مقالاتمقالات مختارة

آيا صوفيا.. الجدل الحاضر الغائب في تركيا

آيا صوفيا.. الجدل الحاضر الغائب في تركيا

بقلم أحمد درويش

بادئ ذي بدأ أود أن أؤكد أن الجدلية التي تدور من وقت لآخر حول حقيقة آيا صوفيا لهي ظاهرة تؤكد أن أمة الإسلام ما زلت حية تنبض تعتز بفتوحاتها وتراثها وحضارتها العريقة، فهي في نهاية المطاف أمة تغار وتغضب من محاولات طمس شيء من هويتها سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد، ولكم هو شعور جميل أن تجد أمة عزيزة كهذه يسعى أبناؤها إلى التمسك بجزء أصيل من ميراثها، ولكن لكي نسلط الضوء بشيء من الإنصاف وعدم الانحياز لطرف على حساب آخر فسوف نناقش معًا كل الأطروحات الواردة في هذا الشأن بمزيد بيان وتفصيل؛ لتقريب وجهات النظر.

كنيسة آيا صوفيا

كانت تعرف قبل الفتح الإسلامي للقسطنطينية بكنيسة “الحكمة المقدسة” تم بنائها في القرن السادس الميلادي في عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول، وهي من أهم المباني التابعة للحضارة البيزنطية، كما أنها واحدة من أعظم الآثار في تركيا والعالم، تم بنائها في وقت قصير جدًا في ستة أعوام وتم الانتهاء من بنائها عام 537م.

قبلها كانت توجد كنيسة أمر ببنائها الإمبراطور قسطنطين الأول تم بنائها عام 325م على بقايا معبد وثني كانت النيران قد أتلفتها بعد الفوضى التي حدثت بعد نفي القديس يوحنا، وأعيد بنائها ثانية في عهد الإمبراطور قنسطنس وتم هدم المبنى بعد ذلك على يد ثيودوسيوس الثاني عام 415م، وأحرقت الكنسية بالكامل عام 532م فقام الإمبراطور جستينيان باستبدالها، وبعد ذلك تسبب الزلزال في حدوث انهيار بعد بنائها بمدة صغيرة، فتم ترميمها في منتصف القرن الرابع عشر وظلت الكاتدرائية تمثل البطريركية في القسطنطينية حتى تم نهبها عام 1204م من قبل الصليبيون.

فقام المهندس المعماري أنثيمياس أوف تريلز مع المهندس إزيدورس أوف ميليتس بترميمها، وكانا قد اشتهرا بمعرفتهما بعلم الرياضيات والميكانيكا، فجمع المبنى بين شكل الكنسية والكاتدرائية الطولية ومبنى مركزي لها قبة رئيسية ضخمة يبلع ارتفاعها 32 متر ونصف قبة على اليمين واليسار، ولها مبنى مربع الشكل وتحتوي على ثلاث ممرات ويعلوها الدعامات الرخامية وبها الأروقة ويفصلها الأعمدة ويوجد شرفات أعلى الجدران.

https://youtu.be/2dso13K0PnI

مسجد آيا صوفيا

ظلت آيا صوفيا تمثل الكنسية الرسمية للدولة المسيحية البيزنطية وجوهرة عاصمتها القسطنطينية رغم تهدمها واحتراقها أكثر من مرة طوال 900 عام إلى أن فتح السلطان العثماني محمد الفاتح المدينة عام 1453 فغير اسمها إلى “إسطنبول”، ودخل هذه الكنيسة فقام بأداء أول صلاة له فيها وهي ركعتين شكر لله وصلى فيها أول صلاة جمعة بعد الفتح، وأمر بتحويل الكنيسة إلى مسجد خلال ثلاثة أيام، وجعلها مسجدًا كبيرًا يرمز في الاتجاه المعاكس لقوة الدولة العثمانية وسيطرتها.

وقد كان ذلك لحاجة المسلمين لأداء الصلاة الجماعية في منطقة كانت تخلو تمامًا من المساجد والجوامع، مع الظروف الطبيعية للمدينة من الطقس البارد، أدت هذه الظروف لإصدار فتوى من علماء الإفتاء في الدولة العثمانية تجيز تحويل الكنيسة لمسجد والاستفادة منها بدلًا من تركها على حالها المهجور.

بعد الفتح الإسلامي لمدينة القسطنطينية بقيادة السلطان الفاتح “محمد الفاتح” قام بتحويل كنيسة آيا صوفيا لمسجد وأضاف لها المحارب والمئذنة الخشبية والثرايا الكبيرة والمنبر، وقام بعده ابنه بايزيد الثاني بنصب المئذنة البيضاء شرق المسجد، وفي عهد السلطان سليم الثاني ومراد الثالث قام المهندس المعماري سنان ببناء المئذنتان المتطابقتان بالجهة الغربية.

وأمر الفاتح بإزالة الصليب من أعلى القبة، ومن الأماكن البارزة، واضيف للمبنى مآذن من الخارج، وتركت الزخارف والنقوش المسيحية على الجدران والسقف دون تغير حتى يومنا هذا، لكن المسلمون قد وضعوا غطاءً فوق هذه الصور دون إزالتها، وكُشف عنها بعد ذلك عندما أصبحت متحفًا، وقد ظل آيا صوفيا مسجدًا من أعظم مساجد المسلمين طوال خمسة قرون متتالية؟

متحف آيا صوفيا

جاء مصطفى كمال أتاتورك وقام بإعلان انتهاء حكم الخلافة العثمانية عام 1923 وأعلن قيام جمهورية علمانية بدلًا عنها، وكانت أبرز سمات تلك الجمهورية العلمانية الجديدة هي منع إقامة الشعائر الدينية في مسجد آيا صوفيا عام 1931، ثم حوله أتاتورك بقرار سياسي في عام 1935 إلى متحف فني يضم كنوزًا أثرية إسلامية ومسيحية، وتُعد الفسيفساء الموجودة في المدخل أيقونة للعمارة الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتم ضم آيا صوفيا لمناطق التراث الإنساني العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو.

   

نداءات وجماعات

ظهرت نداءات تطالب بعودة متحف آيا صوفيا لمسجد ولكنيسة مرة أخرى، من كل من المسيحيين والمسلمين لإقامة الصلاة فيه وممارسة الشعائر الدينية به بشكل رسمي، وكانت تُقابل تلك النداءات بالرفض من قبل الحكومة دائمًا، في منتصف الثمانينات ظهرت مجموعة دينية من الشباب في إسطنبول تقوم بوقفات اعتراض أمام المتحف، مطالبة الحكومة التركية بإعادة الصلاة فيه، لكن قوات الأمن كانت تعتقل بعض أفراد هذه المجموعة، وقد سبق وأعلن البروفيسور التركي نجم الدين أربكان أكثر من مرة خلال الحملات الانتخابية التي أجريت عام 1989 عن نيته إعادة فتح المسجد للصلاة حال فوزه بأغلبية المقاعد البرلمانية.

عبادات موسمية

مع توالي المطالب بإعادة أيا صوفيا مسجدًا؛ سمحت حكومة حزب العدالة والتنمية بفتح مسجد في الجزء الخلفي من المبنى، وكلفت أجمل مؤذني إسطنبول أصواتًا برفع الآذان من مبنى يقع في ساحة “آيا صوفيا”، ليتردد الآذان عبر مكبرات الصوت في مآذنه، ثم أصدرت رئاسة الشئون الدينية التركية في يونيو 2016 قرارًا بتلاوة القرآن يوميًا في آيا صوفيا خلال شهر رمضان المبارك لسنة 1437 هجرية، وأطلقت من داخله برنامجًا دينيًا خاصًا بليلة القدر بعنوان “خير من ألف شهر”، رفع في نهايته المؤذن التركي الشيخ فاتح قوجا الآذان من نفس الموقع الذي رُفع منه آخر مرة بآيا صوفيا قبل 85 عامًا، وهي مدة تساوي تقريبًا “ألف شهر”.

وقد انتقدت دولة اليونان هذه الخطوات ورأت أن “التصرف التركي يصل إلى حدود التعصب الديني، ويُظهر انفصامًا عن الواقع، وأن هذه التصرفات ليست متوافقة مع المجتمعات الديمقراطية والعلمانية، وتمثل إهانة لمشاعر الملايين من المسيحيين.

اعتراض مرفوض

رأى الصحفي اليوناني مانوليس كوستيذيس أنه لا يحق لليونانيين الاعتراض على قراءة القرآن في أيا صوفيا بعدما هدموا الكثير من الآثار العثمانية التي بقيت في بلادهم، وأساؤوا استخدام آثار أخرى، لدرجة أن أحد مساجد مدينة سالونيك تحوّل لصالة سينما تعرض الأفلام الإباحية، مع العلم أنه هو نفسه الصحفي الذي هاجم تعامل أردوغان مع هذه المسألة في تصريحات أخرى، وقال كوستيذيس في مقالة نشرها موقع “بروتاغون” اليوناني: “إنه عندما تهدم مساجد وتحوّل أخرى إلى صالات لعرض أفلام إباحية، فيجب أن تكون أكثر انتباهًا عندما تطلب من غيرك احترام الآثار”.

والجدير بالذكر أن العاصمة اليونانية أثينا هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي كان لا يوجد بها مسجد، وبعد مماطلات كثيرة سمحت الحكومة اليونانية بافتتاح أول مسجد للمسلمين على أرضها منذ أشهر قليلة منتصف هذا العام ولكنه لا يحتوي على مئذنة واحدة، وعلى الرغم من وجود مساجد في أماكن أخرى من اليونان فإن العاصمة لم يشيد فيها مسجد رسمي منذ انتهاء الحقبة العثمانية في عام 1833، في حين استخدمت بنايات المساجد القليلة التي بقيت من ذلك العهد في أغراض أخرى غير العبادة والصلاة.

الأجندة السياسية

وعد الرئيس التركي أردوغان بإعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد في حال فوز مرشح حزب العدالة والتنمية في انتخابات بلدية إسطنبول يلدريم، وهو ما لم يحدث، وبالتالي فإنه من غير المستبعد إعادة طرح هذه القضية مرة أخرى في أقرب استحقاق انتخابي سوف تشهده الساحة التركية.

نقاش هادئ

إذا كان المطالبون بإعادة آيا صوفيا كنيسة إلى سابق عهدها يحتجون بحجة أنها البناء الأصلي للمكان، فإن حجتهم هذه باطلة؛ لأنها قامت على أنقاض معبد وثني، وبالتالي فإن الوثنيين هنا هم الأولى بهذه المطالبة من غيرهم، ولو كانت حجتهم في ذلك أنهم أكثر من سيطروا وتحكموا بهذا البناء من حيث عدد السنوات، فإن حجتهم غير منطقية؛ لأن معيار القوة الذي حافظ على بقاء البناء طوال هذه السنوات تحت حكم حضارتهم البيزنطية، قد زال مع زوال الكفر يوم أن دخلها الفاتح عزيزًا منتصرًا شامخ الرأس قوي المعصم متسلحًا بالعلم والإيمان بجانب قوة السيف والسلطان، كما أن الحدود التي يقع بها البناء الآن هي ضمن دولة تعيش بالإسلام ويرتفع الآذان على أرضها، ويجب احترام حدودها وسيادتها وإلا فإن المعترض على ذلك يعترض أيضًا بشكل ضمني على حدود سايكس بيكو، وهو ما لا تقبله القواعد الديمقراطية الحديثة بالطبع.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى