أثر “التأمل” في حياة طالب العلم وإنتاجه
بقلم مصطفى بن عبدالله الباز
تحرير أروى شاهين
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لِمن وجَّه نحوَنا سوابغَ النِّعَم، وأظهرَ لنا من مبهماتِ الأسرارِ ومُضْمَراتِ الحِكَم، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ في جميع الصفاتِ والفِعال، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ بكريم الخِصال، صلِّ وسلّم على من جعلتَه زينةَ الدارين، وعلى آلِه وصحبه، ومن تَبِعَهم من الثقلين.
أمّا بعدُ..
فمِمّا يحسُن إثارتُه، وتنقيبُ الغبارِ عن ملامحِه؛ “التأمُّلُ”، إذ هو أُسُّ أساسِ التَّحصيل، وبه يُجلَّى الغموض، ويتّضح الصحيحُ من المنقوض، فقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدعو إليه، وتحثُّ عليه، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الأنعام:50]، وقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة:44]، وغيرها كثير.
ومن جميلِ قولِ الجُرْجَانِيّ: “واعلمْ أنَّكَ لا تَشْفي العلَّةَ، ولا تنْتهي إلى ثلجِ اليقين؛ حتى تتجاوزَ حدَّ العلم بالشيء مجْملاً إلى العِلْم به مفصَّلاً، وحتى لا يُقْنِعَك إلا النَّظرُ في زواياه والتغلغلِ في مكامنه، وحتى تكونَ كمَنْ تتَبَّعَ الماءَ حتى عرَفَ منْبَعَهُ وانتهى في البحثِ عن جوهرِ العُود الذي يُصْنَع فيه، إلى أنْ يعْرِفَ منْبِتَه ومجرى عُروقِ الشَّجَرِ الذي هو منه” إ.هـ [دلائل الإعجاز (ص229)] .
والذي يريد الجرجاني أنْ يُقرَّرَه هو بيانُ أنُه لا يشفي عِلّةَ طالب العلم، ولا يثلج اليقينَ لديه، حتى يتجاوز المُجمَل إلى المفصَّل، ولا يكون ذلك إلا بـ”التأمل”.
فاعلم أيّها الحبيبُ، والرَّاغبُ الأريبُ، أنَّك لن تدركَ التَّحقيقَ في علمٍ -ولا في غيره من الأمور- إلا بـ “التأمل”؛ لأنَّه أساسُ استشكالِ المسائل، فمن لم يتأمَّلْ في أمرٍ “ما”، فكيف يظهر له المُشكَلُ منه!، وكيف يتولَّدُ لديه السؤالُ عنه!؛ لهذا حين سُئل ابنُ عباس: كيف نلت العلم؟ قال: “بلسانٍ سَؤُول وقلبٍ عَقُول”.
فقوله: “سَؤُول” من (فَعُول) أي: كثيرُ السؤال، وما ذاك إلا بـ “التأمل”.
ونقف هنا مع نماذج كان لها الأثرُ على مَرِّ التَّاريخ، وذلك لمَّا “تأملوا” واقعَهم؛ فأنتجوا ما أنتجوا:
النموذج الأول: الإمامً الشافعي – وفيه مواقف:
الموقف الأول: كتاب الرسالة، وأثرُ “التأمِّل” فيه.
قال أحمد بن حنبل: “ما أحدٌ يحمل بخبره من أصحابِ الحديث إلا وللشافعي عليه مِنَّة”، وقال: “وكنّا نلعنُ أصحابَ الرأي ويلعوننا حتى جاءَ الشافعيُّ، فخرج بيننا” إ.هـ.[ترتيب المدارك وتقريب المسالك] (544).
وكأنّي أنظر إلى الإمامِ الشافعي واقفًا بين الفريقين وهو “يتأمَّلُ” كيف يصلح بينهما، فيسَّر اللهُ -جلَّ وعلا- له، بعد التأمّل، فخرج بهذا الكتاب العظيم.
الموقف الثاني: الإمامُ الشافعي مع حديث “يا أبَا عُمير، ما فعل النُّغَير”.
يُروى عن الإمام الشافعي أنَّه باتَ ليلةً كاملةً صلّى فيها الفجرَ بوضوء العشاء؛ يفكِّرُ في حديث: ” يا أبَا عُمير، ما فعل النُّغَير”، حتى استنبط َمنه أكثرَ من مائةٍ وعشرين مسألة، أو نحوها.
الموقف الثالث: مذهب الشافعي الجديد.
لمَّا ترك الإمامُ الشافعيُّ العراقَ، وتوجّه إلى مصر، لم يترك ما كان عليه من الاجتهاد في العلم، وما كان عليه من دوام التفكُّرِ و”التأمّل”، فلما دخل مصرَ، وعاش فيها، جاءَ بهذا المذهب “الجديد”، وذلك لتأمُّله في واقعِه، وما يحتاجُه أهلُ واقعه، ممَّا هو موافقٌ للدِّين، وأمَّا مسألةُ أسبابِ تغيير الشافعي من القديم إلى الجديد فلها بحثٌ خاص، والشاهد هنا: بيانُ أثرِ التأمّل في حياةِ طالبِ العلم.
النموذج الثاني: ابن عقيل الحنبلي:
كان لابن عقيلٍ الأثرُ الكبيرُ في الحياة العلميّة، ومن آثار ذلك – بعد توفيق الله تعالى- أنّه كان لا يضيّع وقتَه، وأما وقتُ فراغه فكان يستغلُه في “التأمّل”، وقد جاء عنه قوله: “إنّي لا يحِلُّ لي أنْ أضيعَ ساعةً من عمري، حتّى إذا تعطّل لساني عن مذاكرةٍ ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حالةِ راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهضُ إلا وقد خطَرَ لي ما أسطرُه“.
وقال أيضًا: “أنا أقصِّر -بغاية جهدي- أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتَحَسّيهِ بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوتِ المضغ، توفّرًا على مطالعة، أو تسطيرَ فائدةٍ لم أدركها فيه” اهـ. [ذيل طبقات الحنابلة] (1/ 145).
النموذج الثالث: الخليلُ الفراهيّ :
أمضى الخليلُ بنُ أحمد الفراهيدي وقتًا يتأمّلُ كيف يُؤسِّس قواعدَ العَرُوض، ويُبيِّن معالمَه، حتى مرَّ ذات يومٍ على حدَّادٍ يضرب على الحديد، فتأمّل ذلك الصوت، فإذا به يمسك بأوّل الخيط الذي كان يُفكّر فيه ويتأمّله، فخرج من بعدها هذا العلمُ الذي كان الخليلَ أوَّلَ مَن فضّ بِكارته، فكم بكرٍ من الحِكَم افْتَضَضْتَ؟
الفوائدُ التي يحصِّلُها الطالبُ بـ”التأمّل”:
الفائدةُ الأولى: تحقيقُ العلم.
فإنَّ التأمّلَ من أعظمِ أسبابِ تحقيقِ العلم؛ لأنَّ “المتأمّلَ” لا يقف على ظاهرِ الأشياء، ولا يمرَّ عليها مرورًا عابرًا، بل يقفُ مع كلِّ لفظةِ تمرُّ به.
الفائدة الثانية: استجلابُ الأُفق المعرفي.
الطالب الذي يعتني بـ “التأمّل” يجعله يُكثِرُ البحثَ في المسائل العلميّة، حتّى يدرك ما لو لم يتأمّلْ فيه، ويبحث؛ ما أدركه.
الفائدة الثالثة: التأمّل من أقوى ما يُعين على الحفظ.
كثيرٌ من الطلاب حفظه قويّ، ولكن يعسُر عليه الحفظ، أو يحفظ بعد جهدٍ جهيد، فيصيبه الإحباط بعد ذلك، ويظنُّ أنَّ حفظَه ضعيف، والأمر ليس كذلك، بل السببُ أنّه لم يتأمّل ما يحفظه ويقرأه، وتجد بعضَ الطُّلاب يحفظ سريعًا، من أول مرة، وربّما لم يكرّر كثيرًا، ولكنّه شديدُ التأمّل فيما يقرأه، وليست هذه دعوى لترك التَّكرار، بل التَّكرار من أهمِّ المهمِّات، ولكن هذا لبيان أنَّ التأمّل سبيلُ الحفظِ المثلى!.
الأسباب الداعية إلى “التأمل”:
نقتصر هنا على سببٍ واحد من الأسباب التي تجعل الطالبُ كثيرَ “التأمّل” -وإلا فالأسباب كثيرة- ولكن بعد التأمّل حسبتُ أنَّ من أعظم الأسباب: أن يكونَ عند المسلم -عامّةً-، وطالب العلم -خاصّةً- همٌّ يُريد أن ينجزَه لخدمة دينه وأمّته، فمن كان عنده هذا الهمُّ؛ فقد اجتمعت لديه أسبابُ “التأمُّل”؛ لأنّه يتأمَّل ما يحتاجُه أهلُ بيته من المعرفة، وما يحتاجه مجتمعُه، وما تحتاجه أمّتُه، فتراه لا يفتر عن “التأمّل”، حتى إذا كان على فراشه تجده مصطحبًا التأمّل، ولا ريبَ أنَّك كلّما تأملت في أمرٍ؛ استنتجتَ شيئًا، فمِن المستحسن أن يكونَ بجوارك (كُنَّاش) تقيّد فيه هذه الفوائد، ثم تعرضها على أهل الاختصاص لتصويبها، حتى تجتمعَ عندك ملكة “التأمل” والاستنباط.
فمن الناس: من يعسر عليه عنوانٌ عند التأليف، فلا يخطر بباله العنوانَ المناسبَ إلا على فراشه؛ لأنَّه مصطحبٌ “التأمّل”، ومنهم: من يُريد تهذيبَ كتابٍ، فلا تخطر بباله الطريقةُ المثلى إلا وهو في طريق، أو أثناء عملِه، وهكذا، فهذه أمثلةٌ عابرة، وإلا فالهِمم أكبرُ ممّا ذكر.
وفي الختام: فإنَّ من التأمّل قد جاء هذا المقال عن “التأمل”، وهو من الأهميّة بمكان، فحريٌّ بطالبِ العلم أن يصحبَه.
هذا وأسألُ اللهَ تعالى التوفيقَ لي ولكم، والعونَ على مرضاته، إنّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، وصلّى الله على محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المصدر: موقع “أثارة”)