار حاكم جامع، يرد على الأقل على كل هذه الأراجيف؛ صار مفهوم التراث مشوهًا أيما تشويه، وهو لا نقول بأنه يهدد المستقبل فحسب، بل إنه فعلاً هدد واقع التراث الإسلامي وقبوله.

ويبقى العلاج هو تضافر جهود الحركات والمؤسسات الإسلامية لأجل أمرَيْن: أولاً- تنقية التراث بالشكل العلمي الصحيح، مما لحق به من خرافات أثرت على صورته العامة، وأن لا يكون بيد الأنظمة والحكومات والمؤسسات الدينية الرسمية التي تريد حذف كل ما يهدد عرشها ونفوذها، ويقوِّي خصومها، على أن يتم ذلك بشكل يقود إلى تحديد فعلي لكل ما هو داخل تحت مصطلح “التراث”.

لابد من تضافر جهود الحركات والمؤسسات الإسلامية لتنقية التراث بالشكل العلمي الصحيح، مما لحق به من خرافات أثرت على صورته العامة، وأن لا يكون بيد الأنظمة والحكومات والمؤسسات الدينية الرسمية التي تريد حذف كل ما يهدد عرشها ونفوذها، ويقوِّي خصومها

وثانيًا- الرد على الموجات العارمة التي تجتاح فضاءاتنا السياسية والإعلامية والاجتماعية والفكرية، والتي وصل معها إلى أن صار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -على سبيل المثال– منقذ الأمة من الضلال الشيعي مثلاً، بحسب بعض “علماء” السلطان على “تويتر”!

كل هذا بحاجة لمراجعته وحسمه بشكل واضح لا لبس فيه، من جانب هيئة جامعة؛ لأن أساس الخراب هو أنه لا توجد هيئة “جامعة”، فكان التفتت الذي قاد –كما تقدم– إلى أن يتصارع التراث مع بعضه البعض في العقول، ثم في الكتب والأوراق، ثم بالسلاح على الأرض. وإنها لمسؤولية عظيمة، سوف يحاسب الله تعالى عليه كل قادر فاهم متقاعس!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى